في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
برحيل المصوّرة الصحفية مريم أبو دقّة في قصف إسرائيلي استهدف مجمّع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة ، فقدت غزة عدسة استثنائية تميزت بشجاعة نادرة وكانت مرآة تعكس الواقع على الأرض وتلاحق الحقيقة حتى اللحظة الأخيرة.
مكالمتها الأخيرة مع زميلها في صحيفة "إندبندنت عربية" عز الدين أبو عيشة لم تكن عابرة؛ كانت وصية مكتملة الأركان: "واصل التغطية، كن صوت الناس". وبعد ساعات فقط، تحققت نبوءتها التي طالما ردّدتها "يوما ما ستسقط الكاميرا من يدي".
استشهدت المصورة الصحفية مريم أبو دقّة، مراسلة إندبندنت عربية في غزة، يوم 25 أغسطس/آب 2025، إثر قصف إسرائيلي استهدف مبنى الطوارئ في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، تاركة وراءها إرث 5 سنوات من العمل الصحفي الميداني الذي امتزج فيه الإبداع بالتضحية.
وكتب أبو عيشة زميلها في إندبندنت عربية -النسخة العربية والإلكترونية من صحيفة "إندبندنت" البريطانية الرقمية- تقريرا روى فيه تجربته المهنية مع مريم واللحظات التي سبقت استشهادها في صبيحة أول أمس.
يحكي أبو عيشة أن مريم اتصلت به عند الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم، لتسأله إن كان يحتاج صورا لتقاريره، قبل أن تنصحه على عجل قائلة "اعتنِ بنفسك، وكن صوت المجتمع"، ثم تضيف جملة غامضة "أتمنى أن تسامحني".
وبعد 4 ساعات، تلقى اتصالا من زملاء له في خان يونس ليخبروه بأن المجمع الطبي تعرض للقصف. "توقف قلبي فورا، وسألتهم: أين مريم؟"، فأجابوه بأنها أصيبت "وربما تكون استشهدت".
يقول أبو عيشة إنه اتصل عشرات المرات ليستفسر عن آخر الأخبار إلا أنه لم يتلق أي رد، فكان أن تواصل مباشرة مع شقيقها صادق الذي أكد له أن "مريم رحلت".
يضيف "أصابني الخبر بصدمة عنيفة. انهمرت دموعي بلا توقف، وخرس لساني. انتهت المكالمة وتجمدت في مكاني".
كانت مريم مدركة تماما أنها قد تسقط شهيدة في هذه الحرب، فقد قالت لزميلها: "يوما ما ستسقط الكاميرا من يدي في هذه الحرب". وتحقق لها ذلك؛ فقد استشهدت وهي توثق الغارات الإسرائيلية.
تعرّف أبو عيشة على مريم في عام 2020 حين كانت تعمل مصوّرة مستقلة، وشكّلا معا ثنائيا صحفيا بارزا؛ هو يكتب التقارير والقصص الإنسانية، وهي تزوّده بصور ومقاطع تعبر ببلاغة تفوق الكلمات.
أول مهمة جمعت بينهما كانت تصوير مزارع الورد في مدينة رفح ، عندما منعت إسرائيل مزارعا من تصدير أزهاره فاضطر إلى إطعامها للأغنام، وأرسلت مريم حينئذ الصور بسرعة ودقّة أبهرت زميلها، فكانت تلك البداية لشراكة مهنية طويلة.
يقول أبو عيشة: "مرت سنوات عملنا معا بسرعة، وكانت خلالها مثالية في الالتزام. كلما طلبت منها صورا أوصلتها في وقت قياسي. لم ترفض أي مهمة، وكانت تردد دوما: التصوير ليس عملي، بل رسالتي".
ويشير إلى أن أكثر ما أعجبه في زميلته الراحلة أخلاقها المهنية، فقد كانت تستيقظ من نومها مبكرا لتبدأ عملها حتى قبل اندلاع الحرب.
ويمضي في ذكر مآثرها قائلا إنها كانت "نشيطة ومخلصة وذات مهارة عالية"، مضيفا أن ما ميّز مريم أيضا فضولها الكبير، "فقد كانت تبحث عن القصص في الشوارع، بين الأزقة الضيقة، وفي المستشفيات، وحتى من خلال الأحاديث العابرة مع الناس".
وتابع أنها "لم تحب يوما تقليد الآخرين، وكانت تقترب دوما من موضوعات صورها بشغف إنساني صادق".
ورغم خطورة العمل الميداني في قطاع غزة، لم تتراجع مريم يوما. يقول أبو عيشة إنه كان ينصحها بتوخي الحذر وتجنب المخاطر، لكنها كانت تجيبه دوما بطريقتها الخاصة: "قد أكون ضحية في هذه الحرب، لكن لا تقلق عليّ. واصل مهمتنا، لا تتوقف، كن صوت الناس".
ووصفها زميلها عز الدين أبو عيشة في تقريره بأنها لم تكن مجرد صحفية، بل كانت محاربة تحمل كاميرا، وعاشت الحرب متنقلة بين البيوت المدمرة والمستشفيات المزدحمة ومخيمات النزوح، تسجل ما لا يريد الاحتلال أن يُسجَّل.
"لقد اعتبرت نفسها عين العالم التي تشهد على حرب غزة"، وهكذا كان يعتبرها أبو عيشة الذي اختتم تقريره بنبرة حزينة، مؤكدا أن قصتها تذكره بأن الحرية ثمنها غالٍ، وأن الرسالة الصحفية تتطلب تضحية، وأن الصحافة في غزة ليست مجرد مهنة، بل صوت وذاكرة وتاريخ.