آخر الأخبار

سياحة الموت.. عندما تصبح المساعدة على الانتحار خدمة طبية

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في أوروبا، يتحول ما يطلقون عليه "الموت الرحيم" من مسألة طبية وأخلاقية معقدة إلى ظاهرة عابرة للحدود، حيث يسافر بعض الأفراد من دول تمنعه إلى أخرى تسمح به.

ويكمن خلف هذه القرارات معاناة جسدية أو نفسية عميقة، وإجراءات قانونية دقيقة، في مشهد يثير جدلاً واسعا حول حدود الحرية الفردية ودور الطب في إنهاء الحياة.

مصدر الصورة تطبيق إجراء "الموت الرحيم" بعدد من الدول الأوروبية يثير جدلا أخلاقيا وطبيا (شترستوك)

لماذا يختار الأوروبيون إنهاء حياتهم طواعية؟

في القارة العجوز، تتوزع أسباب طلب "الموت الرحيم" بين أمراض عضوية مزمنة وأخرى نفسية. فعلى سبيل المثال، حسب تقرير لجنة "المراجعة الإقليمية للموت الرحيم" في هولندا لعام 2024، شهدت البلاد تنفيذ 9958 حالة، بزيادة تقارب 10% مقارنة بالعام السابق، وتمثل هذه الحالات نحو 5.8% من إجمالي الوفيات المسجلة.

ويوضح التقرير أن 86% من هذه الحالات كانت بسبب أمراض عضوية مثل السرطان وأمراض القلب واضطرابات الجهاز العصبي التنكسية، بينما شهدت الطلبات المرتبطة بمعاناة نفسية أو اجتماعية ارتفاعًا ملحوظًا، مما يعكس تنوعًا متزايدًا في دوافع الأفراد لاختيار هذا القرار.

وقد سجل التقرير 427 حالة لأشخاص مصابين بالخرف، وهو ما يبرز حجم معاناة المرضى من أمراض تنكسية تؤثر على جودة الحياة وتدفعهم لطلب إنهاء حياتهم طوعًا، بينما سجل 219 حالة مرتبطة باضطرابات نفسية بحتة، بزيادة عن 138 حالة عام 2023، مما يعكس تزايد الضغوط النفسية كعامل مؤثر في اتخاذ قرار "الموت الرحيم".

كما وثق التقرير 397 حالة لأشخاص يعانون من متلازمات الشيخوخة، تشمل ضعف السمع والهشاشة، و232 حالة لأسباب متنوعة مثل الآلام المزمنة أو إعاقات جسدية طويلة الأمد.

أما في النظر إلى الفئات العمرية، فتظهر الأرقام أن أكبر عدد من الحالات كان في عمر بين 70 و79 سنة، بعدد 3284 حالة، تليها الفئة 80-89 سنة بعدد 2980 حالة، ثم الفئة 60-69 سنة بعدد 1731 حالة.

إعلان

وفي المقابل، سجل التقرير 2023 حالة بين من تجاوزوا التسعين، و663 حالة للفئة بين 50 و59 سنة، بينما كان عدد الحالات في الأربعينيات 202، وفي الثلاثينيات 78، وأخير 45 حالة لأقل من 30 سنة.

وبالنسبة للقُصّر الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عامًا، تم تسجيل 3 حالات فقط، جميعها تعود لمعاناة جسدية مستعصية، وتمت الموافقة على طلباتهم وفق شروط قانونية صارمة شملت استشارات طبية وقانونية مستقلة لضمان اتخاذ القرار بإرادة حرة ومسؤولة.

مصدر الصورة أسباب طلب "الموت الرحيم" تتنوع بين أمراض عضوية مزمنة وأخرى نفسية (شترستوك)

هل الموت الرحيم إجراء متحكم به؟

ورغم الإشراف الدقيق والرقابة المستمرة، وثق التقرير 6 حالات لم يلتزم فيها مقدمو الخدمة الطبية بمعايير "العناية الواجبة" التي تنص على ضرورة إجراء تقييم طبي مستقل والتأكد من حرية قرار المريض واستقراره، بالإضافة إلى الالتزام بإجراءات التخدير الصحيحة.

وتتجاوز معاناة المرضى في هولندا الأعراض الجسدية، إذ تشمل أيضًا الضغوط النفسية والاجتماعية، مثل الوحدة، وفقدان الاستقلالية، والإحساس بعدم الفائدة، مما يدفع البعض إلى خيار "الموت الرحيم" كملاذ أخير. ويُظهر التقرير أن الجانبين النفسي والاجتماعي باتا يمثلان أحد الدوافع الرئيسية إلى جانب الألم الجسدي المستمر.

ويشير النظام القانوني الهولندي إلى أن "الموت الرحيم" خيار أخير يتم اللجوء إليه بعد استنفاد جميع بدائل العلاج الطبية والنفسية والاجتماعية. ولا يتم قبول أي طلب إلا بعد تقييم شامل من قبل أطباء مستقلين، وتأكيد عدم وجود حلول بديلة لتخفيف المعاناة.

وتتباين الحالات أيضًا بحسب نوع المرض وشدته، فقد شهد عام 2024 زيادة في الحالات المتعلقة بالخرف، الأمر الذي أثار نقاشًا مجتمعيًا وأخلاقيًا حول مدى أهلية المرضى الذين يعانون من فقدان الذاكرة أو الإدراك للموافقة على "الموت الرحيم".

وتوضح البيانات أن نحو 2.2% من حالات "الموت الرحيم" في هولندا لعام 2024 كانت لأسباب نفسية، وهو ارتفاع عن 1.4% في العام السابق. وتشير هذه الأرقام إلى توسيع النقاش القانوني والاجتماعي حول قبول الألم النفسي كسبب مشروع لإنهاء الحياة طوعًا.

ويبرز التقرير التزام النظام الطبي بضمان أن المرضى ليسوا تحت ضغط اجتماعي أو عائلي لاتخاذ القرار. إذ يُطلب من الأطباء التأكد من أن المريض حر تمامًا في قراره، ويخضع لتقييمات مستقلة تشمل الطب النفسي، للتمييز بين رغبة حقيقية وثغرات نفسية مؤقتة.

ونهاية 2024، بلغت نسبة حالات رفض الطلبات حوالي 3% من إجمالي الطلبات المقدمة، وغالبًا بسبب عدم استيفاء شروط المعاناة أو عدم وضوح قرار المريض، مما يدل على صرامة المراجعة القانونية والطبية.

وفي المحصلة، يوضح تقرير اللجنة الإقليمية لمراجعة "الموت الرحيم" أن خيار إنهاء الحياة طواعية في هولندا ليس قرارًا سهلاً أو مفتوحًا للجميع، بل يخضع لإجراءات وقوانين صارمة تحمي حقوق المريض وتوازن بين الحرية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية.

مصدر الصورة "الموت الرحيم" يخضع لإجراءات وقوانين صارمة (شترستوك)

السياحة الانتحارية

في أوروبا، لا تسمح معظم الدول بإجراءات "الموت الرحيم" أو الانتحار بمساعدة طبية، مما دفع عددًا متزايدًا من المواطنين إلى السفر لدول مجاورة تتيح لهم ذلك قانونيًا، وتعرف هذه الظاهرة بـ"السياحة الانتحارية" وهي واقعة تُظهر فجوة قانونية وأخلاقية في القارة.

إعلان

وحسب تقرير مجلة "ذا لانسيت" للصحة الإقليمية بأوروبا، الصادر في أبريل/نيسان 2025، سافر أكثر من 1400 أوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية إلى سويسرا وحدها بغرض الحصول على "المساعدة على الانتحار".

وجاء معظم هؤلاء من دول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، حيث لا تسمح القوانين المحلية بتطبيق "الموت الرحيم" إذ يرجع العديد من المسافرين دوافعهم إلى معاناة نفسية شديدة أو أمراض مزمنة مستعصية، بالإضافة إلى شعور بالعزلة أو عدم وجود دعم اجتماعي كافٍ في بلدانهم.

وتفرض الدول التي تستقبل السياح الانتحاريين -مثل سويسرا- إجراءات صارمة لقبول هذه الطلبات. وعلى سبيل المثال، تلزم المادة 115 من القانون الجنائي السويسري مقدم الطلب بتقديم طلب خطي يثبت استقراره العقلي، وعدم وجود علاج بديل، إضافة إلى خضوعه لفحص طبي دقيق. كما يُشترط أن يكون القرار طوعيًا بعيدًا عن أي ضغط خارجي.

وتثير هذه الظاهرة انتقادات من منظمات حقوقية أوروبية، مثل معهد أوروبا للأخلاقيات الحيوية في بروكسل الذي حذر في بيان صدر عنه في مايو/أيار 2025 من أن "السياحة الانتحارية تحول المسؤولية الأخلاقية إلى دول أخرى، مما يعكس فشلًا في التعامل الداخلي مع قضايا الموت الرحيم".

وقد وثق تقرير مشترك -صادر عن منظمة العفو الدولية ومؤسسة "أوبن دايولوج" البولندية في مارس/آذار 2025- شهادات لأوروبيين سافروا إلى سويسرا بعد رفض طلباتهم داخل بلادهم الأصلية. وأشار بعضهم إلى أن الإجراءات في سويسرا رغم صرامتها فإنها توفر إطارًا قانونيًا يعترف بمعاناتهم، على عكس بلدهم حيث يشعرون بأن معاناتهم يتم تهميشها أو تجاهلها.

وفي الوقت نفسه، هناك محاولات تشريعية في بعض الدول الأوروبية لمراجعة قوانين المساعدة على الموت في الخارج. ففي فرنسا، أُثير جدل واسع بعد تقديم مذكرة برلمانية في أبريل/نيسان 2025 تدعو إلى تنظيم تشريع "الحق في المساعدة على الموت".

نموذج سويسرا

خلال عام 2024، سجّلت منظمة إكزيت السويسرية الناطقة بالألمانية، وهي من أبرز الجمعيات السويسرية المختصة بالمساعدة على الانتحار (الموت الرحيم) تنفيذ 1134 حالة انتحار بمساعدة طبية داخل سويسرا.

ويشكل المواطنون الأوروبيون غير المقيمين حوالي 23% من هذه الحالات، إذ تتركز الحالات غالبًا على أشخاص يعانون من أمراض عصبية متقدمة، أو آلام مزمنة لا تُحتمل، أو اضطرابات نفسية مستمرة.

ولا يجيز القانون السويسري "الموت الرحيم" بالمفهوم التقليدي، لكنه يسمح بـ"المساعدة على الانتحار" بشرط ألا يكون الدافع أنانيًا، وألا يتلقى المساعد أي منفعة مالية. وتوضح المادة 115 من القانون الجنائي أن تقديم المساعدة على الانتحار قانوني بشرط الالتزام بهذه الضوابط.

وتبدأ الإجراءات بطلب مكتوب من المريض، يتضمن تقارير طبية حديثة تثبت معاناته المستمرة وغير القابلة للعلاج. ويلي ذلك تقييم نفسي مستقل للتأكد من أن القرار نابع من إرادة حرة، وليس نتيجة ضغط أو حالة اكتئاب مؤقتة.

ووفقًا لتقرير المعهد السويسري للأخلاقيات الطبية الصادر في مارس/آذار 2025، تم رفض حوالي 28% من الطلبات المقدمة من أوروبيين (غير سويسريين) خلال 2024، بسبب عدم كفاية الأدلة الطبية أو عدم اقتناع الخبراء بوجود معاناة لا تطاق.

نشاط حقوقي ضد "الموت الرحيم"

تعتبر المنظمات المناهضة للمساعدة على الانتحار نشطة جدا في سويسرا، فقد أصدرت منظمة ديغنيتاس ووتش تقريرًا في مايو/أيار 2025 بعنوان "حدود الحق في الموت" حذرت فيه من أن ارتفاع طلبات الأجانب قد يحول سويسرا إلى "وجهة للموت" معربة عن قلقها من أن يتجه المجتمع نحو تطبيع إنهاء الحياة كخيار أول، بدلاً من تعزيز الرعاية النفسية والاجتماعية.

ولا يقتصر الجدل على المنظمات الحقوقية فقط، بل يشمل الأوساط الطبية. ففي بيان للرابطة الطبية السويسرية صدر في يناير/كانون الثاني 2025، أكدت الرابطة أن المساعدة على الانتحار يجب أن تظل "حالة استثنائية" وأن على الدولة توفير خدمات الطب التلطيفي والدعم النفسي قبل الموافقة على أي طلب.

إعلان

وتشير البيانات الرسمية للمكتب الفدرالي للإحصاء بسويسرا -في أبريل/نيسان 2025- إلى ارتفاع بنسبة 7% في حالات المساعدة على الانتحار بين عامي 2023 و2024.

وتظل قضية "الموت الرحيم" في أوروبا انعكاسًا لتوازن هش بين حرية الاختيار ومعايير الأخلاق والقانون. ويعكس تزايد الطلبات معاناة حقيقية، مما يستدعي استمرار النقاش والتشريع المسؤول لضمان حقوق الأفراد مع حماية المجتمع والقيم الإنسانية.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا