هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
سوريا لا تنهار، لكنها تنجرف نحو حالة مطولة من الخلل المُدار. تحولت الأزمة من صراع مفتوح إلى ركود مؤسساتي. يكشف وقف إطلاق النار الأخير في السويداء عن تحول أعمق: تآكل الوساطة الداخلية، وصعود التحكيم الأجنبي، وتفتت الهوية الوطنية. إذا استمر هذا الزخم، فلن تكون سوريا بعد الآن تحت الحكم، بل تحت التفاوض.
فقدت الدولة السورية قدرتها على التوسط في النزاعات الداخلية. لم تُصوَّر المواجهة في السويداء على أنها تمرد، بل عوملت كصراع بين كيانات متعارضة تعمل ضمن منطقة واحدة. لم يتولَّ النظام قيادة الحل، بل استجاب لشيوخ محليين ووسطاء خارجيين. وهذا يُشير إلى انهيار في الخطاب السياسي للدولة وشرعيتها.
ضعفت آليات الوساطة الداخلية. لم تعد الحكومة تُمثل الجميع، بل تتفاوض مع الفصائل. السلطة مُعتمدة على بعضها، والحوكمة قائمة على التبادل. تحول دور الدولة من وسيط إلى مشارك.
تم التوصل إلى وقف إطلاق النار في السويداء بوساطة خارجية. هذا ليس تفصيلًا فنيًا، بل يُمثل تحولًا هيكليًا. عندما تعتمد حكومة مركزية على جهات خارجية لحل نزاعاتها مع مواطنيها، تُصبح السيادة مُسندة إلى جهات خارجية من الناحية العملية.
يعكس هذا الترتيب اتجاهًا أوسع. تُدار سوريا بشكل متزايد من خلال التنسيق الدولي بدلًا من الحوكمة المحلية. ويتلاشى الخط الفاصل بين الاستقرار الداخلي والسياسة الخارجية. فالجهات الفاعلة الخارجية تُشكل الآن النتائج الداخلية. ولا تبدو سوريا طرفًا فاعلًا ذا سيادة.
يُعدّ تدخّل إسرائيل في السويداء ذا دلالة خاصة. فقد تواصل قادة دروز وشخصيات مرتبطة بالنظام مع قنوات إسرائيلية. وهذا يُكسر الحدود الأيديولوجية السابقة. لم يعد يُنظر إلى إسرائيل كخصم فحسب، بل أصبحت الآن طرفًا فاعلًا في الديناميكيات الداخلية السورية.
هذا التحول عملي، لكن له تداعياته المهمة. فهو يُظهر ضعف الخطابات السياسية الراسخة. فالاستقرار يُقدّر أكثر من السيادة. وتُحلّ الإجراءات التكتيكية محل التخطيط الاستراتيجي. ويُشير تطبيع التدخل الإسرائيلي في الشؤون الداخلية السورية إلى تحوّل في الخطوط الحمراء الإقليمية.
لم يدّعِ أي حزب في السويداء تمثيلَ الوطن بأكمله. لم تكن هناك رسالة جامعة أو إطار جامع. إن غياب خطاب وطني يكشف عن انقسام أعمق.
كل طرف يتحدث باسم جمهوره. يعمل النظام والمجتمعات المحلية والجماعات المسلحة بالتوازي. وتتعرض فكرة سوريا كمشروع سياسي واحد لضغوط شديدة. فبدون سردية مشتركة، تصبح المصالحة إجرائية لا تحويلية. ولا يقتصر الخطر على التشرذم الإقليمي فحسب، بل يمتد إلى انهيار الهوية الوطنية المتماسكة.
يعمل النظام بشكل متزايد كطرف واحد من بين أطراف عديدة. ويحافظ على نفوذه من خلال التفاوض والإكراه والدعم الخارجي. هذا ليس حكمًا مركزيًا، بل سيادة هجينة.
في اللاذقية، تنسق الأجهزة الأمنية مع الميليشيات. في الشمال الشرقي، تحكم قوات سوريا الديمقراطية ( SDF ) بشكل مستقل. في السويداء، تتوسط الولايات المتحدة وإسرائيل في الصراع. سلطة الحكومة متذبذبة، وغالبًا ما تكون غير رسمية. المؤسسات المدنية ضعيفة. منظمات مثل الهلال الأحمر العربي السوري تُعتبر امتدادًا لنفوذ النظام. الإصلاحات سطحية، والمساءلة غائبة.
قد يوفر هذا النموذج استقرارًا على المدى القصير، إلا أنه يفتقر إلى أسس مؤسسية متينة. وهو يُخاطر بتعميق الانقسام وتقويض الوحدة الوطنية. إن اعتبار أي تسوية إقليمية مُدارة أمرًا إيجابيًا قد يُشكل خطرًا على مستقبل سوريا.
لقد تكيفت القوى الأجنبية مع الواقع السوري الجديد. إسرائيل تُنفذ ضربات مُحددة. تركيا تُعطي الأولوية لأمن الحدود ومكافحة الإرهاب. الأردن يُسهّل الحوار. دول الخليج تُقدّم استثمارات مُنتقاة. الولايات المتحدة تدعم "قوات سوريا الديمقراطية" مُتجنبةً أي تدخل أوسع. أوروبا تسعى جاهدةً لإثبات وجودها دون تقديم مساهمة ملموسة.
هؤلاء الفاعلون لا يسعون إلى حل، بل يُديرون المخاطر. لم تعد سوريا تُعتبر شريكًا ذا سيادة، بل تُعتبر مشكلةً يجب احتواؤها. هذا الموقف الاستراتيجي يُديم الركود الداخلي. المشاركة الخارجية تكتيكية، وليست تحويلية.
تتبنى الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، موقفًا من الغموض الاستراتيجي. فهي توازن بين دعمها لقوات سوريا الديمقراطية وعلاقتها بتركيا. وتتجنب أي تدخل أعمق قد يُشكك في شرعية النظام أو يُوحي بخطة لما بعد الصراع. لم تعد سوريا محور الاهتمام، بل يُنظر إليها على أنها عبء.
تتجه سوريا نحو نموذج إدارة الأزمات الدائمة. تتجنب الأطراف الخارجية التصعيد، بينما تسعى الأطراف الداخلية لتحقيق مكاسب ضيقة. لا توجد أجندة إصلاحية، ولا خارطة طريق وطنية.
هذا الانحراف ليس ضارًا. إنه يُسهّل الخلل، ويُؤخّر المساءلة، ويُضعف أسس التعافي. تُخاطر سوريا بأن تصبح ساحةً لمفاوضاتٍ غير محددة الأجل، حيث يُساء فهم غياب الحرب على أنه استقرار، وتُخفي الترتيبات التكتيكية غياب الحوكمة.
تواجه إدارة الرئيس الشرع منعطفًا حرجًا. فالنوايا الحسنة التي أحاطت بتعيينه تتلاشى. سوريا بحاجة إلى أكثر من مجرد وقف إطلاق نار واتفاقات رمزية. إنها بحاجة إلى مؤسسات قادرة على الوساطة والتمثيل والإصلاح.
لا ينبغي اعتبار وقف إطلاق النار في السويداء نجاحًا، بل هو بمثابة تحذير يكشف عن حدود النهج الحالي. لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا من خلال الوساطة الخارجية والحكم المنقسم فحسب، بل يتطلب جهدًا وطنيًا متجذرًا في الشرعية والشمولية والتجديد المؤسسي.
ما الذي قد يكون أسوأ من عدم الاستقرار؟ الرضا عن النفس، إذ يسمح بالتشرذم، ويؤخر الإصلاح، ويهدد بتحويل سوريا إلى منطقة ركود مُسيطَر عليها.
يجب على المنطقة أن تُدرك أن تعافي سوريا لا يُمكن أن يُشكّل من الخارج. بل يجب أن يبدأ بالحوكمة الرشيدة. وأي شيء أقل من ذلك لن يُؤدي إلا إلى تفاقم حالة عدم اليقين وتشجيع المزيد من التدخل الخارجي.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.