في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في منتصف ستينيات القرن الماضي، وفي مدينة جنيف السويسرية، تفاوضت لجنة برعاية الأمم المتحدة على بنود " معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية " بهدف الحد من التوسع النووي عالميا.
وقتها، اعترف العالم بخمس دول نووية فقط، وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، و الاتحاد السوفياتي (روسيا)، والصين، وفرنسا والمملكة المتحدة، وتوافق العالم على منع توسيع هذا النادي الحصري. وفي مقابل ذلك، وفّرت الولايات المتحدة مظلتها النووية لحلفائها، لضمان أمنهم دون الحاجة إلى تطوير أسلحتهم النووية.
ورغم نجاح المعاهدة في الحد من الانتشار النووي، فقد ارتفع عدد أعضاء النادي الحصري للقوى النووية منذ ذلك الحين إلى تسع دول. ويُرجَّح أن إسرائيل كانت أول المنضمين الجدد إلى النادي النووي في أواخر الستينيات رغم عدم اعترافها بامتلاك أسلحة نووية حتى الآن، وتبعتها الهند في منتصف السبعينيات، ثم جارتها باكستان في التسعينيات، وجميعها دول لم تُوقِّع على معاهدة حظر الانتشار النووي. فيما تُعد كوريا الشمالية الدولة الوحيدة التي وقَّعت على المعاهدة وانسحبت منها عام 2003 قبل أن تُجري أول تجربة نووية عام 2006.
وإجمالا، يبلغ عدد الدول الموقِّعة على معاهدة حظر الانتشار النووي 191 دولة، بما في ذلك إيران، القوة التي طالما اتهمها خصومها بأنها تقف على أعتاب النادي النووي. لكن طهران -وبفرض صحة امتلاكها لطموحات نووية عسكرية- ليست بدعا من القوى الطامحة، حيث تشير تحذيرات المختصين إلى احتمال تضاعف عدد الدول التي تملك أسلحة نووية خلال العقدين المقبلين، في ظل تسارع وتيرة الزلازل الجيوسياسية وتآكل الثقة بالضمانات الأميركية والنظام العالمي الأوسع، ما يُعد تبشيرا بعصر جديد للانتشار النووي.
جاء هذا التحذير ضمن سلسلة مقالات تحليلية بعنوان "العصر النووي القادم" نشرها خبراء في اتحاد العلماء الأميركيين (Federation of American Scientists) في صحيفة "واشنطن بوست". في المقال الرابع في هذه السلسلة، يشير مدير فريق المخاطر العالمية في اتحاد العلماء الأميركيين، جون ولفستال، إلى جانب هانز كريستنسن ومات كوردا، وهما المدير والمدير المساعد لمشروع المعلومات النووية في الاتحاد نفسه، إلى أن العديد من القوى في العالم اليوم باتت تتطلع لامتلاك أسلحة نووية، وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما أسباب تزايد الشهية النووية عالميا؟ وما الدول القادرة على امتلاك السلاح النووي أو التي قد تسعى لامتلاكه في المستقبل القريب؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وعلى مدار ثمانين عاما تقريبا، سعت الولايات المتحدة للحد من انتشار الأسلحة النووية عبر الدبلوماسية والحوافز والاتفاقيات وحتى التدخل العسكري أحيانا، وحققت النجاح في ذلك باستثناءات قليلة. لكن التحولات الراهنة في السياسة الدولية تشير إلى أن ذلك النجاح ربما لا يستمر في المستقبل.
ويُحذّر خبراء اتحاد العلماء الأميركيين أن الهجوم الأميركي الأخير على البرنامج النووي الإيراني قد يدفع قادة البلاد إلى تسريع مشروعهم النووي، بدلا من أن يُنهيه كما تطمح الولايات المتحدة.
وحذّر الخبراء من أن مشهدا تشن فيه دولتان نوويتان، وهما الولايات المتحدة وإسرائيل، هجوما على دولة غير نووية كإيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، ربما يكون كفيلا بدفع عديد من الدول إلى إعادة النظر في خياراتها الدفاعية، والسعي إلى امتلاك برامج نووية للردع. ويزداد هذا السيناريو ترجيحا مع تصاعد الطموحات العسكرية لكلٍّ من روسيا والصين، وتراجع التزامات واشنطن الأمنية تجاه حلفائها.
في هذا السياق، يؤكد أنكيت باندا، الباحث في مؤسسة "كارنيغي" ومؤلف كتاب "العصر النووي الجديد"، أن "تصاعد الانقسام بين القوى العظمى حول الحد من انتشار السلاح النووي بات أمرا واقعا"، ويضيف أن "ظاهرة ترامب سرّعت من تصاعد الأصوات التي باتت ترى في امتلاك أسلحتها النووية وسيلة لمواجهة تآكل ثقتها في الضمانات الأميركية"، وفق ما جاء في تقرير بصحيفة "فايننشال تايمز".
يمكن تصنيف الدول التي قد تسعى للحصول على القنبلة النووية ضمن 3 مجموعات: أولها حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا مثل بولندا، وفي آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، إذ تملك هذه الدول المعرفة والتقنية والموارد الكافية لتطوير سلاح نووي (أو يمكنها أن تحصل عليها بسهولة نسبية)، ومع فقدانها للثقة في الالتزامات الأمنية الأميركية، خاصة في ظل السياسة الانعزالية لإدارة ترامب، ربما تبدأ في البحث عن ضمانات أمنية بديلة، بما في ذلك السلاح النووي.
أما المجموعة الثانية فتشمل ربما دولا في الشرق الأوسط تراقب عن كثب طموحات إيران "المزعومة" لتصنيع القنبلة النووية، وكيف يمكن أن تغير موازين القوى الإقليمية. بينما المجموعة الثالثة قد تشمل الدول المتأثرة مباشرة بالمجموعتين السابقتين، لأنها قد تجد نفسها مهددة إذا تحوّل جيرانها إلى قوى نووية.
لكن طريق أي قوة/دولة إلى عضوية النادي النووي ليس مفروشا بالورود، وينطوي على صعوبات كبيرة لطالما أسهمت في كبح جماح انتشار الأسلحة النووية، رغم تقلبات السياسة الدولية وتطور القدرات التقنية وتوفر الإمكانات الاقتصادية لدى العديد من الدول.
واحدة من أهم هذه الصعوبات أن إنتاج السلاح النووي لا يزال عملية معقدة تقنيا ومرهقة ماليا، ورغم إتاحة المعرفة التقنية على نطاق أوسع، فإن الحصول على المواد الانشطارية الأساسية -مثل اليورانيوم عالي التخصيب أو البلوتونيوم- لا يزال عملية معقدة ومكلّفة، كما أنها مراقَبة بشدة وتُثير إنذارا دوليا فوريا.
كما أن المسار النووي يفرض على الدولة الساعية إليه أخطارا جديدة، من بينها احتمال وقوع حوادث نووية، فضلا عن التداعيات السياسية وربما الأمنية والعسكرية لهذه الخطوة، وأقلها العقوبات، وذروتها تدخلات عسكرية متفاوتة الشدة تمنعها من متابعة مسارها.
لذلك، فإن التحذيرات السابقة -على جديتها- لا تعني أن هناك برامج تسلح نووي تقترب من النور، لكنها جرس إنذار حول توجُّه بعض الدول، التي قد تملك التقنيات والموارد لتصنيع القنبلة النووية -إن أرادت ذلك- وتُعرف بـ"دول العتبة النووية".
يُشير هذا المصطلح إلى الدول التي تمتلك التكنولوجيا والمواد والخبرة اللازمة لصنع سلاح نووي في وقت زمني قصير، لكنها لم تتخذ قرارا فعليا بتصنيع القنبلة، وما زالت ملتزمة بالمعاهدات الدولية. وغالبا تكون تلك الدول قد طوّرت برامج نووية سلمية متقدمة، لكنها تحتفظ بالقدرة على التحوّل السريع نحو إنتاج القنابل إذا ما أرادت ذلك.
ببساطة هي دول تقع داخل ما يشبه المنطقة الرمادية؛ لم تتجاوز العتبة النووية لتصبح الدولة النووية العاشرة رسميا، لكنها على مسافة قريبة من تجاوزها إذا توفرت الإرادة السياسية. فما أهم الدول التي قد تتجاوز العتبة النووية قريبا؟ وما الذي يمنعها من مباشرة هذه الطموحات وفقا للمؤشرات الحالية؟
تُعد كوريا الجنوبية مثالا لدولة حليفة للولايات المتحدة تمتلك المقومات التقنية التي تتيح لها تطوير أسلحة نووية، رغم امتناعها عن خوض هذه المغامرة حتى الآن. أسّست سيول برنامجا مدنيا للطاقة النووية من بين الأحدث والأكثر تطورا في العالم، إلى جانب قاعدة صناعية قوية، مما يعني أنها تستطيع تطوير سلاح نووي إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك.
في السبعينيات، كانت كوريا الجنوبية قد سعت سرًّا إلى امتلاك السلاح النووي، خلال فترة حكم الرئيس بارك تشونغ-هي، مدفوعةً بمخاوف من احتمال انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الأمنية. لكن ذلك البرنامج توقّف تحت ضغط أميركي، وانضمت كوريا الجنوبية إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1975 بوصفها دولة لا تملك السلاح النووي.
ومنذ ذلك الحين، أنشأت كوريا الجنوبية واحدة من أبرز صناعات الطاقة النووية في العالم، وأصبحت مُصدِّرا للمفاعلات النووية السلمية.
ورغم التزامها بعدم السعي لامتلاك الأسلحة النووية، فإنها أجرت بعض التجارب النووية غير المعلنة منذ السبعينيات وحتى مطلع الألفية، مثل الفصل المختبري للبلوتونيوم وأبحاث في تخصيب اليورانيوم، التي كُشف عنها عام 2004. ومع تأكيد سيول أن تلك التجارب كانت أكاديمية بطبيعتها، فإنها أبرزت امتلاك البلاد قدرات أساسية يمكن استخدامها في تطوير الأسلحة إذا تقرر ذلك يوما.
ويظل أبرز دافع نحو الطموح النووي في كوريا الجنوبية هو تصاعد التهديد القادم من جارتها الشمالية. فمع ترسانة بيونغ يانغ النووية المتنامية، التي تشمل عشرات الرؤوس النووية وأنواعا متعددة من الصواريخ الباليستية ، تصاعد الزخم الشعبي في كوريا الجنوبية لفكرة امتلاك رادع نووي مستقل. وتُشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو 70% إلى 75% من الكوريين الجنوبيين يؤيدون تطوير بلادهم لأسلحة نووية ردًّا على هذا التهديد.
وفي يناير/كانون الثاني عام 2023، أثار الرئيس السابق للبلاد يون سوك-يول ضجة حين صرّح بأنه إذا تصاعدت استفزازات كوريا الشمالية، فقد تضطر بلاده إلى "النظر في إدخال أسلحة نووية تكتيكية أو صُنعها بأنفسنا". وأوضح أنه إذا اتخذت سيول هذا القرار، فبإمكانها تحقيقه "بسرعة كبيرة" بفضل قدراتها العلمية والتقنية. تلك التصريحات، الصادرة عن رئيس دولة في منصبه، كانت استثنائية، إذ طرحت لأول مرة فكرة امتلاك كوريا الجنوبية للسلاح النووي بوصفه خيارا واقعيا.
لكن ردود الفعل على تصريحاته كانت سريعة وحادة، سواء من الحلفاء أو من الداخل، فقد سارع وزراء يون إلى التخفيف من حدّة التصريحات، مؤكدين أن كوريا الجنوبية لا تزال ملتزمة بجعل شبه الجزيرة الكورية خالية من السلاح النووي، وستستمر في الاعتماد على الردع الأميركي الممتد.
من جانبها، كرَّرت الولايات المتحدة تأكيدها ألا نية لسيول في السعي لامتلاك سلاحها النووي، وأن التحالف بين البلدين سيعزز الردع التقليدي في مواجهة بيونغ يانغ.
تُجسِّد كوريا الجنوبية نموذجا لدولة على العتبة النووية، إذ يتصاعد الطلب الداخلي على امتلاك السلاح تماشيا مع تزايد التهديد الأمني الوجودي على حدودها. تمتلك كوريا الجنوبية القدرة الفنية، إذ إن بنيتها النووية المدنية المتقدمة تُمكِّنها من تطوير أسلحة نووية بسرعة، لكن التكاليف ستكون باهظة، إذ سيؤدي تطويرها للسلاح إلى فرض عقوبات دولية، وإجبارها على العزلة الدبلوماسية، وربما حتى انهيار التحالف مع الولايات المتحدة.
في الوقت الراهن، تُفضِّل سيول الالتزام بالضمانات الأمنية الأميركية، التي تشمل احتمال تنفيذ ضربات نووية سريعة ضد كوريا الشمالية عند الضرورة، على المجازفة بالخروج من المنظومة الدولية.
ومع ذلك، فإن استمرار توسّع الترسانة النووية الكورية الشمالية وتراجع الالتزام الأميركي قد يزيد من حِدّة النقاش في كوريا الجنوبية حول الخيار النووي المستقل، ما يُبقيها قريبة سياسيا من العتبة النووية، وإنْ لم تقرر اجتيازها بعد.
بعد سنوات طويلة من الكرّ والفرّ، والمناورات الدبلوماسية ومحاولات التخريب الإسرائيلية المتعمدة ومؤخرا الهجمات العسكرية الإسرائيلية والأميركية، تجد إيران نفسها اليوم أمام قرار مصيري حول طموحاتها النووية العسكرية.
ورغم الضربة الأميركية الأخيرة، يُعتقد أن طهران لا تزال تمتلك الخبرة وربما الموارد اللازمة التي قد تجعلها تتجاوز العتبة النووية.
في سبعينيات القرن الماضي في زمان الشاه، بدأت رحلة برنامج إيران النووي بمساعدة دول غربية، أهمها الولايات المتحدة، ولكن بعد اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، لم يُظهر قادة الثورة اهتماما بهذه التكنولوجيا المدمرة.
لكن بعد حرب دموية استمرت ثمانية أعوام مع العراق في الثمانينيات، أعاد آية الله الخميني النظر في قيمة تلك التكنولوجيا النووية. وهذه المرة، وجّهت إيران أنظارها شرقا نحو باكستان، التي كانت حينها على بُعد أقل من عقد من الزمن من اختبار قنبلة نووية.
وقد باع العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان لإيران أجهزة طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم إلى مستويات النقاء اللازمة لصنع القنبلة، وفق المصادر الغربية.
في العقد الأول من الألفية الثانية، بدأت الشكوك الدولية تتعزز بشأن البرنامج النووي الإيراني، حين اكتشف المفتشون الدوليون أن إيران تخصّب اليورانيوم باستخدام أجهزة طرد مركزي عالية السرعة تفصل نظير "U-235" عالي التخصيب من اليورانيوم الطبيعي. مَثَّلت أنشطة التخصيب "المُدّعاة" تلك خرقا لالتزامات طهران بموجب معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
هذا التطور قاد إلى فرض عقوبات من مجلس الأمن الدولي ، قبل أن ينتهي المسار التفاوضي إلى توقيع "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA) عام 2015، التي هدفت إلى كبح برنامج إيران النووي والحد من أنشطة تخصيب اليورانيوم.
لكن بعد انسحاب الإدارة الأميركية أحاديا من الاتفاق عام 2018، ردّت إيران بتوسيع برنامجها النووي، وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني عام 2024، باتت طهران قادرة على الوصول إلى ما يُعرف بمرحلة "الاختراق النووي" خلال أسابيع أو أيام في بعض التقديرات، وهي أقصر مدة ممكنة لإنتاج مادة تكفي لصنع سلاح نووي إذا صدر القرار السياسي بذلك.
لقد أصبح بإمكان إيران إنتاج يورانيوم مخصب بنسبة تفوق 90% يكفي لصنع قنبلة واحدة (نحو 25 كيلوغراما) خلال بضعة أيام فحسب، ويكفي لصنع نحو ست قنابل خلال أسبوعين، وفقا لتقديرات خبراء رابطة الحد من الأسلحة، في حين كانت المدة الزمنية للوصول إلى مرحلة "الاختراق" تُقدَّر بنحو عام في ظل الالتزام الكامل ببنود الاتفاق النووي.
وفي يونيو/حزيران 2025، شهد العالم ضربة عسكرية أميركية ضد إيران، تمثّلت في ضربات جوية منسقة على أبرز المنشآت النووية، وشملت منشآت التخصيب تحت الأرض في نطنز وفوردو، ومجمع تحويل اليورانيوم في أصفهان.
ووفقا للمسؤولين الأميركيين، هدفت هذه الضربات إلى إلحاق "ضرر بالغ" بالبرنامج النووي الإيراني، إذ قدّر البنتاغون أن هذه الضربات ستؤخر البرنامج لمدة "عام إلى عامين"، رغم عدم تقديمه أدلة تدعم تلك التقديرات.
وأوضح المسؤولون أن الضربات دمرت العديد من أجهزة الطرد المركزي، ومخزونات رئيسية من اليورانيوم، بجانب المنشأة الإيرانية الوحيدة القادرة على تحويل اليورانيوم إلى شكل لصنع القنبلة.
ومع ذلك، أشارت تسريبات استخباراتية إلى أن الأضرار كانت أقل مما أعلنته الإدارة الأميركية، إذ كانت إيران قد نقلت جزءا من أجهزة الطرد المركزي وكميات كبيرة من اليورانيوم المخصب إلى مواقع أكثر أمانا تحسُّبا لهجوم أميركي، ما يعني أنها قد تعوّض الخسائر خلال بضعة أشهر فقط.
وبغض النظر عن اختلاف التقديرات حول وضع البرنامج النووي الإيراني حاليا وزمن الاختراق النووي، فإن المؤكد أن إيران كانت "وستظل" ضمن دول العتبة النووية، مع امتلاكها مزيجا من المعرفة العلمية والقاعدة الصناعية والقدرات الصاروخية التي ستبقى قائمة حتى بعد الضربات. يعني ذلك أن إيران تملك القدرة على إنتاج أسلحة نووية في وقت ليس ببعيد إذا ما قررت الانسحاب من الاتفاقيات الدولية.
فالعلماء الإيرانيون يعرفون كيف يصنّعون ويشغّلون أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، وقد بلغوا بالفعل مستوى تخصيب بنسبة 60%، وهي نسبة أعلى بكثير مما تحتاج إليه التطبيقات السلمية، كما يمكنهم إعادة بناء المخزونات وتركيب أنظمة التخصيب مجددا.
وهذا تحديدا كان السبب وراء عمليات القتل الإسرائيلية المستهدفة لعدد من علماء البرنامج النووي الإيراني خلال الحرب الأخيرة.
وفي الخلاصة، فإن الضربات الإسرائيلية والأميركية لم تفعل أكثر من إطالة فترة "الاختراق" النووي إلى حدٍّ لا يزال غير واضح تماما، لكن القدرة الكامنة لإيران لا تزال موجودة وفقا للمعطيات المتاحة حاليا.
تُوصَف اليابان غالبا بأنها النموذج المثالي لدولة تقف على "العتبة النووية"، أي الدولة التي تلتزم بقوة بمبدأ حظر الانتشار، لكنها تمتلك في الوقت ذاته كل المقومات اللازمة لامتلاك أسلحتها النووية خلال فترة زمنية وجيزة.
وباعتبارها الدولة الوحيدة التي تعرضت لقصف بقنبلة نووية، فإن اليابان تتمسك بمحظورات داخلية صارمة ضد الأسلحة النووية، وقد نص الدستور الرسمي للبلاد بعد الحرب على حظر استخدام القوة لفض النزاعات والتخلي عن الحرب بوصفه حقا سياديا للأمة. وبدلا من ذلك تعتمد طوكيو على المظلة النووية الأميركية لتوفير الحماية، وتلتزم بثلاثة مبادئ نووية صارمة: عدم تصنيع أو امتلاك أو السماح بوجود أسلحة نووية على أراضيها.
غير أن صناعة اليابان النووية المدنية المتقدمة تمنحها ما يُشبه الترسانة الافتراضية، فهي تمتلك بنية تحتية نووية واسعة، بما في ذلك منشآت التخصيب وإعادة المعالجة، فضلا عن مخزون كبير من البلوتونيوم الصافي يمكن استخدامه في تصنيع عدد كبير من الرؤوس النووية إذا ما قررت اليابان ذلك.
يُنظر إلى قدرة اليابان المحلية على إعادة معالجة البلوتونيوم باعتبارها قوة محتملة للردع النووي، لأن بلوتونيوم مفاعلات الطاقة يمكن استغلاله في تصنيع أسلحة نووية، وبنهاية عام 2020، امتلكت اليابان 46.1 طنًّا من البلوتونيوم، وهو ما يعادل الحجم اللازم لإنتاج 6000 قنبلة نووية. وبسبب تلك القدرات التقنية والموارد الضخمة، اعتبر المحللون منذ زمن بعيد أن اليابان "على مسافة دوران مفكّ" (a screwdriver’s turn away) من أن تصبح دولة مسلحة نوويا، فهي تفتقد القرار السياسي فقط، إذ أتقنت اليابان جميع مراحل دورة الوقود النووي، ولديها صناعات عالية التقنية وخبرات علمية يمكن توجيهها بسرعة نحو تطوير تلك الأسلحة.
في الواقع، شكّلت اليابان مصدر الإلهام الأساسي لما يُعرف بالتحوط النووي، وهو ما عُرف باسم "الخيار الياباني"، أي إستراتيجية الاحتفاظ بالقدرة على إنتاج السلاح النووي في وقت قصير دون تنفيذه فعليا. وخلال فترات التوتر الإقليمي، ناقش بعض الإستراتيجيين اليابانيين هذا الخيار بصمت، كما حدث بعد أول اختبار نووي صيني عام 1964، أو في أعقاب تطورات البرنامج النووي الكوري الشمالي، إذ أطلقت الحكومة دراسات داخلية حول إمكانية التسلّح النووي، لكنها في كل مرة كانت تجدّد تمسكها بالتحالف مع الولايات المتحدة.
حتى الآن، حافظت اليابان على موقفها المناهض للأسلحة النووية وثقتها في الضمانات الأمنية الأميركية، ما حال دون تخطيها العتبة النووية. لكن البيئة الإستراتيجية في شرق آسيا تزداد تعقيدا؛ فالتجارب الصاروخية والنووية المتكررة من كوريا الشمالية، والتوسع المستمر في الترسانة النووية الصينية، كلها عوامل قلّصت شعور اليابان بالأمان.
ورغم أن تحول اليابان إلى دولة نووية لا يزال احتمالا ضعيفا على المدى القريب، فإن قدرتها الكامنة تظل عنصرا محوريا في المعادلة الإقليمية. وتُظهر اليابان أن الدولة يمكن أن تظل متمسكة بموقفها الفعلي بعدم امتلاك الأسلحة، لكنها تحتفظ في الوقت ذاته بإمكانية واقعية لتصنيع قنبلة في غضون فترة زمنية قصيرة، ربما تصل لأسابيع فقط، إنْ دعت الضرورة.
تلك الثنائية تجعل من اليابان مثالا فريدا ومهما لدولة على العتبة النووية، وإذا تغيّرت الحسابات الجيوسياسية جذريا، مثل تفاقم تهديد كوريا الشمالية أو تآكل الثقة التام بالحماية الأميركية، فقد تُعيد اليابان النظر في موقفها النووي مستقبلا.
في النهاية، ربما يكشف تحليل بسيط لتكلفة وفوائد امتلاك الأسلحة النووية أن الموارد الهائلة المُخصصة لهذا النوع من التسليح يمكن توجيهها بفاعلية أكبر نحو تطوير قدرات عسكرية تقليدية متقدمة، قادرة بدورها على تحقيق الردع ذاته دون المجازفة بعواقب الدمار الشامل، وهو أمر ينطبق حتى على الولايات المتحدة ذاتها، التي من المتوقع أن تنفق قرابة تريليون دولار على تحديث وتطوير قدراتها النووية خلال العقد المقبل. لكن ذلك يتطلب قناعة متبادلة عالميا بأهمية حظر الانتشار النووي، لأن الحافز الأول لدولة ما لامتلاك السلاح النووي هو رؤية خصومها يفعلون ذلك، ومخاوفها من تآكل موازين الردع.
لقد ثبت على مدار العقود الماضية أن أكثر السيناريوهات تشاؤما بشأن انتشار السلاح النووي لم تتحقق لحُسن حظنا، ولهذا تمكّن العالم من تجاوز أزمات وحوادث خطيرة دون الانزلاق إلى كارثة نووية. لكن لا يمكننا التعويل على هذا الحظ التاريخي إلى الأبد، ونجاتنا في الماضي لا تعني أننا مُحصّنون من المأساة في المستقبل.