آخر الأخبار

حولهم الحصار لـ"مبتكرين قسريين".. الغزيون يواجهون النقص ببدائل مبتكرة

شارك

غزة- لم يتخيل أسامة القُرعان يوما أن يتسلل إلى الأراضي الزراعية النائية شرق دير البلح وسط قطاع غزة ، باحثا عن نبتة برية تدعى "القضاب"، قيل له إنها تنمو بتلك المناطق في أطراف "أرض العجين"، وقد تخفف من آلام والدته المصابة بسرطان الثدي.

ولم تكن مغامرته سوى خيار أخير حمل فيها أسامة روحه على كفه، بعد أن نصحه بذلك الدواء كثيرون، إثر توقف والدته عن تلقي جرعات العلاج الكيميائي بالمستشفى الأوروبي في خان يونس قبل شهرين، المتوقف عن الخدمة لوقوعه ضمن منطقة الإخلاء التي أجبر الاحتلال سكانها على النزوح، ليُترك المرضى وأهاليهم بلا بدائل، سوى التشبث بأي أمل ضئيل.

أمام هذا الانقطاع الحاد للعلاج، وجد أسامة نفسه كغريق يتعلق بقشة، وراح يقتحم تلك المناطق المحظورة مرة تلو أخرى، يجمع حزما خضراء من العشبة التي قال البعض إنها انقرضت، بينما أكد آخرون أنها تنمو بمناطق باتت شديدة الخطورة، لكن الخوف لم يكن في حسبان أسامة، الذي قال للجزيرة نت، "كنت أجد العشبة بين الحقول المهجورة، أغليها لأمي مرتين في اليوم، وفعلا الفحوصات الأخيرة أظهرت تحسنا واضحا".

مصدر الصورة عشبة "القضاب" النادرة يستخدمها الغزيون في التخفيف من آلام السرطان عند توقف العلاج الكيميائي (الجزيرة)

ابتكار البديل

تبدو محاولة أسامة للبحث عن بديل مسألة شخصية، لكنها في الحقيقة صورة مكثفة لحال مليوني غزي بات التكيف مع الندرة التي يعانونها نمطا يوميا في حياتهم، فكما يكابد المرضى وذووهم بحثا عما يقيهم الهلاك، فإن الأطباء بدورهم يخوضون معركة النجاة بما تيسر.

وقد حولهم الحصار إلى "مبتكرين قسريين"، يبحثون بين الأنقاض عن بدائل لم تصمم أصلا للطب، بعد ما طالت يد العجز أساسيات العمل الجراحي، وتركتهم في مواجهة الجرح والنزيف والموت.

يروي مدير المستشفى المعمداني في غزة، الدكتور فضل نعيم، للجزيرة نت، "نضطر أحيانا لاستخدام مقداح صناعي يستعمل في الحدادة والنجارة، لتثبيت الصفائح في كسور المرضى، بعد تعقيمه يدويا".

إعلان

وفي موقف آخر عثر في أحد المخازن المهجورة بالمستشفى ذاته على مثبت خشبي قديم يعود لعقود مضت، كان من المفترض أن يعرض في متحف طبي، لكنه استخدم فعلا لإنقاذ مريض لم يعثر له على بديل، بل إن الأطباء أجبروا على نزع صفائح معدنية من أجساد مصابين سابقين، وقاموا بتعقيمها لإعادة استخدامها.

ومع انعدام فرشات المرضى، جرى استبدالها بأخرى إسفنجية منزلية، لا تقي من التقرحات ولا تحفظ حرارة الجسد، لكنها على الأقل تفصل الجسد عن أرض الغرفة. ويختم نعيم قائلا: "في ظل الضرورة، لا شيء يُستثنى، نستعمل ما ينقذ الأرواح، حتى لو لم نتبع فيه المعايير الطبيعية".

مصدر الصورة الغزيون لجؤوا لأفران الطين واستخدام الحطب كبديل عن الغاز الذي يمنع الاحتلال إدخاله إلى غزة (الجزيرة)

بدائل الوقود

وفيما كان الأطباء يبتكرون حلولهم داخل غرف العمليات، كانت طواقم الإسعاف تخوض معركة أخرى لا تقل خطورة، ويقول مدير الخدمات الطبية، فارس عفانة، للجزيرة نت، إن 80% من مركبات الإسعاف خرجت عن الخدمة، بعضها دمر تحت القصف، وآخر تعطل دون قطع غيار ولا ورشات صيانة.

وفي مواجهة هذا الانهيار، لم يكن أمامهم إلا حل واحد يكمن بتحويل سيارات مدنية إلى إسعافات بديلة، حيث استعاروا مركبتي نقل عام، ثم فككوا مقاعدها، وثبتوا فيها سريرا بدائيا وخزانة إسعاف، وطلوها يدويا بالأبيض، وألصقوا عليها شريطا أحمر كتب عليه "إسعاف".

ولم تكن هذه المشاهد سوى جزء من صورة أشمل، ففي الخطوط الأمامية حيث يعمل الدفاع المدني بلا آليات إنقاذ ولا معدات ثقيلة، كانت أياديهم العارية للنبش بين الأنقاض بحثا عن الناجين بديلا أولا، كما اضطروا لاستخدام "جكات" (رافعات سيارات) لرفع الأسقف المنهارة.

ومع نفاد الوقود لجؤوا إلى تصنيع وقود بديل من البلاستيك، وفق المتحدث باسم الدفاع المدني، محمود بصل، الذي قال للجزيرة نت، إنهم اضطروا لاستخدام الوقود الصناعي لتشغيل مركباتهم القليلة التي ما زالت تعمل، حيث يصنع بطرق بدائية عبر حرق البلاستيك.

أما بلدية غزة، فلجأت إلى تفريغ ما تبقى من وقود من داخل خزانات السيارات المعطوبة والمقصوفة، وحتى من بعض المولدات المتوقفة، لتشغيل المضخات، يقول المتحدث باسم البلدية، عاصم النبيه، للجزيرة نت.

ولم تتوقف أزمة الطاقة عند مركبات الدفاع المدني والبلدية، بل انسحبت إلى كل تفاصيل الحياة اليومية، فمع الأيام الأولى للعدوان، أوقف الاحتلال دخول الغاز المنزلي بشكل شبه كامل، ومنذ ذلك الحين ولشهور طويلة كان الحطب أول البدائل لغاز الطهي.

لكن مع الوقت شح وارتفع ثمنه، ولم يبق أمام الناس سوى ما تبقى من أشيائهم القديمة من ملابس ممزقة، وكرتون، وبلاستيك، وحتى القمامة، كما لجأ البعض للكحول الطبي رغم مخاطره الكبيرة.

مصدر الصورة ورق التوت في غزة صار بديلا عن ورق العنب وباتت النساء تطهوه كطعام (الجزيرة)

طعام "اللامعقول"

أما على موائد الغزيين، فلم تعد للوجبات رائحة ولا للطعام طقوس، كل طبق صار مرآة للعجز، ومزيجا من البدائل، تقول أم خالد في مقابلة مع الجزيرة نت "حين لم نعثر على الدجاج أو اللحم، كنا نطهوا بمكعبات المرق (الماجي)، وحين نفدت من الأسواق، لم نجد في النهاية سوى مكملات الأطفال الغذائية التي تحتوي على نكهة الدجاج، فاستخدمناها في الطهي".

أما البيض، فقد أصبح رفاهية نادرة يتجاوز سعره 7 دولارات، فاستعيض عنه بـ"بودرة البيض" في بعض الحلويات، ولمّا اختفت القهوة من الأسواق، لجأت السيدات لحرق بذور الحمص وطحنه وإضافة الهيل، ليصنعن مشروبا مرا لا يشبه القهوة إلا لونها الداكن.

مصدر الصورة غزيون يقومون بغسل الأواني بـ"الرمل" نظرا لانقطاع المنظفات من الأسواق أو غلائها (الجزيرة)

وحين وصل سعر كيلو السكر لـ130 دولارا وصار يختفي من الأسواق، استبدله الغزيون بـ"الغلوكوز" الذي يباع بالقطارة، إذ يصل سعر الغرام الواحد منه نحو 8 دولارات.

إعلان

ولانعدام البصل والثوم تستخدم السيدات بودرتهما، ويطبخن ورق التوت عوضا عن ورق العنب، كما استخدمن المعكرونة والعدس والحمص كبديل للدقيق لصنع الخبز.

وفي ظل هذا الانهيار، لا يبدو أن البدائل توقفت عند المعقول، حيث يقول بائع للجزيرة نت -لم يكشف هويته- إنهم استخدموا شراب "الأكامول" (دواء مسكن الأطفال)، في صنع المثلجات، ويضيف "طعمه حلو ويوفر علينا الأصباغ"، في حين يواصل الأطباء تحذيراتهم من تلك البدائل التي تحولت من اضطرار إلى مخاطرة.

مآسي الخيام

وفي نهاية هذه الاستعراض من البدائل القسرية، تقف الخيام كأشدها قسوة ووجعا، فهي ليست مجرد استبدال طعام بطعام، أو دواء بآخر، بل استبدلت البيوت بما تحمله من دفء وذكريات وأمان، بقطع قماش مهترئة لا ترد بردا ولا تصد حرا، نصبت على الأرصفة، وفي عراء الشوارع، حيث لا كهرباء، ولا ماء، ولا خصوصية، ومع ذلك تدار حياة كاملة بمحاولات يومية للبقاء.

تزيح أم عمرو الستار القماشي لتكشف للجزيرة نت عن المكان الذي يقضون فيه حاجتهم الخاصة، قائلة: "دلو بلاستيكي أو حفرة تدفن مرات عدة في اليوم"، ومع انعدام توفر حفاضات الأطفال أو ارتفاع ثمنها إلى 6 دولارات للقطعة، اضطرت إلى استخدام شرائط قماش أو نايلون تُغسل وتُعاد.

مصدر الصورة غزيون يقومون بالاستحمام في أوعية لإعادة استخدام المياه في غسل الملابس (الجزيرة)

وعلى الجانب الآخر، أكياس معبأة بالرمل يجلس عليها الأطفال بدلا من الكراسي. تقول أم عمرو: "غسلنا الصحون بالرمل بدلا من سائل الجلي، وتركنا غالونات الماء تحت الشمس لساعات للاستحمام". وتكمل بمرارة: "نقف للاستحمام في أوعية كبيرة، ونعيد استخدام الماء نفسه لغسل الملابس".

معركة يومية لجعل الحياة ممكنة في قلب اللاممكن، فكل ابتكار اضطراري صنع على طريقة غزة، التي يقول أبناؤها إن كل الحلول لم تسعفهم لإيجاد بديل عن إنسانية مفقودة، حيث اختفت رحمة العالم دون أن يجدوا بديلا عنها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا