في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتُغفل فيه الكثير من العادات والتقاليد، تظل الموروثات الثقافية والعادات الشعبية بصمة معبرة عن الهوية المجتمعية. وفي أنامل الأطفال الصغيرة، تتجسد هذه الموروثات من خلال تقليد "الحيّة بيّة"، الذي يُتوارَث جيلاً بعد جيل في عدد من الدول الخليجية.
فعلى امتداد الشواطئ، وقبل أن تغيب شمس يوم عرفة، تنطلق أصوات الأطفال بأهازيج "الحيّة بيّة"، وتهتز أياديهم وهم يردّدون:
"حية بية، راحت حية، ويات بيّة
على درب الحنينية
يا حيتي... عشيتج وغديتيج
نهار العيد لا تدعين عليّ
يا حيتي حجي وبيت مكة دقي بي
حلليني يا حيتي... حلييني وابري ذمتي"
يزرع الأطفال بذوراً كالقمح في سلال مصنوعة من سعف النخيل، يعتنون بها وينمّونها داخل المنازل. ومع اقتراب عيد الأضحى، وتحديداً في يوم وقفة عرفات، يُلقى بهذه السلال على شواطئ البحر، مصحوبة بالدعوات لعودة الحجاج سالمين. ويرى الخبراء أن هذه العادة، المعروفة بـ"الحيّة بيّة"، تعلم الأطفال منذ الصغر قيمة التضحية.
في حديث لها مع بي بي سي، تناولت الدكتورة دلال الشروقي، الباحثة في الثقافة الشعبية والعادات البحرينية، جوانب من أبحاثها ودراساتها في هذا المجال.
وتعني "الحيّة بيّة" في الأهازيج "حجي بيجي"، وتشير الشروقي إلى أنه في البحرين وبعض دول الخليج يُقلب حرف الجيم إلى ياء، وهو ما يعد من بقايا لهجة تميمية قديمة.
وتقول الشروقي إن "الحيّة بيّة" تُعد مناسبة اجتماعية تحمل بعداً تاريخياً ودينياً عميقاً، يعود إلى زمن سيدنا إبراهيم الخليل، حين حلم بذبح ابنه إسماعيل، لكن الله سبحانه وتعالى افتداه بأضحية. ومنذ يوم الفداء، أصبح من الواجب أن نضحي سنوياً تكريماً لهذا الطقس الديني".
ونظراً لقرب البحرين من حضارات السّند وبين النهرين، تؤكد الدكتورة الشروقي أن البحرين تأثرت بتلك الحضارات التي كان لها تقاليد تضحية بالأفراد أو الأشياء طلباً لرضا الأنهار أو الفيضانات. بينما "نعتقد أن أساس هذا الطقس هو تعويد الأطفال على التضحية بشيء يملكونه، ليكبروا وهم يفكرون في التضحية لله سنوياً".
ومن أواخر شهر ذو القعدة، ومع وفرة النخيل في البحرين، تحيك السيدات قففاً صغيرة من خوص النخل، توضع فيها بعض البذور كالشعير أو نوع من العدس يسمى "ماش"، إضافة إلى السماد، وتحتاج هذه النباتات إلى أسبوعين لتنمو.
في هذه الفترة، يعتني الأطفال بالنبتة كما يُعتنى بالخروف الذي سيُضحّى به، حيث يحصل على التغذية والرعاية قبل أن يصبح أضحية.
ويعامل الأطفال الزرعة بحب واهتمام، لأن "نماءها يعني بركة العيدية" فيقومون بريها يومياً، وأحياناً يضعون لها قليلاً من الأرز حتى "لا تشتكيهم" عندما يأتي العيد، وفق الشروقي.
وعندما يحين يوم عرفة الذي يقف فيه الحجاج في محيط الجبل الواقع في أطراف مكة، يأخذ الأطفال "الحيّة بيّة" ويتوجّهون بها إلى شاطئ البحر. وهناك، يرمونها في البحر مردّدين الأهازيج الشعبية: "حيّة بيّة. راحت حيّة، وجات بيّة...على درب الحنينية".
وتعتقد الشروقي أن هذه العادة لا تقتصر فقط على الاعتناء بالنبتة، بل تعلم الأطفال أيضاً مفهوم الاستغناء والتضحية، إذ يرمون ما اعتنوا به في البحر أملاً منهم في عودة الحجاج سالمين".
وتقول الشروقي إن عادة "الحيّة بيّة" في البحرين من العادات التي كانت وما زالت متجذرة، وأصبحت اليوم تُنظم بشكل رسمي من خلال المدارس والجمعيات الأهلية. ويخرج الأطفال في تجمعات، حيث يُجرى إعداد بعض السواحل لاستقبالهم وضمان وصولهم بأمان.
أما في قطر، فتشير الشروقي إلى أن ممارسة هذه العادة تقتصر على نطاق ضيق، حيث يحييها البحرينيون الذين استقروا هناك، بعد أن انتقلت معهم هذه العادة من البحرين إلى قطر.
ووفقاً لوزارة الثقافة القطرية، تعد "الحيّة بيّة" من الممارسات التي ما زالت محفوظة في الذاكرة الشعبية؛ فهي واحدة من الفعاليات الاحتفالية الخاصة بالفتيات الصغيرات في الفترة العمرية بين 8 و12 عاماً.
"في مساء التاسع من ذي الحجة، تخرج الفتيات في مسيرات أو إلى سيف البحر، حيث يرددن مع أرجحة السلة أغانٍ تُعبّر عن عنايتهن بالحيّة في أجواء من الفرح. ثم يرمين السلة في إطار هذه الأجواء الشعبية، التي يسهم المجتمع في إحيائها من خلال الاهتمام بتجديد كافة مستلزماتها، مما يُسهم في غرس حب هذا التراث وحفظه في نفوس الأجيال القادمة"، بحسب الوزارة.
ورغم تمسك العديد من الخليجيين بهذه العادات، تظهر أصوات معارضة لها من منظور بيئي.
وتقول الناشطة البيئية منال بوجيري لبي بي سي إن "الحيّة بيّة" موروث شعبي قديم توارثته الأجيال، إلا أنها تؤكد إلى الحاجة لإيجاد طريقة صحيحة للحفاظ عليه دون الإضرار بالبيئة.
وتشير إلى أن هناك العديد من "الآثار السلبية لهذا التقليد، كتلويث الشواطئ، والإخلال بقواعد النظافة العامة، وتدمير الحياة البحرية".
وتضيف أنه في السنوات الأخيرة، طُوّرت "الحيّة بّية" باستخدام مواد ضارة وغير صديقة للبيئة، مثل الأكريليك والبلاستيك والألياف الصناعية وعلب المعادن التي تحتاج إلى مئات السنين لتتحلّل، قائلة: "هذه المواد تدخل في غذاء الأسماك، ما يؤدي إلى موتها، وبالتالي ينعكس سلباً على الحياة البحرية والشواطئ".
وبالإشارة إلى تنامي الوعي بأهمية تقليل استخدام البلاستيك، تؤكد أن العالم بات يدرك بشكل متزايد الأضرار التي يسببها على البيئة وصحة الإنسان، الأمر الذي يدفع إلى البحث عن بدائل وحلول تحد من استهلاكه.
وفي إطار التحليل، تشير بوجيري إلى معطيات دائرة الحدائق الوطنية الأمريكية، التي تفيد بأن زجاجة بلاستيكية واحدة تحتاج إلى سنوات عديدة لتتحلل في البيئة، وعملية تحللها تُسهم في إطلاق مواد ضارة تؤثر على التربة والمياه الجوفية.
وعلى عكس ما يُقال عن إيجابية هذا الموروث، ترى بوجيري أن "الحيّة بيّة" تُسهم في "تعليم غير مباشر للطفل أن يرمي أي شيء في البحر".
فمن خلال تجربتها مع الأطفال بعد تعليمهم كيفية زراعتها، تقول إن هناك ارتباطاً بين الطفل والنبتة التي أصبحت تحت مسؤوليته بعد أن اعتنى بها وسقاها. ينشأ حب بين الطفل والنبتة، وعندما يأتي اليوم ليرميها في البحر، يجد الطفل نفسه في حالة من الصدمة. فعند وصولهم إلى البحر، يرفض بعض الأطفال رميها.
وتؤيد الشروقي الأصوات التي تنتقد من يستخدم معلبات أو مواد بلاستيكية، رافضة كل ما يُلوث البيئة، قائلة إن هذا بعيد كل البعد عن الطقس نفسه، الذي يعتمد بالأساس على سلّة من الخوص يُزرع فيها بعض البقويات.
وتؤكد بوجيري أنه بامكاننا الاستمرار بهذا التراث الشعبي، مع إيجاد حلول لحماية البيئة، كاستخدام مواد صديقة للبيئة مثل سلّة السعف، والعلب الكرتونية، والحبل المصنوع من الصوف الطبيعي.
وتضيف "لابد من التعاون مع الهيئات الرسمية بوضع حاويات بأشكال جذابة للأطفال لرمي الحية بية فيها".
ثم استدركت قائلة: "من الأفضل توعية الأطفال بعدم رمي أي مخلفات في البحر، ففكرة الرمي بحد ذاتها غير صحيحة. ويمكن للطفل زراعة الحيّة بيّة، وتعليقها في الحديقة أو شرفة المنزل بدلاً من ذلك".