آخر الأخبار

حرب السودان: شمال وغرب دارفور تحت الحصار، و"الجميع يواجهون الموت"

شارك
مصدر الصورة

لم تكن حفيظة تتجاوز من العمر واحداً وعشرين عاماً عندما وجدت نفسها المُعيلة الوحيدة لأشقائها الثلاثة، في مدينة ترزح تحت الحصار وسط الحرب المشتعلة في السودان.

انقلبت حياة حفيظة رأساً على عقب عندما قُتلت والدتها في قصفٍ استهدف السوق في الفاشر، "لم تقُلْ أي كلمة، عندما نقلوها كانت ميتة" تخبرنا بصوت خافت عبر مقطع فيديو أرسلته لنا مستخدمة أحد الهواتف التي تمكّن فريق تحقيقات بي بي سي آي من إيصالها إلى ثلاثة من سكان المدينة العالقين في مرمى النيران.

تُعَدُّ الفاشر آخر مدينة كبرى يسيطر عليها الجيش السوداني في دارفور غربي البلاد. منذ عام تقريباً، فرضت قوات الدعم السريع حصاراً عليها وباتت مقطوعة إلى حد كبير عن العالم الخارجي، ما جعل دخول الصحفيين إليها مستحيلاً.

من أجل سلامتهم، نستخدم فقط الأسماء الأولى للأشخاص الذين أرادوا تصوير حياتهم ومشاركة قصصهم عبر الهواتف التي أرسلتها بي بي سي.

والد حفيظة توفي قبل اندلاع الحرب الأهلية في السودان، وفي أغسطس/آب 2024 سقطت قذيفة على مكان عمل والدتها في السوق، "عشت أياماً صعبة للغاية، الصدمة كانت كبيرة، حتى الآن لا أستطيع أن أذهب إلى مكان عملها" - تقول حفيظة في أحد أول المقاطع التي أرسلتها بعد استلام الهاتف.

مصدر الصورة

الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أتمّت عامها الثاني وتسببت في أكبر أزمة إنسانية في العالم. كلا الطرفين في الحرب متهم بارتكاب جرائم حرب واستهداف المدنيين عمداً، لكنهما ينفيان هذه التهم.

تسيطر قوات الدعم السريع على مداخل ومخارج المدينة، وتسمح أحياناً للمدنيين بالخروج، لذلك تمكنت حفيظة من إرسال أشقائها للعيش مع أقاربهم في منطقة محايدة، لكنها بقيت في المدينة لكسب المال من أجل إعالتهم.

في رسائلها، تصف أيامها في توزيع البطانيات والمياه على النازحين في الملاجئ، والمساعدة في مطبخ جماعي، ودعم مجموعة للتوعية بسرطان الثدي مقابل مردود مادي بسيط.

أما لياليها فتقضيها وحيدة، "أتذكر الأماكن التي كانت تجلس فيها أمي وأشقائي، أشعر بانكسار شديد".

مصدر الصورة

في كل مقطع فيديو تقريباً أرسله مصطفى لبي بي سي، يمكن سماع أصوات القصف وإطلاق النار في الخلفية.

"صباحاً ومساءً نتعرض للقصف المدفعي من قبل ميليشيات الدعم السريع" - يقول الشاب ذو الـ 32 عاماً.

في أحد الأيام، بعد عودته من زيارة لعائلته، وجد أنّ منزله القريب من وسط المدينة تعرّض للقصف، السقف والجدران تضررت بشكل كبير، كما نهب بعض اللصوص ما تبقّى.

"كل شيء انقلب رأساً على عقب، معظم المنازل في حيّنا نُهبت"، يقول مصطفى، موجهاً اللوم إلى قوات الدعم السريع.

خلال تطوعه في أحد مراكز إيواء النازحين، تعرضت المنطقة لهجوم عنيف، تابع مصطفى التصوير بينما كان يختبئ.

"لا يوجد مكان آمن في الفاشر، حتى مخيمات النازحين تُقصف بعدد كبير جداً من القذائف المدفعية"، يقول مصطفى، "الجميع يواجهون الموت في أي لحظة… إنسان الفاشر محكوم بالموت سواء بالرصاص أو القذائف، أو الجوع والعطش".

مصدر الصورة

يتطوع مصطفى، مثل مناهل التي تلّقت أيضاً هاتفاً من بي بي سي، في مبادرات المطبخ الجماعي المموَّلة من التبرعات.

الأمم المتحدة حذّرت من خطر المجاعة في الفاشر، لكنها أعلنتها بالفعل في مخيم زمزم للنازحين الذي يؤوي أكثر من خمسمئة ألف شخص.

"إذا ذهب الناس إلى السوق يجدون أنّ الأسعار مرتفعة"، تقول مناهل ذات الـ 26عاماً، "جميع العائلات الآن في نفس المستوى، لم يعد هناك غني وفقير. كل الناس غير قادرين على تأمين وجبة الطعام".

مصدر الصورة

بعد طهي الوجبات، يقوم المتطوعون بإيصالها إلى النازحين في مراكز الإيواء، وبالنسبة لكثيرين، هذه هي الوجبة الوحيدة التي سيتناولونها طوال اليوم.

عندما بدأت الحرب كانت مناهل قد أنهت لتوها دراستها الجامعية، حيث تخرجت في كلية الشريعة والقانون.

مع وصول المعارك إلى الفاشر، انتقلت مع والدتها وإخوتها إلى منطقة أكثر أماناً في المدينة، بعيداً عن جبهات القتال.

"تجربة النزوح صعبة للغاية"، تقول مناهل، "تفقد منزلك وكل ما تملكه، وتجد نفسك في مكان جديد بلا شيء".

لكنّ والدها رفض مغادرة المنزل. بعض الأشخاص أودعوا أماناتهم معه، وقرر البقاء لحمايتها، وهو قرار دفع حياته ثمناً له. تقول مناهل إنه قتل في قصف مدفعي لقوات الدعم السريع في سبتمبر/أيلول 2024.

منذ بدء حصار الفاشر، قُتل وجُرح نحو ألفي شخص، وفقاً للأمم المتحدة.

بعد غروب الشمس، نادراً ما يغادر سكان المدينة منازلهم. ففي غياب الكهرباء يصبح الليل أكثر رعباً. حتى أولئك الذين يمتلكون ألواح الطاقة الشمسية أو بطاريات، يخشون تشغيلها خوفاً من أن يصبحوا هدفاً للطائرات المُسيَّرة.

خلال فترة تصوير حياتهم اليومية لبي بي سي، كانت هناك مرات عديدة لم أستطع فيها التواصل مع مناهل والآخرين لأيام بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى الإنترنت.

إلى جانب كل المعاناة والمخاوف، تتشارك حفيظة ومناهل خوفاً إضافياً من سقوط المدينة بيد قوات الدعم السريع.

"كوني فتاة، من الممكن أن يأخذوني وأن أتعرّض للاغتصاب"، تقول حفيظة في إحدى رسائلها.

هذا الخوف ينبع من الأحداث التي حصلت في مدن أخرى سيطرت عليها قوات الدعم السريع، وتحديداً الجنينة، التي تبعد نحو أربعمئة كيلومتر.

في عام 2023، شهدت الجنينة مجازر مروعة ذات طابع عرقي. قوات الدعم السريع والميلشيات المتحالفة معها استهدفت القبائل غير العربية مثل المساليت.

التقيتُ إحدى الناجيات من المساليت في مخيم للاّجئين في تشاد، وصفت لي كيف تعرضت للضرب والاغتصاب الجماعي على يد مقاتلي الدعم السريع، ولم تتمكن من المشي لمدة أسبوعين تقريباً. الأمم المتحدة تقول إن فتيات لا تتجاوز أعمارهن 14 عاماً تعرّضن للاغتصاب.

في المخيم نفسه، قال لي رجل إنه شاهد مجزرة ارتكبتها قوات الدعم السريع. استطاع الهرب بعد أن أصيب وترك للموت.

تقدر الأمم المتحدة أنه بين 10,000 إلى 15,000 شخص قتلوا في الجنينة خلال أحداث عام 2023. اليوم، أكثر من رُبع مليون من سكان الجنينة، أي نِصف عدد سكان المدينة سابقاً، يعيشون في مخيمات للاّجئين في تشاد.

عرضنا هذه الاتهامات على قوات الدعم السريع، ولَمْ تردّ، لكنها أنكرت في السابق أي تورط في عمليات تطهير عرقي في دارفور، وزعمت أن مرتكبي الانتهاكات ارتدَوْا زي الدعم السريع لتحويل اللوم إليهم.

دخول الصحفيين إلى الجنينة نادر للغاية، لكن بعد أشهر من التفاوض مع السلطات المدنية في المدينة، حصلنا على موافقة لزيارتها في ديسمبر/كانون الأول 2024.

بعد وصولنا، تم تعيين مرافقين لنا من مكتب الوالي. وسمح لنا بمشاهدة ما أرادوا أن نراه فقط.

بدا واضحاً على الفور أنّ قوات الدعم السريع تسيطر على المدينة. رأيتُ مقاتليها يجوبون الشوارع في عربات مسلحة وتحدثتُ مع بعضهم، حيث أراني أحدهم أسلحتهم الشخصية وقاذفة الصواريخ المضادة للعربات RPG.

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لأدرك مدى اختلاف رؤيتهم للنزاع. قائدهم أصر أنه لا يوجد مدنيون مثل حفيظة ومناهل ومصطفى في الفاشر.

"الشخص الذي يبقى في منطقة حرب يشارك في الحرب. لا يوجد مدنيون، جميعهم من الجيش"، قال لي، مضيفاً أن الجنينة أصبحت آمنة، وأن معظم سكانها "حوالي 90%" قد عادوا، "المنازل التي كانت خالية، أصبحت الآن مأهولة مجدداً".

لكن ّمئات الآلاف من سكان المدينة لا يزالون لاجئين في تشاد. وخلال تجوُّلنا في المدينة رأيت أحياء مهجورة ومدمَّرة.

مع وجود المراقبين معنا طوال الوقت، كان من الصعب تكوين صورة حقيقية عن الحياة في الجنينة. اصطحبونا إلى سوق خضار مزدحم حيث سألت الناس عن حياتهم.

في كل مرة أطرح فيها سؤالاً، كنت أرى الشخص الذي أسأله ينظر إلى المُرافق خلفي قبل أن يجيب أن "كل شيء على ما يرام". مع بعض التعليقات حول ارتفاع الأسعار.

لكنّ مرافِقي كان يهمس في أذني بعد ذلك ليخبرني أن الناس يبالغون بشأن الأسعار.

أنهينا زيارتنا بإجراء مقابلة مع والي غرب دارفور تجاني كرشوم، الذي قُتل سلفه في مايو/أيار 2023 بعد أن اتهم قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية.

كانت تلك أول مقابلة يجريها كرشوم بعد أحداث 2023، وأصرّ خلالها على أنه كان مدنياً خلال أحداث الجنينة ولم ينحَزْ إلى أي طرف.

" فتحنا صفحة جديدة شعارنا فيها السلام والتعايش وتجاوز الماضي بكل مراراته"، قال كرشوم الذي اعتبر أن أرقام الضحايا التي أعلنتها الأمم المتحدة "مبالغ فيها".

كان معنا في الغرفة شخصٌ فهِمنا أنه ممثل عن قوات الدعم السريع.

إجابات كرشوم على معظم أسئلتي كانت متطابقة تقريباً، سواء كنت أسأله عن اتهامات التطهير العرقي أو عما حدث للوالي السابق خميس أبكر.

بعد مقابلتي مع كرشوم بوقت قصير، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه، واتُّهِم بأنه "مسؤول عن مقتل سلفه" وأنه كان "متورطاً في التخطيط أو التوجيه أو ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، بما في ذلك القتل والاغتصاب وأشكال خطيرة من العنف الجنسي والاختطاف".

تواصلت معه للحصول على ردّه على هذه الاتهامات، فقال "لكن إذا تحدثتُ عن هذا الأمر فلن تكون هناك مصداقيةٌ إذ إنني متهَم... أنا لم أكن جزءاً من الصراع القبلي، ومنذ بدايته لازمت منزلي"، كما أضاف أنه "لم ينتهك القانون الدولي الإنساني".

"يجب التحقيق في الاتهامات بارتكاب جرائم قتل واختطاف واغتصاب من خلال تحقيق مستقل"، قال كرشوم، مؤكداً جاهزيته للتعاون.

"نحن سعينا منذ بدأت الأحداث في الخرطوم من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار والتعايش السلمي بين مكوناتنا. طرحنا مبادرات مشهودة من أجل ألا تحصل أي أحداث يدفع ثمنها أبناء الولاية" - أضاف كرشوم.

بالنظر إلى التباين الصارخ بين الرواية التي يروّج لها أولئك الذين يسيطرون على الجنينة الآن والقصص الكثيرة التي سمعتُها من اللاجئين عبر الحدود في تشاد، من الصعب تخيل عودة هؤلاء الأشخاص إلى ديارهم.

الأمر ينسحب على أكثر من 12 مليون سوداني فرّوا من منازلهم وباتوا إما نازحين في الداخل أو لاجئين في دول الجوار.

مع ازدياد القصف على الفاشر، لم يعد بإمكان مصطفى ومناهل وحفيظة البقاء، بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2024 غادروا جميعاً المدينة إلى مناطق أكثر أماناً في دارفور.

مع استعادة الجيش السيطرة على العاصمة الخرطوم في مارس/آذار، تبقى دارفور آخر منطقة كبرى لا تزال تحت سيطرة قوات الدعم السريع إلى حد كبير، ما حوّل الفاشر إلى ساحة معركة أكثر عنفاً.

"الفاشر أصبحت مخيفة"، تقول مناهل وهي تجهّز حقيبتها.

"نغادر ولا نعرف مصيرنا، هل سنعود إلى الفاشر أم لا؟ متى ستنتهي هذه الحرب؟ لا نعرف ماذا سيحصل، لكنّ شعور الرحيل صعب للغاية".

شارك في إعداد التحقيق: عبد الرحمن ابو طالب

بإمكانكم مشاهدة فيلم بي بي سي "داخل دارفور: حصار ومجازر" على قناة بي بي سي نيوز عربي على يوتيوب.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا