منذ بدأ الحديث عن احتمالات إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع المقاومة في غزة ظهرت المساومة الكبرى داخل حكومة نتنياهو بين اليمين واليمين المتطرف.
فمقابل مرونة ما باتجاه شروط وقف النار في غزة، طولب بتعويض كبير في الضفة الغربية، على نمط تكريس وتبديد، فتخفيف أوجه وشدة القتال في غزة، وترافق ذلك مع إطلاق يد الجيش وبحث كبير في الضفة الغربية وخصوصا في مخيماتها التي مثلت رأس حربة المقاومة خلال الحرب مثل مخيم جنين ومخيمي طولكرم ونور شمس.
تزامن ذلك أيضا مع أوسع حملة استيطانية منذ عقود في الضفة الغربية، ركزت على إنشاء وتوسيع ما بات يعرف بـ"البؤر الاستيطانية غير الشرعية". وقد حاول وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي يخدم أيضا وزيرا في وزارة الحرب، تلخيص أهدافه بقوله "سندمر هناك أكثر مما يبنون".
وهكذا في ظل الحرب الدائرة على قطاع غزة شنت إسرائيل حربا موازية لا تقل أهمية وإن كانت أقل صخبا في الضفة الغربية. وفضلا عن المصادرات العديدة لمساحات كبيرة من أراضي قرى وبلدات الضفة الغربية، أنشئت خلال عام 2024 وحده 60 بؤرة استيطانية جديدة. ويعتبر هذا العدد من البؤر الاستيطانية الأكبر في تاريخ الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية منذ احتلالها العام 1967.
وعلى سبيل المثال، منذ العام 1997 حتى العام 2023 أنشئت 284 بؤرة استيطانية، وفي العام 2024 فقط أنشئت 60 بؤرة. وحسب ما نشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية فإنه تحت رعاية الوزير سموتريتش، الملقب بوزير الأبارتهايد، صار بوسع المستوطنين فعل كل ما يحلو لهم فعله في الضفة الغربية، ليس فقط بناء بؤر استيطانية وإنما أيضا إحراق أشجار ومزارع وبيوت وتسميم قطعان ماشية وسرقتها ومطاردة القرويين الفلسطينيين في أرزاقهم، ومحاولة تحويل حياتهم إلى جحيم.
وكشفت العديد من التقارير والشهادات من جانب فلسطينيين وناشطين يساريين وصحفيين إسرائيليين، بل حتى من مستوطنين، أن العديد من البؤر الاستيطانية الجديدة أقيمت على أراض زراعية ورعوية لفلسطينيين، بالسيطرة على أراضيهم بالقوة، واقتلاع أشجارهم، وإغلاق الطرق التي يستخدمونها، وإقامة الأسوار التي تمنع الوصول إلى حقولهم.
كما أقيمت بعض البؤر الاستيطانية هذا العام، لأول مرة، في المنطقة "ب"، وهي منطقة في الأراضي الفلسطينية تقع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، ولكن تحت السيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية. وتوفرت شهادات تظهر أنه في العام الماضي طرأت زيادة حادة في أعمال العنف التي ارتكبها العديد من المستوطنين ضد الفلسطينيين. وفي بعض الحالات، قام المستوطنون بطرد الفلسطينيين من منازلهم لإقامة بؤر استيطانية.
وبموازاة ذلك وبحسب ما نشر في "يديعوت أحرونوت"، تم تشديد إجراءات إنفاذ القانون ضد الفلسطينيين الذين يقومون بالبناء في الضفة الغربية دون الحصول على تراخيص من السلطات الإسرائيلية بشكل كبير، وتم توسيع نطاق عمليات الإخلاء والهدم ضدهم. وكشف موقع "يديعوت أحرونوت" أن الإدارة المدنية الإسرائيلية التابعة لوزارة الدفاع والخاضعة لإمرة سموتريتش أصدرت في العام 2024، 642 أمر هدم لمنشآت الفلسطينيين في المنطقتين ج وب.
وبعد كل عملية للمقاومة في الضفة تنشط قطعان المستوطنين بدعم وتشجيع من جهات حكومية وعسكرية لتنفيذ غارات على القرى ثأرا من المنفذين ومحاولة إذاقة الفلسطينيين في الضفة بعضا مما شاهدوه يفعل في قطاع غزة.
ولم تكتف حكومة نتنياهو، كما سلف، بأفعال المستوطنين بل وجهت الجيش "لشن حرب" حقيقية في الضفة حيث باتت تعمل هناك 24 كتيبة من الجيش، تهاجم يوميا عدة قرى وأحياء ومخيمات في جميع مناطق الضفة الغربية. ومع ذلك جرى التركيز بشكل واضح على مخيمي جنين ونور شمس بسبب اشتداد المقاومة فيهما ضد الاحتلال ومنعا لتحول المخيمات إلى نماذج عامة في الضفة المحتلة.
وفي سياق التباري مع سموتريتش عمد وزير الحرب الليكودي، يسرائيل كاتس، إلى الإعلان عن عملية "السور الحديدي" العسكرية وتوسيعها. وبموجب هذه العملية التي بدأت منذ شهور تواصل قوات الجيش الإسرائيلي والشاباك وحرس الحدود عملياتها في الضفة الغربية بزعم "إحباط الإرهاب" هناك. ويتضح أن الأسلوب الذي تعمل وفقه هذه القوات في الضفة هو مزيج بين نهجين استخدما في قطاع غزة منذ السبعينيات وحتى اليوم.
ففي السبعينيات وتحت قيادة أرييل شارون كقائد للجبهة الجنوبية وفي مواجهة ظاهرة الفدائيين عمد إلى احتلال المخيمات وتخفيف كثافة سكانها بإنشاء شوارع عريضة تهدف أولا إلى هدم أكبر عدد من بيوت المخيم وتسهيل سيطرة الجيش على مربعاته.
وفي الحرب الأخيرة على غزة اتبع الاحتلال أسلوب تهجير السكان وهدم بيوتهم في محاولة للقضاء على المخيمات ولمنع استمرار وجودها كعنوان لقضية اللاجئين. وبدا واضحا في غزة، كما في الضفة الغربية، أن الأمر مرتبط أيضا بحملة الاحتلال الشعواء ضد وكالة الغوث (الأونروا) بوصفها عنوانا لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها عام النكبة.
وبحسب آخر ما نشر من أنباء عن الحملة العسكرية في الضفة وخصوصا على مخيمات اللاجئين فيها، أنه وللمرة الأولى منذ احتلال الضفة عام 1967 ترسل إسرائيل دبابات إلى مخيم جنين في إشارة إلى نيتها "سحق المقاومة". وطبيعي أن استخدام الدبابات بعد الطائرات الحربية والمسيرات والوحدات الخاصة يعطي الانطباع للجميع أن إسرائيل تخوض حربا شاملة هناك.
وكان وزير الحرب يسرائيل كاتس أعلن عن توسيع العملية العسكرية في الضفة، موحيا أنها جزء من حرب عالمية ضد الإرهاب. وقال: "نحن في حرب ضد الإرهاب الإسلامي في الضفة الغربية. لقد أصدرت تعليماتي للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للبقاء لفترة أطول في المخيمات التي تم إخلاؤها خلال العام المقبل، وعدم السماح للسكان بالعودة ونمو الإرهاب مرة أخرى".
وأضاف، في نوع من التفاخر الدال على هدفه الحقيقي، أن 40 ألف فلسطيني نزحوا حتى الآن من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، وأن هذه المخيمات أصبحت خالية من السكان، كما تم تعليق أنشطة وكالة الغوث فيها.
وأشار كاتس إلى أن "الجيش الإسرائيلي، في عملياته الهجومية، يطهر أوكار الإرهابيين ويدمر البنية التحتية والمنشآت الإرهابية والأسلحة على نطاق واسع. لن نعود إلى الواقع الذي كان موجودا في الماضي".
وتابع "سنواصل تطهير مخيمات اللاجئين وغيرها من بؤر الإرهاب من أجل تفكيك الكتائب والبنى التحتية الإرهابية للإسلام المتطرف التي تم بناؤها وتسليحها وتمويلها وتدريبها من قبل المحور الشرير الإيراني، في محاولة لإقامة جبهة إرهابية شرقية ضد المستوطنات في السامرة وخط التماس والمراكز السكانية الكبرى في إسرائيل. سنواصل نشاطاتنا حتى القضاء على الإرهاب".
وكشف موقع "والا" الإخباري النقاب عن أن وزير الحرب أمر بتطوير خطة لتكون بمثابة المرحلة الثانية من عملية "السور الحديدي"، وفي إطارها ستتم دراسة إنشاء مواقع ثابتة "لمنع عودة الإرهابيين الهاربين". كما أصدرت القيادة السياسية تعليماتها لقوات الجيش الإسرائيلي بالبقاء في مخيمات اللاجئين ومواصلة العمل في المنطقة، إذ هناك مخاوف في المؤسسة الأمنية من عودة الأسرى الفلسطينيين المحررين إلى النشاط العسكري.
ومن الوجهة السياسية، فإن عملية "السور الحديدي" العسكرية هي أقرب إلى نوع من إعلان فشل الاعتماد على أجهزة الأمن الفلسطينية في المنطقة "أ" تحديدا، حيث تجري أغلب عمليات الجيش الإسرائيلي. كما أن الإعلان عن اعتزام الجيش الإسرائيلي الاحتفاظ بوجود دائم هناك، من أجل منع خلق فراغ أقرب إلى رسالة موجهة أيضا إلى الرأي العام الفلسطيني، حتى يتمكن من ممارسة الضغط الداخلي على السلطة الفلسطينية لزيادة جهودها لإحباط عمليات المقاومة.
في كل حال لا يمكن فصل الإجراءات العسكرية وتهجير السكان من مخيمات الضفة عن مساعي إسرائيل وأميركا لشطب قضية اللاجئين عموما وتجريم عنوانها الدولي ممثلا بوكالة الغوث، وما الإجراءات الجارية هناك حاليا إلا خطوة تصعيدية جديدة في هذا السياق تتمثل بإخلاء مخيمات اللاجئين في شمال الضفة وفرض قيود على الأونروا، في مسعى واضح لإنهاء دور المخيمات كرمز لحق العودة الفلسطيني.
ومنذ بدء العملية العسكرية في شمال الضفة الغربية، بالتوازي مع وقف إطلاق النار في غزة، جرى التركيز على إخلاء 4 مخيمات رئيسية: مخيم جنين ومخيم طولكرم ومخيم نور شمس ومخيم الفارعة قرب نابلس، ولم تكن مصادفة في هذا السياق مبادرة نتنياهو نفسه لالتقاط صور له في بيت تم احتلاله في مخيم طولكرم وإشارته شخصيا إلى توسيع العملية العسكرية لتشمل أيضا مخيم الفارعة بالاسم.
وكانت وكالة "الأونروا" قد حذرت في تقرير لها من أن المخيمات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية تقترب من أن تكون شبه غير صالحة للسكن بعد أسابيع من الدمار المستمر، الذي أجبر عشرات الآلاف من سكانها على النزوح منها.
وأوضحت الوكالة أن العملية العسكرية الإسرائيلية في مخيم جنين منذ 21 يناير/كانون الثاني 2025 تُعد الأطول منذ الانتفاضة الثانية، مما أدى إلى تشريد الآلاف من سكان المخيمات، خاصة في جنين ونور شمس وطولكرم والفارعة.
وأشارت إلى أن التصعيد الإسرائيلي لم يقتصر على استهداف السكان والمنازل، بل امتد ليشمل مرافق "الأونروا" نفسها حيث اقتحمت قوات الاحتلال مراكز صحية واستخدمتها مراكز احتجاز وتحقيق.
وقد حذر المعلق العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي من أن إجراءات العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين في مخيمات الضفة سوف ترتد بأضرار على إسرائيل نفسها، وأن هذه هي خلاصة ما تم فعله في الماضي في قطاع غزة.
ويرى بن يشاي أن "المشكلة هي أن جرعة العقاب الجماعي التي لا تؤثر على الإرهابيين فحسب، بل أيضا على أولئك غير المتورطين في الإرهاب، كبيرة للغاية وقد ترتد على إسرائيل وتلحق بها ضررا كبيرا".