ردود الفعل الأولية في اليوم التالي للجولة الأولى كانت قد أشارت إلى قدرٍ من الارتياح، مع ارتفاع أسعار الأسهم وتعافي اليورو مع تلاشي بعض السيناريوهات الكابوسية التي كانت متوقعة قبل الانتخابات.

في الجولة الأولى برز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا باعتباره القوة الأقوى في تلك الجولة من أصل جولتين من التصويت، حيث حصل على نحو 34 بالمئة من الأصوات على مستوى البلاد. وجاء التحالف المؤقت للقوى التقدمية المعروف باسم الجبهة الشعبية الجديدة في المركز الثاني بنسبة 28 بالمئة، بينما جاء ائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون الليبرالي (معا)، في المركز الثالث بنسبة 20بالمئة تقريباً.

لكن نظام التصويت في فرنسا الذي يتألف من جولتين يجعل من المستحيل تقريباً استقراء التقسيم النهائي للمقاعد بعد جولة الإعادة التي ستجرى اليوم الأحد 7 يوليو، فيما تقدر ثلاث من أكبر شركات استطلاع الرأي في البلاد أن حزب التجمع الوطني قد يحصل على ما بين 230 و295 مقعداً.

ونظراً لأن الأغلبية تحتاج إلى 289 مقعداً، ونظراً للنطاق الهائل للتصويت التكتيكي في الجولة الثانية، فإن حزب التجمع الوطني لن يحصل إلا على فرصة ضئيلة لتشكيل الحكومة القادمة بمفرده. وبناء على ذلك، فإن حالة عدم اليقين ــ التي تكرهها الأسواق أكثر من أي شيء آخر ــ سوف تستمر، وفق تحليل نشرته politico.

السيناريوهات المحتملة

ولكن أياً من السيناريوهات المحتملة لا يبدو جذاباً للأسواق؛ فحتى حكومة من حزب واحد بقيادة الحزب الوطني الفرنسي من شأنها أن تضع فرنسا في حالة من الجمود الفعلي لمدة عامين؛ نظراً للسلطات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية بموجب الدستور الفرنسي.

ووفق أستاذ القانون والاقتصاد في جامعة HEC Paris، أرمين شتاينباخ، فإن الأمثلة السابقة للتعايش -حيث تكون الحكومة والرئيس من حزبين مختلفين- ربما نجحت إلى حد ما، لكن من غير المرجح أن يكون هذا هو الحال هذه المرة؛ نظرا للاختلافات الإيديولوجية الشاسعة بين ماكرون وزعيمة الجبهة الوطنية لوبان.

وفي تعليقات عبر البريد الإلكتروني، قال شتاينباخ: "إن السياسة الخارجية ستخلق الكثير من المشاكل"، من ترشيح مفوضية جديدة للاتحاد الأوروبي في بروكسل إلى الاستمرار في تمويل أوكرانيا.. وفي المقابل، سيؤخر ماكرون مشاريع البحرية الملكية، ولن يوقع على القوانين أو يدعو المجلس الدستوري.. وسوف يشل عمل الحكومة".

لكن السياسة الاقتصادية قد تشهد نهجا أكثر إيجابية بعض الشيء؛ فإذا تمكنت لوبان من تنصيب تلميذها جوردان بارديلا رئيسا للوزراء "فمن المرجح أن تركز على الفوز في الانتخابات الرئاسية للعام 2027، والبقاء على المسار الأكثر اعتدالا الذي أشارت إليه خلال الحملة"، كما قال هولجر شميدينج، كبير خبراء الاقتصاد في بنك بيرينبيرج، في مذكرة للعملاء يوم الاثنين الماضي.

ومن المفارقات هنا أن التهديد الأعظم للاستقرار المالي الفرنسي قد لا يكون زعيماً واحداً، بل غياب زعيم على الإطلاق.

وأشار شميدينج إلى أن الحكومة التي تواجه جموداً سياسياً قد تجد نفسها معرضة للهجوم من الجانبين، من جانب حزب الحرية والعدالة والتجمع الوطني. ورغم أن الحزبين قد يكونان "متعاكسين تماماً" في قضايا مثل الهجرة والثقافة، إلا أنهما عارضا إصلاحات ماكرون المؤيدة للنمو، وقد يتحديان تكتيكياً في قضايا مثل إصلاح نظام التقاعد ودعم الطاقة لتفكيك عمل الحكومة السابقة.

وإذا حدث ذلك، فإن المخاوف طويلة الأجل التي أزعجت السوق لسنوات سوف تصبح فجأة أكثر إلحاحاً، وليس فقط في سياق فرنسي ضيق.

ارتفاع الديون

وفي تقريره الاقتصادي السنوي الذي صدر يوم الأحد، حذر بنك التسويات الدولية من أنه "في الحالات القصوى، إذا أدى ارتفاع الديون إلى شل مصداقية السياسة المالية أو الجدارة الائتمانية للدولة، فقد يعرقل السياسة النقدية.. كما أن تشديد السياسة النقدية من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم هذه المخاوف وتغذية التضخم، عادة من خلال خفض سعر الصرف بشكل غير منضبط".

ووفق politico فإنه لا شك أن منطقة اليورو نضجت منذ الأزمة الأخيرة في عام 2011، الأمر الذي أدى إلى خلق ما يصفه بعض المشاركين في السوق بـ"سلسلة من الحواجز أو الحواجز الداعمة" لطمأنة المستثمرين. فضلاً عن ذلك، يبدو أن البنوك الأوروبية في وضع أفضل كثيراً للتعامل مع التقلبات المستمرة مقارنة بوضعها أثناء أزمة الديون السيادية. ولكن هذا قد لا يكون كافياً لتجاوز كل أوجه القصور المتبقية في الاتحاد النقدي، أو لمنعه من التدمير على يد أحد أعمدة اقتصاده.

التعاون والتعاضد أم المواجهة؟

إن أغلب الحواجز والآليات الجديدة التي وضعتها منطقة اليورو، مثل آلية الاستقرار الأوروبي أو المرافق المختلفة التي أنشأها البنك المركزي الأوروبي لشراء السندات والحفاظ على تكاليف الاقتراض تحت السيطرة، تفترض موقفاً تعاونياً من أي حكومة تمر بمشكلات خطيرة بما يكفي لتحتاج إلى مثل هذه الحواجز والآليات.

ولكن برامج كل من حزبي الجبهة الوطنية والجبهة الوطنية الاشتراكية لا تسمح للمستثمرين بفرض مثل هذا التعاون ــ أو أي شيء لوقف الزيادة المستمرة في أعباء الديون الفرنسية.

على سبيل المثال، وعد كلا الحزبين في حملاتهما بإلغاء قرار ماكرون بزيادة سن التقاعد من 62 إلى 64 عاما، وهو جزء أساسي من جهود الرئيس الفرنسي لخفض العجز.

علاوة على ذلك، فشل ماكرون في السيطرة على العجز المزمن في ميزانية فرنسا. فقد خفضت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني طويل الأجل للبلاد في بداية يونيو، قائلة إن: "سجل فرنسا في مجال ضبط الميزانية على مدى العقود الماضية كان ضعيفاً.. ولم تسجل فائضاً أولياً في الميزانية منذ عام 2001".

حتى اندلاع الأزمة المالية العالمية، كان الدين العام في فرنسا مماثلاً تقريباً لديون ألمانيا. ولكن منذ ذلك الحين، وبينما عملت ألمانيا على تقليص الإنفاق بشدة للحفاظ على الدين دون 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفع الدين العام في فرنسا إلى 110بالمئة.

وفي الاتحاد الأوروبي، لا توجد سوى إيطاليا واليونان اللتين تتمتعان بنسب ديون أعلى، في حين أصبحت كومة الديون الفرنسية الآن الأكبر في أوروبا من حيث القيمة المطلقة، حيث بلغت 3.1 تريليون يورو.

والأمر الحاسم هنا هو أن باريس، في ضوء الاتجاهات الحالية، لا تستطيع تحديد اللحظة التي قد تبدأ فيها الأمور في التحسن.

السيناريو الأسوأ

إن السيناريو الأسوأ، والذي قد يؤدي فيه الاختيار السياسي غير المسؤول أو غير المناسب إلى لحظة "ليز تروس" حيث يتسبب "حراس السندات" في فوضى في السوق من خلال التخلص من الديون الفرنسية، لا يزال احتمالاً بعيداً.

ولكن الأسواق قد تستيقظ على احتمال أن يكون الجمود في الأمد البعيد أسوأ من ذلك بالنسبة لمالية فرنسا.