يعكس سعر صرف العملة الفنزويلية، البوليفار، عمق الأزمة التي تعيشها البلاد في الوقت الحالي، ورحلة صعود وهبوط اقتصاد فنزويلا التي تمتلك أكبر احتياطي عالمي من النفط لكن أغلب مواطنيها لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الأساسية.
وتقدم بيانات صندوق النقد الدولي صورة واضحة عن الأزمة في فنزويلا، وذلك وفق آخر البيانات المتاحة للصندوق في أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري حيث:
ويتقاضى العاملون، الذين يحصلون على الحد الأدنى من الأجور أقل من دولار واحد شهريا، تقريبا نحو 60 سنتا، وفق سعر صرف البوليفار مقابل الدولار حاليا، وتقدم الدولة مكافأة شهرية لأصحاب معاشات التقاعد تبلع نحو 50 دولارا شهريا، حسب ما أوضحت فايننشال تايمز.
ولتوضيح معاناة الفنزويليين لشراء الطعام، ذكرت فايننشال تايمز أنه حاليا في متاجر العاصمة كاراكاس:
مما يعني أن أغلب الفنزويليين القادرين على العمل لا يستطيعون شراء كل ما يحتاجون إليه من طعام، علاوة على وجود نسبة كبيرة من البطالة.
ولم يصل الفنزويليون إلى هذه الأزمة المعيشية بين يوم ليلة، فقد استغرقت رحلة الانهيار الاقتصادي عقودا طويلة، انتقلت فيها فنزويلا من مرحلة الازدهار الاقتصادي إلى مرحلة الأزمة الواسعة، ثم أخيرا مرحلة الانهيار التي تعيشها حاليا.
وانهار، خلال هذه الرحلة، سعر صرف عملة فنزيلا، حيث كان يبلغ نحو 2.15 بوليفار لكل دولار خلال سنوات الازدهار، ليصل إلى نحو 288 بوليفارا للدولار الواحد حاليا، وهو تراجع كبير في دولة نفطية لم تدخل حروبا أو تواجه كوارث طبيعية.
شهدت فنزويلا خلال حكم الرئيس السابق هوغو شافيز، التي استمرت من عام 1999 إلى 2013، ازدهارا اقتصاديا، وكانت أحد أكثر دول أميركا الجنوبية ثراء، ومقصدا لكثير من المهاجرين من دول أخرى مجاورة بحثا عن فرص حياة أفضل.
وخلال سنوات حكم شافيز بلغت صادرات فنزويلا من النفط نحو 3 ملايين برميل، وفقا لبيانات المرصد الاقتصادي، وتراجع الإنتاج إلى نحو 2.3 مليون يوميا قبل بدء الأزمة في عام 2014 نتيجة ضعف الاستثمارات في حقول النفط.
وكان سعر صرف البوليفار خلال حكم شافيز في حدود 2.15 بوليفار للدولار الواحد، قبل أن يتم تخفيضه عدة مرات، اعتبارا من عام 2009، ليصل إلى 4.3 بوليفارات للدولار الواحد، ثم 6.3 بوليفارات للدولار بنهاية حكمه عام 2013، حسب بيانات موقع "فنزويلا أناليزيس" المتخصص في متابعة التطورات في فنزويلا.
ومع توافر عائدات ضخمة من النفط، توجه شافيز إلى تنفيذ مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ترضي قاعدته الشعبية، ومن أبرزها دعم أسعار البنزين والكهرباء بشكل سخي للغاية.
ووفق بيانات المرصد الاقتصادي، كان البنزين المدعوم من الدولة خلال سنوات حكم شافيز هو الأرخص في العالم، وكان يتم تهريب ما يقدر بنحو 100 ألف برميل من النفط يوميا عبر الحدود إلى البرازيل وكولومبيا يوميا، حيث يُعاد بيعه لتحقيق أرباح، مما أدى إلى خسارة الخزانة الفنزويلية لمليارات الدولارات.
وتجاوزت قيمة الدعم الذي قدمته الدولة للمحروقات والكهرباء والغذاء نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض السنوات، وهو ما يمثل أكثر من نصف العجز المالي في هذه الفترة، وفق المرصد الاقتصادي.
ولمواجهة هذا العجز قامت الحكومة، وفق ما ذكره المرصد الاقتصادي، بتحميل شركة النفط الفنزويلية "بتروليوس دي فنزويلا" المملوكة للدولة قروضا بقيمة 100 مليار دولار.
ولم يقم شافيز باقتطاع جزء من عائدات النفط في صناديق استثمارية خاصة لمواجهة آثار الانخفاض المحتمل في أسعاره، وهو ما فعلته أغلب الدول النفطية، بل على العكس توسع في النفقات العامة والديون.
وفي الوقت ذاته قام شافيز بحركة تأميم واسعة شملت الكثير من المصانع والأراضي الزراعية، مما دفع الكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى الهجرة لدول أخرى، أبرزها الولايات المتحدة.
نتيجة السياسات التي اتبعها شافيز لم تكن كاراكاس مستعدة لمواجهة تبعات انخفاض سعر النفط من 100 دولار للبرميل إلى 40 دولارا في صيف 2014 مما أدخل البلاد في أزمة اقتصادية واسعة، كان على الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي تولى الحكم في 2013، اتباع سياسات مختلفة لاحتواء آثارها.
لكن مادورو لم يفعل حرصا على إرضاء القاعدة الشعبية التي يستند إليها تمام مثل شافيز، غير أن الحكومة اضطرت إلى خفض مخصصات النقد الأجنبي للواردات مع تراجع إيرادات النفط، مما أدى إلى نقص المعروض من مختلف السلع في الأسواق. كما رفض مادورو خفض الدعم بشكل مؤثر، وكانت النتيجة أن زاد العجز المالي للدولة.
واتسع نطاق الأزمة، وفق المرصد الاقتصادي، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة بلغت 17% في عام 2016 و16% في عام 2017، وكانت النتيجة أن طلبت الحكومة من البنك المركزي التوسع في طباعة النقود بصورة أدت إلى زيادة كبيرة في المعروض النقدي، وهو ما أدى بدوره إلى ارتفاع كبير في مستويات التضخم، وتراجع قيمة البوليفار إلى مستوى 10 بوليفارات للدولار الواحد، وفقا لموقع "إكس شانج رات" البريطاني المختص بأسعار العملات في مطلع عام 2017.
وارتفعت الأسعار بنسبة 50% شهريًا بحلول نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، مع استمرار طبع النقود بشكل يفوق كثيرا حجم الناتج المحلي الإجمالي، مما تسبب في دخول فنزويلا مرحلة من التضخم الجامح.
وقررت الحكومة في عام 2018 إزالة 5 أصفار من قيمة البوليفار، وإصدار عملة جديدة، إذ كان سعر الدولار قبلها يعادل مليون بوليفار، وأصبح 10 بوليفارات، وانخفض سعر الصرف لاحقا ليصل إلى 40 بوليفارا بنهاية عام 2017، واستمر التراجع ليصل إلى 43 بوليفارا للدولار الواحد في عام 2018.
كانت الضربة القاسية التي تلقاها اقتصاد فنزويلا هي العقوبات التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2019، خلال فترة رئاسته الأولى، على شركة النفط الفنزويلية، وأدت فعليا إلى منع كاراكاس من بيع النفط بشكل رسمي في الأسواق العالمية.
واضطرت شركة النفط الفنزويلية إلى بيع إنتاجها في السوق السوداء بسعر يقل كثيرا عن السعر الرسمي بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية وتوفير موارد للدولة التي يعتمد اقتصادها على النفط.
ومع استمرار الضغوط الأميركية من جانب، وضعف الاستثمارات في حقول النفط من جانب آخر، تراجع إنتاج فنزويلا من النفط ليبلغ نحو 900 ألف برميل يوميا، حسب ما ذكرته فايننشال تايمز، قبل الحصار الذي فرضته واشنطن مؤخرا على ناقلات النفط الفنزويلية في البحر الكاريبي.
وتشدد إدارة ترامب ضغوطها على نظام مادورو، حيث قال ترامب -اليوم الثلاثاء- إنه سيكون من "الذكاء" أن يتخلى مادورو عن السلطة، وفق ما نقلته رويترز، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة ربما تحتفظ بشحنات النفط التي صادرتها قبالة ساحل فنزويلا.
وفي حين تتواصل ضغوط ترامب على مادورو، تستمر معاناة الفنزويليين مع ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة العملة، في الوقت الذي ترقد فيه بلادهم على ثروة نفطية هائلة.
وفي ظل هذه الأوضاع استمرت العملة الفنزويلية في التراجع وسجل البوليفار اليوم الثلاثاء سعر 288 بوليفارا للدولار الواحد، وفق موقع "وايز" لأسعار صرف العملات، في حين أكد خبراء لفايننشال تايمز أنه في حال توقف تصدير نفط فنزويلا، مع تشديد الحصار الأميركي، سيكون الأمر كارثيا لاقتصادها، وسينعكس الأمر على مختلف المؤشرات الاقتصادية، ومنها سعر صرف البوليفار.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة