لم يعد الصراع بين بكين و واشنطن مجرد حرب تجارية بالمعنى التقليدي، بل تحوّل إلى منافسة نفوذ اقتصادية عالمية تحكمها تشابكات المصالح وسلاسل الإمداد، وتستند إلى مبدأ جديد يمكن وصفه بـ"الردع بالتشابك" بدلًا من "الردع بالتدمير".
فكلا الطرفين يمتلك أدوات قادرة على إيلام الآخر، لكن استخدامها الكامل قد يرتدّ على الاقتصاديْن معًا، لذا تتجه القوتان إلى تصعيدٍ محدود متكرر يولّد اضطرابا مُدارا لا يفضي إلى انهيار شامل، بل يعيد رسم توازنات النفوذ عبر ضغط محسوب ومستمر.
في هذه المواجهة، لم تعد الغاية تدمير الخصم، بل تطويعه من خلال استنزاف جزئي يفرض عليه التنازل التدريجي، مع الحفاظ على القنوات التجارية والمالية مفتوحة.
وهكذا تحوّل الاضطراب إلى أداة مقصودة بحد ذاتها، تُستخدم لإجبار الطرف الآخر على التكيّف لا للاستسلام.
وتحوّل الاعتماد الاقتصادي بين الصين و الولايات المتحدة إلى سلاح ضغط متبادل، فبدلًا من السعي لتقليل التشابك، يُستثمر هذا الترابط في محاصرة الخصم من الداخل.
يدرك الطرفان أن أي انهيار كبير في أحد الاقتصادين سينعكس فورًا على الآخر، لذلك أصبح الربح التكتيكي يقاس بقدرة الدولة على توليد الاضطراب لا تجنبه.
وتواجه القيادتان معضلة واحدة: التصعيد ضروري لحفظ المصداقية السياسية.
وترى بكين أن اختبار قدرة واشنطن على تحمّل الألم قد يدفعها إلى التنازل، في حين تميل واشنطن إلى الخلط بين الضغط والإستراتيجية، لتتحوّل العلاقة إلى مواجهة إرادات مفتوحة يُستخدم فيها الحوار أداة ضغط لا وسيلة تهدئة.
وتكشف القمم والاتصالات المستمرة بين الجانبين رغم التصعيد عن حقيقة أعمق: أن المواجهة أصبحت جزءًا من الترتيب لا خروجا عنه. فالإيقاع الحاكم اليوم يقوم على ثلاث مراحل متكررة: تصعيد، ثم استيعاب، فاستقرار مؤقت.
وما يبدو للوهلة الأولى اضطرابًا، هو في جوهره نظام منظم للفوضى يُختبر فيه كل طرف حدود الطرف الآخر دون كسر القواعد أو قطع الجسور.
تتبنى بكين إستراتيجية الاستنزاف التكتيكي بدلًا من المواجهة الشاملة، فهي لا تسعى لتدمير الاقتصاد الأميركي، بل لإرباك قطاعاته الحيوية ودفعه إلى التفاوض من موقع أضعف
وتتبنى بكين إستراتيجية الاستنزاف التكتيكي بدلًا من المواجهة الشاملة، فهي لا تسعى إلى تدمير الاقتصاد الأميركي، بل إلى إرباك قطاعاته الحيوية ودفعه إلى التفاوض من موقع أضعف. وتستند هذه الإستراتيجية إلى 7 أسلحة اقتصادية رئيسية:
يُعد هذا السلاح رأس الحربة في ترسانة بكين الاقتصادية، حيث تسيطر الصين على نحو 85% من عمليات معالجة المعادن الأرضية النادرة وحوالي 92% من إنتاج المغناطيسات العالية الأداء، وتؤمّن نحو 90% من المعروض العالمي لبعض العناصر الحيوية المستخدمة في الصناعات الدفاعية والتكنولوجية.
هذا يمنحها قدرة على فرض قيود تصدير وتشديد الموافقات الحكومية على المبيعات الحساسة بما يشمل مكونات الطائرات والبطاريات والرقائق.
وقد تسبب ذلك في ارتفاع الأسعار بنسب وصلت إلى خمس مرات لبعض المواد، وفي حالات قصوى بلغ ارتفاع الساماريوم 60 ضعفًا.
ونظرًا لأن تصنيع مقاتلة إف-35 الأميركية يتطلب أكثر من 400 كيلوغرام من هذه المعادن من أكثر من ألف مورد خارجي، فإن أي اختناق في السلسلة يُربك الجداول ويزيد التكاليف، في حين تشير التقديرات إلى أن تحقيق الاستقلال الأميركي في هذه المواد قد يستغرق من 15 إلى 20 عامًا.
تعتمد صناعة الرقائق على عناصر نادرة مثل الغاليوم والجرمانيوم والإيتريوم، وتنتج الصين 98% من الأول و68% من الثاني على مستوى العالم.
هذا يمنح بكين سيطرة شبه مطلقة على المواد الأولية الحيوية لصناعة التكنولوجيا المتقدمة.
كما تمتلك الصين نحو 15% من القدرة التصنيعية العالمية للرقائق مقابل 12% للولايات المتحدة بعد أن كانت 37% في التسعينيات.
وتستخدم بكين هذه الهيمنة لإحداث اختناقات مدروسة في مراحل التجميع والمعالجة، مما يرفع الكلفة ويؤخّر التسليم دون أن يوقف النظام تمامًا.
تمتلك الصين نحو 15% من القدرة التصنيعية العالمية للرقائق مقابل 12% للولايات المتحدة بعد أن كانت 37% في التسعينيات
تهيمن الصين على أكثر من 80% من مراحل التصنيع الشمسي، من معالجة السيليكون إلى صناعة السبائك والرقائق والتجميع النهائي.
وتقترب حصتها في البوليسيليكون من 95% عالميًا، أي أن أي تضييق في الفحوص أو المواصفات يمكن أن يبطئ مشاريع التحول الطاقي في الغرب ويرفع كلفتها بشكل كبير.
يمثل الغرافيت مادة أساسية في البطاريات الكهربائية، خاصة في القطب السالب، وتتحكم الصين في 70% إلى 90% من إنتاجه ومعالجته عالميًا.
أي تشديد في صادراته يؤدي إلى ارتفاع كلفة البطاريات وتباطؤ إنتاج السيارات الكهربائية، مما يهدد خطط التحول الأخضر الأميركية والأوروبية.
فول الصويا من أبرز أدوات الضغط الزراعي الصينية، فقد أوقفت بكين مشترياتها من الولايات المتحدة واتجهت نحو البرازيل ودول أخرى، مما تسبب في أزمة سيولة وتسويق لدى المزارعين الأميركيين، ودفع واشنطن إلى إطلاق حزم دعم تتجاوز 50 مليار دولار لتخفيف الأثر.
وبذلك تحوّل الملف الزراعي إلى ورقة ضغط داخلية مؤلمة في السياسة الأميركية.
تسيطر بكين على 70%-80% من السوق العالمية للمُسيّرات والكاميرات المتقدمة وأنظمة التوجيه.
ويُقدّر حجم سوق المُسيّرات في الصين بنحو 9.7 مليارات دولار في 2024، مع توقع تجاوزه 22 مليارًا بحلول 2030.
وأي تشدد صيني في تراخيص المكونات الحساسة يؤدي إلى تأخيرات مكلفة في التسليم والصيانة داخل الصناعات الغربية.
تستخدم الصين احتياطاتها الضخمة من النحاس والألومنيوم والحبوب والنفط كأداة للتأثير السعري عالميًا، فعندما ترفع وتيرة الشراء ترتفع الأسعار، وعندما تفرج عن مخزونها تتراجع.
هذه السياسة تجعلها قادرة على إرباك الأسواق العالمية والتحكم في إيقاع التضخم و سعر الصرف ، لتتحول إلى لاعب اقتصادي يفرض الإيقاع بدل أن يتبعه.
تستخدم الصين احتياطاتها الضخمة من النحاس والألومنيوم والحبوب والنفط أداة للتأثير السعري عالميا، فعندما ترفع وتيرة الشراء ترتفع الأسعار، وعندما تفرج عن مخزونها تتراجع
المسار بين القوتين يتراوح بين 7 سيناريوهات محتملة:
ما يجري بين واشنطن وبكين هو سباق على إدارة الألم لا تجنبه، إذ تمتلك واشنطن أدوات الضغط المالي والتقني من خلال الدولار والتكنولوجيا، لكن مفاتيح المواد الخام وسلاسل الإنتاج تميل لصالح الصين التي بنت نفوذها داخل شبكات الندرة والإمداد.
تتحرك بكين بهدوء وثبات، تضيّق على صادرات المعادن والمغناطيسات والبطاريات، وتطيل زمن التفريغ الجمركي، وتستخدم مخزوناتها الإستراتيجية لخلق اضطراب متحكمٍ به يربك خصمها دون إغلاق الأبواب.
في المقابل، تبدو واشنطن أقل قدرة على تحمل التصعيد وأبطأ في إيجاد البدائل، مما يجعل كفة الصين أرجح في هذه المرحلة من "الردع بالتشابك".
فالغلبة اليوم لا تُقاس بمن يرفع صوته أكثر، بل بمن يملك البدائل الواقعية والاستعداد المسبق لإدارة الندرة.
ما يجري بين واشنطن وبكين هو سباق على إدارة الألم لا تجنبه، إذ تمتلك واشنطن أدوات الضغط المالي والتقني من خلال الدولار والتكنولوجيا، لكن مفاتيح المواد الخام وسلاسل الإنتاج تميل لصالح الصين التي بنت نفوذها داخل شبكات الندرة والإمداد