وكأن ديوانا واحدا عن الحب لا يكفي، وهو كذلك فعلا، فالحب الذي يَنشُده ويُنشِده الشاعر زهير أبو شايب لا ينتهي، فهو حب مثالي يسع الكائنات، وإن كانت المرأة فيه اختزالا ورمزا تتعدد دلالاته لهذا الحب.
أبو شايب، وبعد أن شَيَّد معمارا للحب في "مطر سري"، يواصل في جديده "تاريخ العطش" الصادر عن الدار الأهلية، كتابة ملحمة غنائية يتعانق فيها الإيقاع الساحر الذي دأب عليه منذ دواوينه الأولى مع الأسطورة، كما يتكرر في قصائده استدعاء كبار المحبين، وفي مقدمتهم المسيح رمزا للحب.
"تاريخ العطش"، وإن كان ديوان غزل وحب، إلا أن الوجع الفلسطيني وحيرة المنفي مما هو قائم وقادم، والعجز أمام جرح غزة النازف، ثيمات كان لها حضورها في الديوان عبر قصائد حملت عنوانا موحيا ودالا على العجز وقلة الحيلة: "يسير داخل نفسه". وكما بدأ مجموعته بفلسطين أنهاها بها.
إنه ديوان آسر يبلغ فيه الشاعر منتهى "اللذة" بما هي ذروة مقصد الشاعر، فيُوصل المتلقي معه إلى الذروة نفسها أيضا، في قصائد فارهة مرهفة، مشحونة ومفعمة، هي حفيدة الماء وسيدة الأنواء.
تحضر فلسطين ومأساتها الممتدة في قصائد تشكّل مستهلَّ الديوان وختامه، ألما لا يكاد ينتهي. ويتوقف الشاعر في قصيدة أولى متأملا غدا لا يأتي، يعلّق فيه الجميع في الفراغ بلا ماضٍ ولا مستقبل، حيث تبدو الأمور ملتبسة، ويكاد الحلم يهرب.
يقول في "لموتى قدامى":
ما من غد يأتي
علقنا في فراغ بلا ماض ولا مستقبل
لكننا لم ندر أين،
أنحن موجودون أم موتى قدامى يملأون الذكريات؟
طل يا ليل،
طل حتى نرى حلما، ولو حلما
وحتى، حين يبحث بعضنا عن بعضنا،
ينسى تماما كيف جاء
وأين ضيع نفسه
ومتى
وكم سيموت وهو يسير داخل نفسه!!
يستدعي صاحب "الأحوال والمقامات" المسيح رمزا من رموز الحب في قصيدة "نهر الله"، وهي أولى مفردات "العطش". ويتكرر حضور المسيح في قصائد كثيرة من الديوان، كما أن نهر الله فيه إحالة إلى نهر الأردن، فهو:
نهر المريميات الذي ينبع من أعلى الأساطير
ويجري في المجرات
وحيدا كيسوع ما
صلبناه على الماء
وعلمناه تاريخ العطش
سر بنا كي نعبر الأردن من بوابة القلب
خفافا ومضائين بلا أي غبش
يفتح الحائز على "جائزة محمود درويش" في قصيدة "عتمة الذئب" بابا للتأويل، عن عتاب شعري بين مختلفَين هما في جوهرهما واحد. والمختلفان فلسطينيان، قد يكونان شاعرين يختلفان سياسيا، وربما تكون إشارة إلى الانقسام الفلسطيني. ومن القصيدة:
مثلما كنت وحدك في غربة
كنت وحدي
مثلما سقطت كلماتك منك على الأرض
وانكسرت،
سقطت كلماتي
وعبرت الطفولة مثلك مستعجلا قلقا
أتلعثم حين أقابل طفلا يتيما
أو امرأة
أو أبا قاسيا
أو مدرس جغرافيا أو جنود احتلال
مثلما خفت أن يقتلوك،
وألا تعود إلى البيت ثانية
لتقول لأمك
إنك ما زلت تشتاق جدا لها
مع أنك صرت شهيدا
كما ينبغي للرجال
خفت أن يقتلوني
مثلما وجدوا خطواتك مروعة في الطريق
ولم يعرفوا غير أن بلادك
كانت تنادي عليك
وأنك كنت تفتش في عتمة الذئب عنها
وتسأل عين الغزال
وجدوا خطواتي
فلماذا ترى أنني لست أنت وأن حياتك ليست حياتي؟!!
وفي قصيدة "ليل غزة"، وإن جاءت على لسان الشاعر وحاله، إلا إنها تعبير عن حال العجز العربي عن إنهاء المأساة الغزّية، فالشاعر والمتلقي يمضيان يومهما متفرجين على ما يحدث، من غير أن يفعلا شيئا. يقول:
على حاله
جالس يتفرج منذ الصباح على الليل
لم يستطع أن ينام
ولم يستطع أن يموت قليلا كأطفال غزة
ما من شهيد سيأتي ليأخذه معه
في الطريق إلى الأبدية
والشهداء يجيئون في كل معركة
ليزوروا الحياة وأبناءها،
ويقولوا لهم لم نمت قط.
نحن هنا في الحياة
ولو أغمض الناس عيونهم لرأونا!
على حاله
ليس يفعل شيئا سوى أنه طيلة الليل
ينظر نحو السماء القليلة
لكنه لا يرى
ليس يفعل شيئا
سوى أنه كلما ناحت الطائرات تصدع كالبيت
وانهار
والتصقت روحه بالثرى
ليس يفعل شيئا سوى الصمت
خشية أن يوقظ الشهداء ويزعج أرواحهم
ليس يفعل شيئا
سوى أنه ليس يفعل شيئا
وإذ يعبر الشهداء خفافا مضائين قي ليل غزة
تعود السماء إلى الأرض ثانية
وتعود الحياة إلى بيتها
مثل أرملة زوجها مات منذ عشرات السنين
وظل يموت من الصمت في كل يوم ويلعن عجزه.
في الجزء الثاني من الديوان، وتحت عنوان "قلبك يا نبع"، يُفرد الشاعر قصائد حب، منها: أسماء الماء الحسنى، باب المطلق، وردة الهذيان، عطش، ثلاث آيات، ولو!!، زورق سكران، ربة عمون، قمر مرمري، شهوة المطر، بجانب تلك السماء، داجون، إني أنين الرحى، خيط ضوء.
وفي قصيدة "عطش"، التي يبرز فيها ملمح صوفي على نهج الحلاج في قوله: "لم يزدني الورد إلا عطشا"، يقول أبو شايب:
مثل ماء البحر
ما ذقتك إلا
ومشى قلبي خفيفا كمسيح طائر
فوق رؤوس الموج وازدادت شفاهي عطشا
وبإيماءة عتاب، مختارا مفردة من اللغة الدارجة، وتحت عنوان "ولو"، يقول:
لولاك أنت
لما زارني حلم قط
يا ليتني ما رجعت من الحلم إلا إليك
ولو!!
كيف هان الغياب عليك؟!
في دفتر الأحوال والمقامات يعود صاحب "ظل الليل" متأملا ومسترشدا بالمتصوف الكبير، صاحب المثنوي، جلال الدين الرومي:
"الإنسان العطش ينوح وينادي: أين الماء؟
والماء ينوح وينادي: أين العطاشى؟"
إن العطش الذي في نفوسنا هو الجاذبية التي وضعتها المياه نفسها.
وكما بدأ بفلسطين، يعود إليها، وفي قصيدة "فلسطين أخرى" يقول:
يا حجر الأنبياء المقدس
أريد فلسطين أخرى،
تعود من الشعر سالمة
ليكون لروحي مكان سوى جسدي
أريد بلادا حقيقية من تراب وشمس
يغني لها الشهداء بصمت:
"نكون هنا الآن أو لا نكون"
ولكنني لا أريد بلدا يغني لها الشعراء
ويدعونها للحياة
وهم ميتون.
وعن الحرب، يقول الشاعر تحت عنوان "حفر مملوءة بالظل":
لم تدعنا الحرب نغفو
لحظة واحدة
أين اختفى النوم
بحثنا عنه في كل مكان،
ووجدنا حفرا
مملوءة بالظل
كان الناس يأتون إليها
ليناموا للأبد
لم تدعنا الحرب نحتاج إلى النوم
ولا حتى إلى ليل الجسد
يختم أبو شايب ديوانه بقصيدة "نوارس"، وفيها:
كل النوارس عادت بعد غربتها
إلا نوارس قلبي
بعد لم يعد
راحت تفتش خلف البحر جاهدة عن قصة عشتها
سميتها بلدي
مجموعة أبو شايب السادسة تتكفل بترسيخ قامته العالية في طليعة أبرز الرواد في الإبحار الآمن بالقصيدة العربية المعاصرة، عبر أنواء عاصفة من استكشاف المضامين، وتجريب الأشكال، واضطراب التعاقد مع ذائقة عريضة، مقبلة حائرة تارة ومدبرة تائهة طورا، بحسب الناقد صبحي حديدي الذي حمل غلاف المجموعة.
ويضيف أن أبو شايب ينجز سلسلة من المواءمات الأمثل بين القصيدة كقيمة جمالية عليا، تدرج فنون الصياغة في مستوى المعنى والمبنى واللفظ والتشكيل الموسيقي الإيقاعي من جهة أولى، وبين إيلاء معمار القصيدة الفكري والفلسفي والتأملي مكانة رفيعة، لا تغفل من جهة ثانية أن الشعر قول بليغ شجي فصيح يخلب الألباب، كما يروي التعطش إلى الجميل الخلّاب.