جنين- في غرفة معتمة، تنسدل من سقفها ستائر سوداء، ويكسر عتمتها ضوء صغير، وقف مجموعة من أطفال مخيم جنين أمام أهاليهم النازحين ليقدموا عرضا مسرحيا أوليا، لأول مسرحية ينتجها مسرح الحرية منذ تهجير المخيم قبل 8 أشهر.
وعلى الرغم من غياب خشبة المسرح ومدرج استقبال الضيوف، استطاع الممثلون الأطفال تجسيد مسرحية "15-16 سنة"، حكايات أطفال لا يكبرون، وسط ظروف صعبة عاشها المؤدون والحضور على حد سواء.
وعلى بعد قرابة 250 مترا من مخيم جنين، اتخذ المكان بديلا لمسرح الحرية، ليكون أكثر أماكن النزوح قربا من المخيم.
وبعد العرض مباشرة تحدث مخرج العمل محمود أبو عيطة، وهو واحد من منتسبي المسرح وممثليه سابقا، عن المسرحية قائلا "جسد العمل حياة الأطفال في مخيم جنين الذين لم تسمح لهم آلة القتل الإسرائيلية بالعيش، وسرقت منهم حياتهم، وتحدثت المسرحية عن حكايات أبناء المخيم الذين قتلوا بشكل متعمد من قبل جيش الاحتلال، حيث إن 90% من عائلات المخيم فقدت واحدا من أطفالها على الأقل برصاص الاحتلال، وهو عمل يتحدث عن الطفولة المطموسة".
وبرأي أبو عيطة، النازح من مخيم جنين إلى قرية بيت قاد، فإن العمل الإبداعي مع هذه الفئات العمرية هو بمثابة المقاومة الحقيقية، "لأن الطفل في هذه المرحلة يطبق ما يراه، لذا من الواجب علينا أن ندعم أطفالنا ليتمسكوا بالحياة، ويترسخ في عقولهم أن فلسطين تحتاجهم أحياء، لا شهداء فقط".
ظل مسرح الحرية في مخيم جنين على مدار سنوات طويلة واحدا من أبرز معالم المخيم المعروف بهويته النضالية على الساحة الفلسطينية، وأحد أهم واجهاته التي تعكس رؤية المقاوم ثقافيا.
وعلى مدار المواجهات السابقة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي ومجموعات المقاومة التي تشكلت في المخيم، تعرض مسرح الحرية لاستهدافات مباشرة من قوات الاحتلال تمثلت في احتجاز طاقمه لساعات بداخله، وإطلاق النار باتجاهه، وهدم جزء من ساحته الخارجية.
لكن الأهم كان تهجير سكان المخيم وتغيير جغرافيته بما يشمل المساحات المحيطة بالمسرح، وقد انعكس ذلك بشكل مباشر على طبيعة الأعمال المطروحة في مبنى المسرح البديل، وعلى شخصيات الممثلين وأدائهم.
"المقاتل يثبت حقه بقوة بندقيته، والمثقف يثبت حقه بقوة روايته"، بهذه الجملة شرح رئيس الهيئة الإدارية للمسرح عبد الرحمن الزبيدي الدور المنوط بمسرح الحرية منذ إنشائه، وقال للجزيرة نت إن دور المسرح هو إثبات الرواية الفلسطينية، وما يحدث مع الشعب الفلسطيني في ظل تأييد العالم يؤكد أن هذا الحق يحتاج إلى القوة لإثباته.
وتتمثل القوة، بحسب الزبيدي، في محاكاة الواقع مع النص الإبداعي، حيث تقدم الأعمال الفنية بمنظور ثقافي يستند إلى عناصر واقعية حدثت في المخيم وعايشها الناس فيه.
وقد تمثل ذلك في العرض المسرحي الأخير، بحسب الزبيدي، في استخدام صوت نعي حقيقي مقتطع من سماعات مساجد المخيم لـ7 شهداء، بينهم 3 أشقاء من عائلة واحدة، وتوظيفه في المسرحية.
ولم يكن انتقال المسرح من مقره الأساسي في أزقة مخيم جنين التحدي الوحيد للقائمين عليه في إعادة إنتاج الأعمال الخاصة به، لكن الصعوبة الأبرز تمثلت في نزوح المتدربين والممثلين عن بيوتهم وتفرقهم في عدة بلدات وقرى في محافظة جنين.
يقول الزبيدي: "كان الأطفال الممثلون في حارة واحدة، واليوم توزعوا على جميع خارطة محافظة جنين، وصارت مجرد محاولة تجميعهم للتدريب على أي عمل تتطلب تخطيطا مسبقا وجهدا كبيرا".
ويؤكد أبو عيطة ذلك، فيقول: "أقرب ممثل شارك في مسرحية 15-16 سنة يبعد عن المقر المؤقت مسافة 4 كيلومترات، اليوم بعد انتهاء العرض التجريبي، لم نجد حافلات تنقل الممثلين إلى أماكن نزوحهم، إضافة إلى تعقيدات تتمثل في طبيعة مكان العرض، فهو غير مؤهل لعرض المسرحيات، وأيضا تغطية التكاليف، لكننا رغم ذلك استطعنا إنتاج عمل سيعرض أولا في البرتغال، ومنها إلى دول أوروبا بإذن الله".
في حين يبقى تحدي منع بعض المشاركين من السفر للعرض المسرحي المقرر في البرتغال واحدا من أهم المخاوف لدى العاملين في المسرح.
وشكلت حالة النزوح نوعا جديدا من الأعمال الفنية التي يقدمها المسرح ويدعم من خلالها أهالي المخيم والأطفال نفسيا، ويأتي ذلك من خلال أعمال "الدراما ثيرابي" التي تقدم الدعم والتفريغ النفسي للأجيال الأكبر سنا، سواء كانوا نساء أو شبابا، بالإضافة إلى جلسات التفريغ النفسي الخاصة بفئة الأطفال النازحين.
وبحسب القائمين، فإن الشعور السلبي المتراكم والغضب لدى الإنسان يولدان انعكاسات سلبية ويخلقان أشخاصا سلبيين غير فاعلين في المجتمع، لذا يجري العمل مع الأهالي من سكان المخيم والأطفال على حد سواء من خلال تقديم أعمال المحاكاة الفردية أو أعمال المحاكاة الواقعية لظروف العيش.
وكان مسرح الحرية نقطة التقاء للوفود الخارجية والداخلية التي تزور مخيم جنين للبحث عن زاوية مقابلة لجبهات الحرب والمواجهة المسلحة في الضفة الغربية عموما، وفي مخيم جنين خاصة.
ويشرح مصطفى شتي، مدير عام المسرح، "للجزيرة نت" كيف تم اجتثاث المسرح والعاملين فيه من وجودهم الاجتماعي والإنساني في المخيم، فيقول "إن مسرح الحرية حركة سياسية اجتماعية ثقافية، وإن وجود المسرح في مخيم جنين كان بمثابة صوت للاجئين وسط الأزمات التي عانت منها القضية الفلسطينية، وجاء مرافقا لأشكال المقاومة المتنوعة الموجودة فيه، وأعلاها المقاومة المسلحة".
مصطفى شتى المدير العام لمسرح الحرية (الجزيرة)ويضيف "هذه المساحة تم تشويهها وتحويلها إلى نقطة بشعة، واعتقال عدد من طلاب المسرح وأعضاء هيئته الإدارية والفنية، أدى إلى وجود خلل في عمل المسرح في الأشهر الماضية، ويأتي ضمن إطار التضييق على المكون العام، والتضييق على كل مكونات الحياة في المخيم".
ويتحدث "للجزيرة نت" عن فكرة المساحة التي خلقها مسرح الحرية، حيث حاول المسرح تحويل المادة الثقافية إلى مادة محورية للتفكير بالنسبة للمجتمع.
"اليوم نحاول استخدام تقنيات الزوم والإنترنت واللقاءات والمنصات للحديث عن صعوبة عمل مسرح يقوم على تقديم الإبداع والفن والثقافة في ظرف يواجه فيه الإبادة الجماعية والاحتلال والنار بشكل يومي"، يقول.
ويؤكد شتي أن كل الأعمال التي عرضها مسرح الحرية منذ بداية العام الحالي جاءت لتتناول بطبيعة الحال ما يجول في خواطر الناس، وخاصة أهالي المخيم النازحين.