في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في دمشق، تلك التي لا يُحصى عمرها ولا تُحدّ أزمنتها، حيث تتعانق ظلال الحضارات كما تتشابك أغصان الياسمين على نوافذ البيوت العتيقة، يقف باب توما كأنه قصيدة معلقة على جدار مدينة لا تعرف الفناء؛ ليس بابًا من حجر فحسب، بل نص حي، مكتوب بلغة الأزقة الضيقة والمآذن والأجراس، يروي حكاية الإنسان في بحثه الأزلي عن هوية تؤويه ومأوى يحتضنه ومعنى يبرر غربته.
هنا، عند الضفة الشمالية الشرقية من سور دمشق الأثري، يقف باب توما كجندي حارس على بوابة الذاكرة، حجارة البوابة ملساء لكنها مثقلة بما حملت، وأسوارها تئنُّ بما شهدت، وأزقتها تُنصت بعدُ إلى وقع أقدام لم يعد لها أصحاب، حوله تدور الأزمنة كما تدور عقارب الساعة في كاتدرائية قديمة، تختلط أصوات باعة الأسواق بتراتيل الكنائس وأذان الفجر، وتذوب رائحة الخبز الحارّ في عبق بخور القناديل، ليصنع المكان سيمفونية لا يجيد عزفها إلا الدمشقيون.
في باب توما تختزل دمشق نفسها؛ مدينة المائة باب، كل باب منها مفتاح إلى حكاية، وكل حكاية منها مرآة لإنسان؛ وهذا الحيّ الدمشقي ليس حيًّا كسواه، بل صفحة من سفر مفتوح، تعبره شخوص من شتى الملل والنحل، وتنقش فيه الأمم طبعاتها قبل أن تندثر وتبقى دمشق.
باب توما، في وعي أهل المدينة وزوارها، ليس حيًّا فقط بل رمز؛ رمز للتنوع والقداسة والصبر، شهادة حية على أن الحضارات قد تتناوب، لكن الأمكنة الحقيقية تعرف كيف تصون روحها رغم الدمار والخذلان؛ ففي كل ركن من أركانه قصة لا يحفظها التاريخ الرسمي، وإنما تحفظها ذاكرة الناس، وهم يمرون تحت قوسه الروماني العتيق، فيدركون أن أبواب دمشق ليست مداخل فحسب، بل مخارج من النسيان أيضًا.
ومن هنا، يصبح باب توما حيًّا ذا وجهين؛ وجه يطل على الماضي بكل جلاله وغموضه، ووجه يطل على الحاضر بكل ما فيه من حياة ومعاناة وأمل؛ فإذا وقفت عند عتبته، شعرت أنك تقف عند عتبة أسطورة؛ فلا أنت داخل ولا أنت خارج، بل أنت بين بين؛ في فسحة مشحونة بالحنين، كأنك تستمع لدمشق نفسها تروي لك عن نفسها، لا بلسان المؤرخين، بل بصوت حجارتها، بزخارف شبابيكها، وبدموع من مضوا وابتسامات من بقوا.
هكذا يُعلمنا باب توما درس المكان؛ أن الأحياء ليست طرقًا ومباني، بل أرواح تنبض في الحجارة، وتختبئ بين الشقوق، وتستيقظ في قلوب العابرين، وأن دمشق، كل دمشق، ليست مدينة في الجغرافيا فقط، بل مدينة تسكن الوجدان، كلما ضاق بك الزمان وجدت فيها بابًا يفضي إلى المعنى.
ليس كل باب في دمشق يُنسب إلى قديس، وليس كل حي في الدنيا يشبه في روحه باب توما؛ فهذا الحي الدمشقي العتيق، الذي يطلّ من قلب سور المدينة إلى العالم، يحمل اسمه عن القديس توما الرسول، أحد التلاميذ الاثني عشر الذين حملوا رسالة المسيح إلى أقاصي الأرض. وفي التقاليد المسيحية يُعرف توما بأنه "توما الشكاك"، إذ اشتهر بامتحانه لجراح المسيح ليؤمن بالقيامة، لكنه أيضًا يوصف بأنه "توما الشجاع"، إذ لم يتردد في أن يحمل صليبه ويطوف البلدان داعيًا إلى الإيمان حتى ضحى بحياته.
ويُروى في الوجدان الدمشقي أن القديس توما مر بهذه الأرض، وربما بشّر على تخومها، فبقي اسمه ماثلًا في ذاكرة المكان منذ أن غيّرت المسيحية وجه دمشق في القرن الرابع الميلادي، حين تحولت من معقل وثني إلى مركز إشعاع مسيحي شرقي، وصارت شوارعها تعجّ بالأديرة والكنائس وعيون الماء المباركة.
في العصر الروماني، كانت البوابة تحمل اسمًا وثنيًّا كما هي عادة المدن الوثنية، إذ كانت الأبواب تُزين بأسماء آلهة الحرب والخصوبة والنصر، لكن مع تحول الشام إلى المسيحية أعيدت تسميتها تكريمًا للقديس توما، لتغدو رمزًا لذاكرة دينية عميقة الجذور، وباب توما إذن لم يكن مجرد مدخل إلى المدينة، بل صار معبرًا إلى معنى أسمى، معبرًا إلى الإيمان الجديد الذي كان يغمر الشام برائحة البخور وصلوات الصبح.
في كل حجر من أحجاره، وفي كل قوس من أقواسه، تعيش ذكرى القديسين والقداسات التي أُقيمت في جواره، وصدى الترانيم التي انطلقت من كنائس الحي في أعياد الميلاد والقيامة، ولهذا بقي باب توما معقلًا للمسيحيين عبر العصور، ولم يخفت فيه الجرس حتى في أحلك ليالي القسوة أو أفظع تقلبات السياسة.
وعلى مرّ القرون، أصبح الاسم أكثر من ذكرى لقديس؛ صار شهادة على تعاقب حضارات ومعتقدات، وعلى تعايش طويل بين أبناء الدين الواحد وأبناء الديانات الأخرى؛ فما من حي آخر يختزل التعددية الدمشقية كما يختزلها باب توما، هنا تُدرك أن دمشق لم تكن يومًا مدينة لطيف واحد أو ملة واحدة، بل مدينة للجميع.
اسم "باب توما" في ذاته يحمل دلالة فلسفية أيضًا، كأن المكان ينطق بأن القداسة لا تعني الانفصال عن الدنيا، بل الحضور فيها بكل ما في الحضور من ألم وأمل، من شهادة على الحق، ومن صبر على المكاره، لهذا بقي الاسم حيًّا رغم كل ما طرأ على الحي من تحولات، كأنه يذكّر كل عابر أن الأسماء التي تُختار بعناية لا تموت، وأن الأماكن التي تحمل أسماء من ضحوا تبقى دائمًا شاهدة على تاريخ أكبر من أن يُمحى.
باب توما بهذا المعنى ليس مجرد جغرافيا تحمل اسمًا، بل هو ذاكرة تمشي على الأرض؛ ذاكرة قداسة أولى، وتضحية لاحقة، وصبر متجدد في كل جيل. فهنا تتقاطع النصوص السماوية مع الحكايات الشعبية، ويتحول الاسم إلى دعاء يتردد على لسان المؤمنين؛ أن يبقى المكان كما كان دائمًا، بابًا مشرعًا للحياة، وحصنًا يحرس الذاكرة.
يقف باب توما اليوم شاهدًا حجريًّا على ما يزيد على ألفي عام من الصراعات والتجدد، كأنه فصل دائم في ملحمة دمشقية لا تنتهي؛ إذ تعود جذور الباب إلى العهد الروماني، حين شُيّد سور دمشق الأثري، مع أروقته وأبراجه وأبوابه السبعة الشهيرة، التي كانت بمنزلة نقاط حراسة وطقوس عبور بين قلب المدينة وطرق العالم، وقد حمل الباب يومها اسمًا يونانيًّا وثنيًّا، كما كانت عادة الرومان في تسمية بوابات المدن بأسماء آلهتهم، فكان باب توما الشرقي منفذًا للقوافل التي تأتي من البادية وبلاد الرافدين نحو الأسواق الرومانية الغنية، ودرعًا أمام غارات القبائل.
ومع دخول المسيحية وانتشارها في الشام، وتحديدًا في القرن الرابع الميلادي مع الإمبراطور قسطنطين، تحولت دمشق إلى مركز مسيحي مزدهر، وأعيدت تسمية البوابة تكريمًا للقديس توما الرسول، لتصبح رمزًا لقداسة المكان وموقعه في قلوب المؤمنين، ولتصير البوابة أيضًا ممرًّا للآلاف من الحجاج المسيحيين الذين يعبرون دمشق في طريقهم إلى القدس.
في العصر البيزنطي، احتفظ الباب بأهميته التجارية والعسكرية، فقد كان معبرًا رئيسيًّا للقوافل التجارية القادمة من الشرق حاملة التوابل والحرير والحبوب، وظل في الوقت ذاته بوابة للحي المسيحي المزدهر على أطراف المدينة، تتفرع منه الأزقة إلى كنائس وأديرة كانت أشبه بجزر هادئة في بحر من الحراك السياسي.
ومع دخول العرب المسلمين دمشق عام 14هـ/635م، شهد باب توما فصولًا دامية من القتال؛ فقد كانت هذه الجهة إحدى نقاط الاشتباك بين جيوش المسلمين والبيزنطيين، وبعد فتح دمشق أبقى الخلفاء الراشدون على الحي المسيحي وما فيه من كنائس من دون أي مساس بها، وصار باب توما مدخلًا للحي المسيحي الذي كان أهل الذمة يقيمون فيه بسلام تحت رعاية الدولة الإسلامية.
وفي العصر الأموي والعباسي، ظل الباب محتفظًا بمكانته بوابة إلى الأحياء المسيحية، ومعبرًا للقوافل التجارية، لكن مع انهيار الدولة العباسية وصعود الممالك الصغيرة، أصبح الباب مسرحًا لصراعات مستمرة، وتحول أحيانًا إلى ثغرة تتسلل منها جيوش الغزاة.
فالعصور الوسطى حملت لباب توما مشاهد من الرعب والتحدي؛ فقد شهد اجتياح التتار الذين دمروا المدينة ومزقوا أبوابها، ثم أعاد المماليك ترميمه مع بقية سور دمشق في القرن الثالث عشر الميلادي، فبُنِيت له أقواس حجرية جديدة وزُوِّد بأبراج دفاعية لتأمين المدينة من أي هجوم.
وفي العصر العثماني، استعاد الحي وبابه بريقهما القديم، فازدادت حركة التجارة وازدهرت صناعات دمشق التقليدية في أزقة الحي، وكانت قوافل الحجاج تمر عبر باب توما إلى طريق الحج الشامي، وصار الحي مقصدًا للبعثات الدبلوماسية الأوروبية والمستشرقين، بعض هؤلاء كتب عن جمال الحي وكنائسه وياسمينه وهدوئه البديع.
ومع دخول الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين، كان باب توما شاهدًا على مواجهة بين المقاومين السوريين وجنود الانتداب، وامتلأت جدرانه بصرخات الغضب وحجارة المتاريس.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظل حي باب توما محتفظًا بروحه الدمشقية رغم زحف الحداثة، كأن الباب يقاوم التحولات العمرانية العشوائية، متمسكًا بذاكرته، ومع اشتداد أحداث الثورة السورية أصبح الحي ملاذًا لآلاف النازحين والمشردين، وأعيد رسم ملامح سكانه، لكنه ظل رغم كل شيء محتفظًا بأناقته الكلاسيكية وهدوئه الغامض.
هكذا ظل باب توما، على امتداد قرون؛ مسرحًا لصراع الأمم على قلب دمشق، وحاضنًا لحكايات ناسها، وجسرًا بين أزمنة وحضارات، وكل حجر فيه وُضع على حجر قبله، وكل نقش كتب على نقش أقدم، حتى صار الباب نصًّا متراكبًا، يقرؤه العابرون بقلوبهم لا بعيونهم فحسب.
يستيقظ حي باب توما كل صباح على وقع أجراس وأذان، على نسمات ياسمين تتسرب من خلف شبابيك خشبية مزخرفة، على عبق قهوة مسكوبة في بهو بيت دمشقي يطل على باحة مرصوفة بالرخام تتوسطها نافورة متعبة، فليس من حي في دمشق يجسد روح المدينة كما يفعل باب توما؛ فهنا تختلط القداسة بالبساطة، والفخامة بالعراقة، ويشعر الزائر أنه انتقل إلى زمن آخر، محفوظ في حجر وأصوات وظلال.
حي باب توما تحفة عمرانية بامتياز، ينتمي إلى المدرسة الدمشقية العريقة في البناء؛ بيوت حجرية عالية الأسوار، خلفها أفنية خضراء مزينة بأشجار النارنج والليمون، ونوافير ماء تزغرد في صمت شاعري، وأبواب خشبية ضخمة مزخرفة بنقوش تقليدية تروي فن الصناع، وشرفاته المعشبة تغازل الشمس، بينما تتدلى منها ورود الجوري والياسمين، فتمنح الحي رائحةً لا يشبهها شيء.
في قلب الحي يقف باب توما التاريخي، بوابته الحجرية العتيقة التي أعيد ترميمها في العصور المملوكية والعثمانية، لكنها ما زالت تحتفظ بملامحها الرومانية الأولى؛ قوس عال وأبراج جانبية ونقوش باهتة تذكّر بالمحاربين القدامى الذين مروا من تحته ذات حرب أو سلام.
ومن معالمه الخالدة كنيسة حنانيا، أقدم كنيسة في دمشق وربما في العالم، تحفة غارقة في البساطة والتاريخ، محفورة في ذاكرة المسيحيين والمسلمين على السواء، كونها شاهدة على قصة بولس الرسول وتحوّله إلى الإيمان، ويدخل الزائر إليها عبر بوابة متواضعة ليجد نفسه في فضاء روحي غامر، حيث يمتزج الدعاء بالدهشة.
أما كنيسة القديس بولس فهي نص آخر من نصوص الحي، ترتبط بأسطورة فرار بولس من دمشق محمولًا في سلة على أسوار المدينة، في واحدة من أشهر لحظات تاريخ المسيحية، والكنيسة صغيرة لكنها مكتظة بالرمزية والرهبة، كأنها سطر هامشي في إنجيل ضخم لا يتوقف عن الكتابة.
ولحي باب توما أسواقه التقليدية التي تصدح بالذاكرة؛ أقمشة دمشقية مزركشة بألوان الندى والنار، مشغولات يدوية من النحاس والصدف والموزاييك، تحف أثرية وحكايات بائعيها الذين يقصّون على الزوار قصصًا عن الأجداد والأسواق والأسعار أيام زمان، فهنا لا تشتري بضاعة فحسب، بل تشتري حكاية صغيرة ملفوفة بورق الحنين.
في الأزقة تصطف البيوت الدمشقية العريقة جنبًا إلى جنب؛ أبوابها خشبية عظيمة عليها مسامير برونزية وأقفال تحمل أسماء الصنّاع، وتدخل أحدها فتجد الفناء الداخلي غارقًا في الظلال والماء، وتسمع صوت الطيور يغرد من بين الأغصان، وتشعر أن الحجر هنا ليس جمادًا، بل ذاكرة حية تتنفس.
ولا يخلو الحي من المساجد الصغيرة والزوايا الروحية، تذكير بأن التعددية الدينية في دمشق ليست ترفًا بل قدر؛ إذ يلتقي المصلون والمصليات والمبتهلون عند زوايا الشوارع، وكل منهم يعرف أن الآخر شقيقه في حب المكان.
إن معالم باب توما ليست مجرد طوب وحجارة؛ هي نصوص مكتوبة بلغة الفن والقداسة والعراقة، وهي إذ تبدو ساكنة اليوم، فإنها ما زالت تحفظ في باطنها أصوات الأطفال الذين لعبوا في أزقتها، وضحكات العرسان الذين عبروا أبوابها، وصلوات العابرين الذين أوقدوا شموعًا في كنائسها، أو أسندوا ظهورهم إلى جدرانها الحجرية يستمعون لأصوات البلابل فجرا.
هنا، كل معلم هو شاهد وشهيد؛ شاهد على الجمال الذي كان، وشهيد للحرب التي مرت، وصامد لكل ما هو آت. فباب توما ليس مجرد حي دمشقي، إنه متحف مفتوح للروح.
في هذه الأزقة التي طالما تنفست التاريخ، وأيقظت الحنين في قلوب العابرين، يعيش باب توما منذ أربعة عشر عاما على حافة الجرح؛ فالحي الذي كان يومًا مسرحًا للتعايش وموئلًا للجمال، صار في حاضرنا معلقًا بين نبض لا يريد أن يخبو وانكسار يوشك أن يغلبه؛ فالحرب التي عصفت بدمشق لم تترك حجارة باب توما بمنأى عن لهيبها، بل حفرت في جدرانه ندوبًا، وفي قلوب أهله قلقًا ثقيلًا لم يعتادوه.
غادر كثير من سكانه الأصليين بيوتهم، دفعهم خوف أمني أو ضيق اقتصادي أو جرح روحي، فأقفلت أبواب كانت يومًا عامرة بالحياة، وبقي الحي يتنفس ببطء، يشكو صمت أزقته وغياب وجوهه المألوفة، والبنية التحتية تركها الإهمال للظلام والرطوبة، فتشققت الحجارة، وخنقت المياه الآسنة بعض الأزقة، وتحولت نوافير الباحات إلى أوعية للغبار.
ومع موجة العولمة الجديدة، تسرب إلى الحي شكل من "التحولات التجارية" التي مسخت بعض معالمه الأصيلة؛ من مقاه تجارية مبتذلة تتزاحم على الأرصفة، إلى مطاعم تبيع الوهم السياحي بثمن الذكرى، ومحالّ تعرض بضائع لا تمتّ لروح دمشق ولا لذاكرة المكان بصلة، كأن الواجهة التاريخية للحي غدت غلافًا لتسويق الاستهلاك، بدل أن تبقى كتابًا مفتوحًا لقراءة الجمال.
تراجع روح باب توما القديمة أمام ضغط السياحة الاستهلاكية وضجيج الحياة الحديثة جعل أهله يتساءلون بخوف دفين: كيف نحفظ هويتنا؟ كيف نصون ما تبقى من الروح، فلا تتحول بيوتنا وكنائسنا وأسواقنا إلى ديكور؟ وفي عيون الدمشقيين هنا، ترى مزيجًا عجيبًا؛ حنينًا يطفو على ألم، وتعلقًا بالأرض يجاوره خوف من أن تضيع الهوية في زحام الغربة.
ومعاناة الحي لم تعد مادية فقط، فقد امتدت لتصبح تحديًا ثقافيًّا وروحيًّا وحضاريًّا، فهنا تدور أسئلة وجودية عميقة مثل: كيف يصون باب توما هويته الأصيلة في وجه العولمة التجارية التي تُفرغ المكان من معناه؟ وكيف تبقى الذاكرة الجماعية نابضة في حي يخشى أن يتحول إلى واجهة سياحية باردة بلا روح؟ وكيف تبقى فسيفساء التعايش الدمشقي صامدة أمام الانقسامات الاجتماعية والتغيرات السياسية؟ وكيف نعيد إعمار ما تهدم من بيوت وأزقة من دون أن نفقد أصالتها ودون أن نستبدل بالذاكرة الإسمنت؟
باب توما اليوم يقف كما وقف دائمًا؛ على تخوم التحدي، بين أن يكون ذاكرة حية تحفظ الشام في ذاكرتها الجماعية، أو أن ينزلق إلى أن يكون أثرًا بعد عين، يُلتقط في صور الزائرين ثم يُنسى.
إنه امتحان عسير لذلك المكان الذي علمنا أن الحجارة يمكن أن تكون روحًا، وأن الأزقة يمكن أن تكون صلاة، وأن الحي يمكن أن يكون قصيدة لا تموت.
حي باب توما يقول: إن المدن الحقيقية لا تُختزل في أسوارها العالية ولا في أسواقها الصاخبة، بل في تفاصيلها الصامتة؛ في الأزقة التي شهدت أولى خطوات الطفولة، وفي المقاعد الحجرية التي تحمل أسرار العشاق، وفي الساحات الصغيرة التي عرفت أفراح الأعراس ومواكب الجنازات معًا؛ فالمدن الحقيقية تسكن أرواح ناسها كما يسكنون هم جدرانها، وتعيش في ظلال نوافذها كما تعيش في قصور حكامها.
باب توما بكل ما يحمله من ندوب يثبت أن ذاكرة المكان وحدها من تحفظ الكيان، لا الحروب تمحوه، ولا الغربة تنزعه من وجدان ناسه، ولا التجارة تطمس معناه، فهو ذاكرة المدينة، وحارسها الأمين، ومعلمها الأول أن الحجر إن فارقته الروح صار قبرًا، وإن سكنته الحكايات صار قصيدة.
يظل باب توما معلقًا بين صمته وصخبه، بين ماضيه وحاضره، بين جرحه وأمله، كأنه قلب دمشق ذاتها؛ حجارة على حجارة، وذكرى فوق ذكرى، ونبض يصرّ على أن يبقى.