حين يصل القائد إلى عمله مثقلا بالتعب ويعتمد على القهوة ليكمل يومه تنتقل هذه الطاقة السلبية إلى الجميع، أما عندما يحضر صافي الذهن مفعما بالحماس فإن أثره الإيجابي يمتد إلى أداء الفريق بأكمله.
القيادة ليست فقط في رسم الإستراتيجيات أو اتخاذ القرارات، بل هي أيضا إدارة للطاقات والمناخ النفسي، فالقائد الذي يعتني بصحته النفسية يعيد شحن من حوله دون أن يرفع صوته أو يكرر الشعارات المملة.
لكن واقع اليوم يشي بثقافة مختلفة، إذ بات الإرهاق يُقدَّم كعلامة على النجاح، يظن القادة أن البقاء في حالة الانشغال الدائم هو الثمن الطبيعي للتفوق، مما يثمر في النهاية حالة عامة من الإرهاق والإنهاك تنعكس سلبا على قرارات القيادة، وبالتالي يتأثر العمل ويتراجع الإنجاز.
هذه الرؤية قدمتها الباحثة روبين هانلي-دافو في موقع "سيكولوجي توداي"، وهو منصة أميركية متخصصة في تبسيط علم النفس وتطبيقاته في الحياة اليومية.
هناك أنماط من القيادة تجعل صاحبها عالقا بين النوايا الحسنة والاستنزاف الدائم، فنمط "الخادم" يدفع القائد إلى محاولة إصلاح كل شيء للجميع حتى ينهك نفسه، في حين نمط "المتحكم" يجعله يقوم بالمهام بنفسه بدلا من تمكين الآخرين.
أما نمط الضحية فيغذي الإحساس بالعجز والتذمر، في حين أن نمط "المبرر" يخلق قصصا لتبرير الركود، فيقتنع القائد بأن الأمور هكذا دائما.
الانتقال بين هذه الأدوار لا يرهق القائد فحسب، بل يقتل حماس الفريق ويقيد قدرته على الابتكار، ليصبح القائد مقيدا ومشغولا بإدارة الأزمات لا بصناعة التغيير.
عندما تُبنى القيادة على الاستجابة الدائمة لتوقعات الآخرين ورسائل البريد الطارئة يفقد القائد بوصلته الداخلية شيئا فشيئا، تصبح أجندة الآخرين هي جدول أعماله، ويضيع صوته وسط مطالب متراكمة، ومع مرور الوقت تتراجع طاقته وتأثيره لا لأنه فقد الشغف، بل لأنه ابتعد عن رؤيته الأصلية.
الخطوة الأولى نحو التوازن هي الوعي بهذه الدائرة، ثم استعادة الاتصال بالذات، واتخاذ قرارات يومية صغيرة تعيد ترتيب الأولويات على أساس الرؤية الكلية لا الضغوط الطارئة.
القيادة الحقيقية لا تقاس بعدد القرارات أو الاجتماعات، بل بالقدرة على قيادة الذات قبل قيادة الآخرين، فحين يدير القائد طاقته بوعي ويستعيد تواصله مع الأولويات والرؤية الكلية يتحول وجوده إلى مصدر توازن وإلهام لمن حوله.
وفي النهاية، كما تؤكد روبين هانلي-دافو، فإن القيادة المستدامة تبدأ من الداخل أولا، من قائد يعرف نفسه ويحسن رعايتها، ليقود الآخرين إلى ما هو أبعد من الأوامر، إلى المعنى ذاته.
المصدر:
الجزيرة