آخر الأخبار

الأنف بداية سلامك النفسي، فما القصة؟

شارك
مصدر الصورة

شعرت أن جميع أنشطة حياتي تحسّنت بعد أن أجريت عملية جراحية مؤخرا في الأنف، تحسنت صحتي بدءاً من الحساسية وصولاً إلى الصحة النفسية، وقد لا يكون ذلك محض صدفة، فالتنفس عبر الأنف يُعدّ قوة خارقة خفية في مقدمة الوجه.

منذ طفولتي كان كل شهيق أتنفسه أشبه بالاستعداد للغوص في أعماق الماء، كانت محاولة مجهدة لملء رئتي بالهواء دون جدوى تامة، وكثيراً كنت أتجول وأنا أسمع صوت صفير خافت يصدر من أنفي، وكنت أدعو الله ألا يلاحظ أحد ذلك.

أما المشكلة الكبرى، فكانت عجزاً بسيطاً رفض كثيرون تصديقه، إذ كان تكوين وجهي يجعل من الصعب جسدياً التنفس من الأنف، وكان العالم من حولي مجرد أنين دائم وزفير غير مكتمل.

عانيت من اعوجاج في الحاجز الأنفي، الأمر الذي جعل فتحة أنفي اليمنى مسدودة حتى في أفضل حالاتها، فكنت أضطر إلى التنفس عبر الفم بمجرد ظهور أي عرض بسيط من أعراض الحساسية.

أسهمت تلك المشاكل الأنفية في إصابتي بانقطاع التنفس أثناء النوم، وهو اضطراب تنفسي يؤدي إلى الاستيقاظ المتكرر خلال الليل، ويزيد من خطر الوفاة لأي سبب.

وبعد عقود من المعاناة، اقترح طبيب إجراء عملية جراحية، بغية تقويم الحاجز الأنفي وتصغير قرنيات الأنف، وهي عبارة عن تراكيب عظمية مغطاة بغشاء مخاطي تعمل على تكييف الهواء عند التنفس، وهي أنسجة لم أكن أعلم بوجودها أصلاً.

كنت على استعداد لعمل أي شيء يخفف معاناتي، لذا خضعت للجراحة في الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي.

وبعد مرور شهر على الجراحة والتعافي، أصبحت أمتلك أنفاً يؤدي وظيفته بشكل سليم، وتمكنت للمرة الأولى التنفس بسلاسة وعمق من كلا فتحتي الأنف، وأدركت أن التنفس من الأنف متعة حقيقية، وأصبحت قادراً على عمل ذلك، ورغم أن انقطاع التنفس أثناء النوم لم يُشف نهائياً، إلا أن حالتي تحسنت.

وقد تكون للعملية آثار إيجابية أخرى متعددة، إذ تبيّن أن للتنفس من الأنف فوائد عديدة غير متوقعة، ولا تستلزم الخضوع لجراحة للاستفادة منها، بل ربما يُسام التنفس من الأنف في تحسين الحالة النفسية أيضاً.

"مرشح هواء خاص"

تقول جاكلين كالاندر، طبيبة أنف وأذن وحنجرة في جامعة كاليفورنيا، إن أبرز فوائد للتنفس من الأنف هو ارتباطه بقرنيات الأنف.

وتضيف: "تُعتبر قرنيات الأنف بمثابة الوسيط الأساسي في تدفئة الهواء وترطيبه، وهو أمر في غاية الأهمية. كما أنها تقوم أيضاً بدور مرشّح الهواء".

وعلاوة على شعيرات الأنف، تؤدي قرنيات الأنف دوراً فعّالاً في تنقية الهواء الداخل للجسم من الغبار والبكتيريا والفيروسات وغيرها من الجزيئات، وهي فوائد صحية لا يوفرها التنفس عبر الفم.

وتقول كالاندر: "يمكن لتلك القرنيات أن تُشكّل خط الدفاع الأول لجهازك المناعي".

ولا تقتصر المسألة على فوائد التنفس من الأنف فحسب، بل إن للتنفس عبر الفم تبعات سلبية، حسبما تقول آن كيرني، أخصائية اضطرابات النطق واللغة في مركز ستانفورد الطبي، والمتخصصة في دراسات النوم ومشاكل البلع.

وتضيف: "توجد العديد من الدراسات التي تربط بين التنفس عبر الفم ومشكلات في صحة الفم".

وأظهرت الدراسات أن التنفس عبر الفم يزيد من الحموضة وجفاف الفم، فضلا عن ارتباط التنفس عبر الفم بتسوس الأسنان، وتآكل المعادن من الأسنان، وأمراض اللثة.

كما تشير أبحاث إلى أن التنفس عبر الفم أثناء الطفولة قد يؤثر على نمو الأسنان والفك، الأمر الذي يؤدي إلى اعوجاج الأسنان وتغيير شكل الوجه أيضاً.

وتقول كيرني: "الأمر بسيط، وظيفة الأنف التنفس ووظيفة الفم تناول الطعام".

بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعانون من اعوجاج شديد في الحاجز الأنفي أو انسداد في الأنف، قد لا يكون التنفس من الأنف خياراً متاحاً، وتلفت كيرني إلى أن العديد من الأشخاص الذين يتنفسون عبر الفم يمكنهم اختيار التنفس عبر الأنف في العديد من الحالات.

وتضيف: "قد لا يكون التنفس من الأنف مريحاً في البداية، إن التحول من التنفس عبر الفم إلى الأنف قد يستدعي بعض التكيّف".

وعلى الرغم من ذلك، تقول كيرني، إن الفوائد تظهر مع كل شهيق تأخذه.

"الأنف في المساء"

مصدر الصورة

يتنفس معظم الأشخاص الأصحاء من الأنف أثناء النوم، بيد أن البعض يفتح فمه أثناء الليل بحثاً عن هواء يتنفسه، وهو أمر تعتبره كيرني بالغ السوء.

وتضيف: "الأمر يتعلق بوضعية اللسان، وتشير إلى إمكانية اختبار الأمر بنفسك، فعندما يكون الفم في وضع مغلق، من المرجح أن يظل طرف اللسان ملتصقاً بسقف الفم، بينما يرتاح الجزء الخلفي من اللسان، على نحو يفتح مجرى التنفس.

ولكن، إذا توقفت عن القراءة للحظة، وتركت فمك مفتوحاً، واسترخت عضلات الوجه، ستلاحظ على الأرجح أن لسانك يتجه نحو الحلق، خصوصاً إذا مِلت برأسك إلى الوراء.

وتشير كيرني إلى أن ذلك قد يقيّد تدفق الهواء ويؤدي إلى حدوث انسداد جزئي، كما قد تسمع صوتاً يشبه الشخير إذا تنفست أثناء محاولة عمل بذلك.

ويميل الأشخاص الذين يعانون من انسداد في الأنف إلى التنفس عبر الفم أثناء النوم، وهي ظاهرة تساهم غالباً في الإصابة بانقطاع التنفس أثناء النوم.

وتشير التقديرات إلى أن هذه الحالة تؤثر على نحو مليار شخص، أي ما يعادل 50 في المئة من السكان في بعض الدول.

وفي أحسن الأحوال، يؤدي انقطاع التنفس أثناء النوم إلى متاعب في الحياة، أما في أسوأ الأحوال، فقد تكون تأثيراته خطيرة لدرجة الوفاة المبكرة.

حتى إذا لم تكن تعاني من انقطاع التنفس أثناء النوم، فإن التنفس عبر الفم خلال الليل قد يسبب الشخير وكل الأضرار التي ذُكرت سابقاً.

وعلى الرغم من ذلك يروّج مؤثرون في مجال الصحة والعافية، على منصات الإنترنت، لعلاج مثير للجدل لهذه المشكلة، ألا وهو استخدام "شريط الفم" أثناء النوم.

يستخدم هذا الشريط للحفاظ على الفم في وضع مغلق، ومن الناحية النظرية، فهذا يضطرك إلى التنفس من الأنف أثناء النوم، وعلى الرغم من ذلك يحذر بعض الخبراء من وجود مخاطر يجب أخذها بعين الاعتبار.

مصدر الصورة

وتؤيد كيرني فوائد شريط الفم، بيد أنها تحذر من أنه قد يسبب صعوبة في التنفس لبعض الأشخاص، فالطريقة الوحيدة لمعرفة إذا كنت من هؤلاء أم لا، هي زيارة الطبيب، ويوصى دائما بعدم تجربة ذلك في المنزل دون استشارة طبية أولاً.

وتقول: "إذا كنت من بين هؤلاء الذين يعانون من الشخير، أو تجد صعوبة في التنفس من الأنف، أو لديك أي سبب للاعتقاد أنك قد تعاني من انقطاع التنفس أثناء النوم، فيجب عليك استشارة طبيب أنف وأذن وحنجرة".

ولا يزال استخدام شريط الفم في مراحله الأولى، ويشير العديد من أطباء الأنف والأذن والحنجرة إلى أنه لم تُجر أبحاث كافية بشأن فعاليته أو سلامته حتى الآن.

وتشير بعض الدراسات الأولية إلى أنه قد يكون مفيداً، لكن لا توجد أبحاث تحسم الأمر في هذا الشأن.

فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة شملت 20 شخصاً في تايوان أن شريط الفم ساعد بشكل كبير في تحسين انقطاع التنفس أثناء النوم والشخير، إلا أن باحثين أشاروا إلى أن العينة التي خضعت للدراسة صغيرة بالنسبة لاستخلاص استنتاجات قوية.

وتقول كولاندر: "حتى الآن، لا يوجد دليل مقنع قوي يثبت أن شريط الفم يساعد في تقليل انقطاع التنفس أثناء النوم أو تحسين التنفس أثناء الليل، لكنه منخفض التكلفة وقد يكون ذا فائدة".

وتعتقد أن شريط الفم طريقة واعدة حقاً، لكنها تتفق على ضرورة استشارة طبيب قبل استخدامه.

فإذا كنت تفكر في تجربته، فإن الخطوة الأولى هي استشارة أخصائي نوم أو طبيب أنف وأذن وحنجرة.

وما يمكنك تجربته، كما تشير كولاندر، هو استخدام شرائط الأنف التي تحافظ على فتحتي الأنف مفتوحتين من الخارج.

وتقول: "يعاني بعض الأشخاص مما يُعرف بانهيار الصمام الأنفي، إذ يؤدي الشهيق إلى حدوث ضغط سلبي داخل تجويف الأنف، وبالنسبة لهؤلاء الأشخاص، يمكن أن تكون شرائط الأنف مفيدة، بل إن بعض الأشخاص يرتدونها أثناء ممارسة التمارين الرياضية.

وعلى الرغم من ذلك، إذا كنت تعاني من اعوجاج في الحاجز الأنفي أو تضخم في قرنيات الأنف، فإن شرائط الأنف على الأرجح لن تكون فعّالة، حسب قولها.

التنفس من الأنف وتحسين الحالة النفسية

مصدر الصورة

أصبح لدينا، بمرور الوقت، وعي متزايد بفوائد التنفس من الأنف على المستوى الجسدي، إلا أن الصلة بين الأنف والدماغ غالباً لا يهتم بها أحد.

ففي حالتي الشخصية، أدى الفعل البسيط للتنفس من الأنف إلى راحة جسدية كبيرة، ولكن الطريقة التي نتنفس بها، لا سيما من الأنف، قد تُحدث تأثيراً مفاجئاً في صحتنا النفسية.

ويمكن النظر إلى الأنف على أنه أشبه بجرس إنذار هوائي للعقل، إذ أن مرور الهواء من خلاله يبدو أنه يُحدث تأثيراً كبيراً على العمليات الإدراكية.

وتبيّن أن للتنفس من الأنف يحمل آثاراً إيجابية على الجهاز الحوفي، وهو قسم في الدماغ مسؤول عن تنظيم العواطف والسلوك، وهي آثار لا تتحقق عند التنفس عبر الفم.

فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة أُجريت في عام 2023 أن التنفس من الأنف يسهم في خفض ضغط الدم وتقليل تقلبات وتكرار معدل ضربات القلب، وهو ما يدل على حالة من الاسترخاء العصبي.

ويقول جو واتسو، أخصائي الفسيولوجيا التطبيقية في جامعة ولاية فلوريدا والمشرف على الدراسة: "هذا لا يعني أنه يُعالج ارتفاع ضغط الدم، لكن التنفس من الأنف له تأثير مهدئ على الجهاز العصبي".

كما أظهرت دراسات أخرى أن التنفس من الأنف يُحسّن الأداء بالنسبة للمهام المتعلقة بالإدراك، ويُعزز كفاءة الذاكرة، ويعزز الاستجابة الذهنية.

ولا يزال السبب وراء هذه الظاهرة غير واضح تماماً لدى الخبراء، إلا أن المعروف حتى الآن هو أن التنفس عبر الأنف يُحفّز عصب الشم، وهو المسؤول عن إدراك الروائح، ويبدو أن هذا يحدث حتى في غياب محفزات الشم الواضحة.

مصدر الصورة

وتشير إحدى النظريات الرائدة إلى أن هذا التفاعل يُسهم في تناغم النشاط الكهربائي بين مناطق مختلفة في الدماغ، منها اللوزة الدماغية والحُصين.

وعلى أية حال، فإن التنفس من الأنف يرتبط بتنشيط الجهاز العصبي السمبتاوي، الذي يُساعد الجسم على الحفاظ على طاقته ويُبطئ وظائفه أثناء الاسترخاء.

وتشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى صحة ما ظل يؤكده ممارسو التأمل واليوغا عبر العصور: "أن التنفس من الأنف يُسهم في تعزيز السلامة النفسية".

وتُظهر بعض الدراسات أن التنفس من الأنف بطريقة منتظمة وممتدة يُبطئ من موجات الدماغ في القشرة الدماغية، وهو ما يدل على حالة ذهنية أكثر استرخاءً.

كما يرى واتسو وآخرون أن تنبيه الأنف قد يُفسّر من الناحية الفسيولوجية الآثار الإيجابية للتأمل.

مما لا شك فيه أن معظم أنشطة حياتي شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الأشهر التي أعقبت تقويم اعوجاج أنفي، بما في ذلك صحتي النفسية، إذ تراجعت مستويات القلق، وأصبحت أكثر قدرة على التركيز، كما تحسّن مزاجي بشكل عام.

ويبدو أن الأمر ليس محض صدفة، إذ تشير كالاندر إلى أن التنفس من الأنف قد يكون له دور فعلي في التهدئة النفسية.

وتقول كالاندر: "هذا محتمل، فإذا كنت تنام بطريقة أفضل، فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجودة حياتك ورفاهيتك. لكنني أعتقد أيضاً أنك تنشّط الجهاز العصبي السمبتاوي لديك أكثر مما كنت تفعل سابقاً".

وبحسب تجربتي، فإن النصيحة الكلاسيكية صحيحة تماماً والتي تقول: "عندما تشعر بالقلق أو الاضطراب، خذ نفساً عميقاً. ولكن في المرة القادمة، قد يكون من الأفضل أن تتنفس من أنفك".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار