في غضون عامين فقط، تغيرت قواعد صناعة الإعلام كما نعرفها. فبعد أن كانت الأفكار تتحول إلى محتوى بصري عبر سنوات من الجهد والخبرة والتقنيات المعقدة، جاء الذكاء الاصطناعي التوليدي ليعيد رسم الحدود بين الخيال والتقنية.
لم يعد هذا الأخير مجرد أداة مساعدة، بل أصبح شريكا إبداعيا قادرا على كتابة النصوص، وتوليد المشاهد، وتركيب الأصوات، وحتى اقتراح الإيقاع السردي للقصة.
وبينما يراه البعض تهديدا، ويبقى آخرون مترددين، لا يمكن إنكار أن العالم يشهد قفزة نوعية في تكنولوجيا الفيديو بالذكاء الاصطناعي خلال الأشهر الأخيرة.
تقول لورا سيونتون جوبتا من منصة "إل بي بي" (LBB) إن القفزات السريعة في تكنولوجيا الفيديو بالذكاء الاصطناعي التوليدي أدت إلى ظهور لاعبين جدد، وتحوّل أسماء راسخة في طريقة عملها.
فشركات الإنتاج التجاري التي كانت تعتمد على فرق ضخمة وميزانيات هائلة، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد تقوده أدوات ذكية قادرة على توليد محتوى أولي خلال ساعات بدلا من أسابيع، وقد ألهم هذا التحول ظهور جيل جديد من شركات الإنتاج التي تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمادة خام إبداعية.
من أمثلة ذلك شركة "سيلفر سايد" (Silverside) المنبثقة من وكالة "بيريرا أو ديل" (Pereira O’Dell)، والتي تبنت هذه التقنيات منذ بداياتها رغم الانتقادات، وشركة "أنيما أستوديو" (Anima Studios) التي انطلقت من حساب على " تيك توك " بأربعة أصدقاء يصنعون مقاطع بالذكاء الاصطناعي، لتتحول لاحقا إلى أستوديو معتمد من علامات تجارية كبرى.
هذه التجارب تؤكد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد امتيازا للمحترفين فقط، بل أصبح أداة ديمقراطية تفتح الباب أمام مبدعين جدد لتغيير قواعد الصناعة.
شهدنا خلال الـ18 شهرا الماضية طفرة مذهلة في قدرات توليد الصور بالذكاء الاصطناعي. ففي هذه الفترة القصيرة تحولت أدوات الذكاء الاصطناعي من إنتاج أعمال فنية تشبه التجريد إلى صور فائقة الواقعية تكاد تمحو الحدود بين الحقيقي والاصطناعي.
حيث أصدرت منصات الفيديو بالذكاء الاصطناعي مثل "سورا" و"ران واي" (Runway) و"لوما" عدة تحديثات كبيرة، وفي مايو/أيار الماضي، أطلقت غوغل "فيو 3" الذي يتيح توافقا أكبر ويمكنه توليد صوت أصلي متزامن مع الفيديو.
وهو ما عبر عنه كنت بوسيل، من شركة الإنتاج الأسترالية الناشئة "إيه آي كاندي" (AiCandy) قائلا:
"إن مقياس التقدم لفيديو الذكاء الاصطناعي هو مقطع ويل سميث وهو يأكل السباغيتي. هذا المقطع يعود إلى تجربة فيديو عام 2023 الكابوسية، حيث ينبت للأمير الطازج أصابع جديدة ويمتزج مع المعكرونة المتلوية حول طبق الطعام. نفس الأمر عام 2025 ينتج شيئا متقدما بشكل مذهل وأكثر واقعية واستقرارا، وأقل تأثيرا نفسيا مرعبا."
يعكس هذا التقدم الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي كشريك إبداعي متعدد الاستخدامات للفنانين والمصممين. وقد عبرت سجال أمين، المديرة التقنية في شركة "شاتر ستوك" (Shutterstock)، عن هذا التحول قائلة:
"هناك العديد من الطرق التي ينظر بها صناع المحتوى والفنانون إلى تأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي على سير عملهم وحرفتهم. ونحن في شاتر ستوك متحمسون لتبني الذكاء الاصطناعي كأداة إبداعية إضافية تعزز العملية الإبداعية بشكل كبير، مع ضمان حصول الفنانين على تعويض عادل عن الدور الذي تلعبه الملكية الفكرية لمُحتواهم في هذه العملية."
تُبرز كلمات أمين القيمة المتنامية للذكاء الاصطناعي في المجالات الإبداعية، فعندما يدمج بعناية ضمن سير العمل، يمكن لهذه الأنظمة أن توسع حدود الخيال البشري، وتساعد على تجسيد الأفكار بسرعة، وتجربة مفاهيم جديدة قد تفتح آفاقا فنية مبتكرة.
فهي لا تعمل كقوة مستقلة، بل كشريك متعاون يدعم الرؤية الإنسانية، موفرة وسيلة لتصور الأفكار وتجربة الاتجاهات الإبداعية بطريقة غير مسبوقة.
تمتد إمكانات الذكاء الاصطناعي إلى ما هو أبعد من العناصر الفردية للإبداع، لتؤسس تدريجيا نموذجا جديدا لسلسلة القيمة الإعلامية. في هذا النموذج، تبدأ جميع مراحل العملية الإبداعية بالذكاء الاصطناعي التوليدي، وتنتهي باللمسة البشرية، هذا ما يعرف بنهج "إيه آي فيرست" (AI First).
لنأخذ مثال فيلم "ذا فورست" (The Forst)، الذي أنتجته "واي مارك كرياتيف لابس"، حيث ابتدأت مرحلة الإنتاج باستخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد النصوص، والتعليقات الصوتية، والمؤثرات الصوتية، والصور، ثم قام الخبراء البشريّون بصقلها وتشكيلها بدقة.
هذا المزج بين إبداع الذكاء الاصطناعي ولمسات الإنسان يقدم رؤية واضحة لمستقبل صناعة الإعلام، حيث يقود الذكاء الاصطناعي العملية الإبداعية بينما يمنح البشر العمق والجاذبية النهائية للمحتوى.
وتؤكد المؤثرة في الصناعة أريانا بوكو، الرئيسة السابقة لشركة "آي إف سي فيلمز" (IFC Films): "مثل أي أداة جديدة، قد يكون الأمر مخيفا لأننا لا نفهم التأثير الكامل لما يمكن أن يقوم به أو تبعات تغييره للصناعة. لكن الحقيقة الأساسية هي أنه سيغير الصناعة، ويمكن أن يكون لهذا التغيير أثر إيجابي كبير".
كلمات بوكو تعكس اتجاها واضحا، فعلى الرغم من أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي لا يزال محل نقاش، هناك اعتراف متزايد بأن الشراكة بين الإنسان والآلة يمكن أن تحدث تحولا جذريا في إنتاج الإعلام.
ومع نهج "إيه آي فيرست"، تصبح قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد الأفكار والابتكار الأولي أداة قوية، بينما يضمن التدخل البشري الجودة واللمسة الفنية التي تجعل المحتوى حيا وجذابا.
لكن رغم هذا الازدهار، تبرز تحديات حقيقية. فَبفضل سرعة توليد المحتوى بالذكاء الاصطناعي، أصبح من الممكن توليد أعمال إبداعية ضخمة خلال وقت وجيز، مما يؤدي إلى تشبع السوق بمحتوى متشابه يصعب تمييزه. هذه الوفرة قد تقلل من القيمة المدرَكة للإبداع الفريد وتحول المحتوى إلى سلعة قابلة للاستبدال.
ويبدو هذا الخطر واضحا في قطاعات كصناعة السينما والتلفزيون والإعلان، حيث تشكل الأصالة والتميز العنصر الحاسم في نجاح أي عمل. فمع وفرة المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي، قد تتزعزع النماذج التقليدية التي كانت تحدد معنى "القيمة" في الإنتاج الإبداعي.
في هذا السياق، يعدّ العملاء الصغار هم الأكثر حماسا لتبني الذكاء الاصطناعي نظرا لميزانيتهم المحدودة، ولأنهم أقل تقييدا بالقوانين. ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الواسع يثير تحديا جديدا، وهو كيفية المحافظة على التميز وسط ديمقراطية إنتاج المحتوى.
يكمن التحدي الحقيقي إذن في الحفاظ على جوهر الإبداع البشري وسط ديمقراطية إنشاء المحتوى التي أتاحها الذكاء الاصطناعي التوليدي. فتميز الفكرة، وجودة التنفيذ، والهوية الفنية الأصيلة ستظل عوامل حاسمة لضمان أن يبقى المحتوى الإنساني ذا قيمة وسط بحر من الإنتاج المُؤَتْمَتْ.
مع تزايد دور الذكاء الاصطناعي في المشهد الإعلامي، يتغير تعريف التميز في صناعة المحتوى. فبعد أن كانت القيمة تقاس بجودة الإنتاج وتفرّد الفكرة، أصبحت اليوم تُستمدّ من قدرة المحتوى على التفاعل والتكيف مع الجمهور في الوقت الفعلي.
في هذا السياق، يبرز عرض قيمة جديد للإعلام يعتمد على البيانات، إذ تنتقل نقطة القوة من "ما يُقدّم" إلى "كيف يُستقبل".
فالشركات القادرة على استثمار الكم الهائل من البيانات الناتجة عن استهلاك المحتوى عبر حلقة تفاعلية مستمرة بين البيانات وهذا الأخير، ستكون الأقدر على بناء ميزة تنافسية مستدامة.
إن المستقبل الإعلامي سيكون موجهًا نحو الفهم العميق لسلوك الجمهور وتفضيلاته الدقيقة، بحيث يتم استهداف كل فرد كما لو كان جمهورا قائما بذاته. وهنا، يتحول الإعلام من منصة بث أُحادي الاتجاه إلى منظومة تفاعلية ثنائية الاتجاه، تتعلم من المستخدم وتتكيف معه لحظة بلحظة.
فبدلا من تقديم محتوى ثابت مسبق الإعداد، سيشهد العالم الإعلامي حقبة جديدة من المحتوى التكيفي الذي يتطور ديناميكيا بناء على تفاعل الجمهور، ليصنع تجربة شخصية تشرك المشاهد في رسم مسار القصة نفسها.
بهذا المعنى، لن يكون المحتوى مجرد منتج يُستهلك، بل تجربة حية تتشكل باستمرار بفضل البيانات والذكاء الاصطناعي.
مع انخفاض تكاليف إنتاج المحتوى بفضل الذكاء الاصطناعي، تتطور توقعات المستهلكين بسرعة، لتصبح القيمة الحقيقية في القدرة على إتقان حلقة التفاعل بين المحتوى والبيانات.
وللتغلب على خطر تحويل المحتوى إلى سلعة، يجب على الشركات تبني أنظمة معقدة ومؤتمتة تتيح تخصيص المحتوى التفاعلي والديناميكي في الوقت الفعلي استنادا إلى بيانات المستخدمين والعملاء.
هذا التحول ليس بسيطا، فهو قد يفرض إعادة هيكلة كاملة لصناعات بمليارات الدولارات لتتناسب مع متطلبات الإعلام التكيفي الجديد.
إذ يتضح المستقبل الإعلامي في القدرة على التكيف والابتكار والاستفادة الفعالة من الذكاء الاصطناعي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي التوليدي.
تخيل عالما تتحول فيه الإعلانات من صور وفيديوهات ثابتة إلى حوارات تفاعلية مصممة خصوصا لكل مستخدم، أو فيلمًا يتطور في الوقت الفعلي وفق مشاعر الجمهور واختياراتهم، أو تجربة واقع مختلط يدمج بين العوالم الرقمية والواقعية في سرد شخصي للغاية، أو حدث رياضي ثلاثي الأبعاد تُعرض إحصائياته على طاولة الطعام في منزلك.
قد يظن البعض أن صناعة فيلم بالذكاء الاصطناعي تتلخص في كتابة "موجه" (Prompt) والضغط على زر، لكن الواقع أكثر تعقيدا بكثير. فإلى جانب سرد القصة وتحفيز المشاعر، هناك مهارات إنتاجية تقليدية لا غنى عنها لضمان جودة الفيديو النهائي.
فسَير العمليات غالبا ما يكون معقدا ومتعدد الطبقات، كما يوضح توباي والشام من "ميد باي هيومنز" (Made By Humans):
"الأمر يشبه أيام المؤثرات البصرية المبكرة. ليس الجميع قادرا على القيام به. هناك سوء فهم شائع بأن الجميع يمكن أن يكون فنانا للذكاء الاصطناعي، وهذا غير صحيح. تحتاج أن تكون راويا وقائدا مبدعا، وأيضا ملمّا جدا بالتقنية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد كتابة "موجه" وإنتاج شيء مذهل، إنه ليس كتابة نصوص إعلانية فقط".
مهارة المنتج في ربط العلامة التجارية بالمواهب الفنية تصبح أكثر أهمية مع الذكاء الاصطناعي، إذ يعتمد هذا الأخير على التكرار والتجربة، وإدخال "موجه" واحد لا يضمن عادة مخرجات صالحة، وصياغة لقطات متسقة وفق معايير العلامة التجارية تتطلب خبرة تجمع بين الإبداع والإدارة التقنية.
كما يؤكد جاك جودوين، المنتج التنفيذي في "كودي" (Kode): "هناك العديد من الأفراد الموهوبين الذين يعرفون كيفية تشغيل الأدوات، لكنهم لا يمتلكون الخبرة الكاملة في هذا السوق والفئة المستهدفة. نحن نبرعُ في العثور على المواهب، وتطويرها، ودمجها مع العملاء والوكالات، وإدارة عملية إستراتيجية وإبداعية وإنتاجية تحقق نتائج تجارية جيدة."
بينما يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُستخدم لإنتاج محتوى سريع ومنخفض الجودة، تُظهر التجارب الحالية أن فوائده الحقيقية تكمن في رفع المعايير الإبداعية.
فالتعقيدات الإنتاجية، والمهارات الفنية المطلوبة لإنشاء فيلم أو إعلان عالي الجودة تعني أن النجاح لا يُقاس فقط بسرعة الإنتاج، بل بعمق الرؤية وإتقان التفاصيل.
الذكاء الاصطناعي يمنح الشركات الصغيرة والمتوسطة القدرة على تنفيذ أفكار جريئة ومبتكرة كانت سابقا خارج متناولها، بينما يتيح للشركات الكبرى توسيع نطاق مشاريعها وتحقيق مزيد من التجريب الإبداعي. لكنه يظل أداة في يد الإنسان، لأن الإبداع البشري والخبرة الفنية هما اللذان يحددان جودة المحتوى وأصالته.
من الضروري عدم الانزلاق نحو إنتاج ما يسمى بـ"سلوب" (slop) -المحتوى السطحي سريع الإنتاج – الذي يفتقر للقصص والجاذبية. فالأدوات الذكية وحدها لا تصنع المحتوى المتميز، بل تأتي قيمة الذكاء الاصطناعي الحقيقية عندما يدمَج مع الرؤية الإنسانية، والقدرة على سرد قصة، والفهم العميق للغة الفيلم والإنتاج الإعلامي.
في هذا العالم الجديد، يصبح الذكاء الاصطناعي منصة انطلاق للإبداع، وليس بديلا عنه. وهو فرصة للمبدعين لاستكشاف آفاق جديدة، ودفع الحدود، وابتكار محتوى يثري تجربة الجمهور، مع الحفاظ على معايير الجودة التي تميز الأعمال الإعلامية الحقيقية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة