تتزايد الحاجة العالمية إلى المعادن الأساسية المستخدمة في البطاريات وشبكات الكهرباء مع ثورة التحول الأخضر التي يعيشها العالم، لكن الأثر السلبي الكبير على البيئة يشكّل تحديا حقيقيا للمستقبل.
بشكل بات يوميا، تُزال مساحات شاسعة من الغابات لاستخراج النيكل والكوبالت، كما أن الخامات الموجودة على الأرض لا تحتوي إلا على نسبة ضئيلة جدا من المعادن المطلوبة مثل النحاس، مما يعني إنتاج كميات هائلة من النفايات مقابل الحصول على كمية قليلة من المعدن الخام.
يقدّم فريق من الباحثين في معهد ماكس بلانك للمواد المستدامة في ألمانيا حلا مبتكرا قد يغيّر قواعد اللعبة في صناعة التعدين، وذلك من خلال استخراج النحاس النقي من خامات في أعماق البحار عن طريق صهرها في فرن القوس الكهربائي، ثم باستخدام بلازما الهيدروجين كعامل مختزل بدلا من الفحم، بحيث تتكون سبيكة تحتوي من عناصر أخرى من النيكل والكوبالت.
وفي التجربة الجديدة، التي نشرت نتائجها مؤخرا في مجلة "ساينس أدفانسز"، طوّر فريق البحث طريقة لاستخلاص المعادن عبر صهر الخامات البحرية في فرن قوسي كهربائي باستخدام "هيدروجين البلازما" كعامل اختزال بدلا من الفحم، مما يقلّل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ويخفض استهلاك الطاقة.
كما تسمح العملية بفصل النحاس النقي أولا ثم تكوين سبيكة تحتوي على النيكل والكوبالت، مما يسهّل عمليات المعالجة اللاحقة، ويساعد على تقليل النفايات وتفادي إزالة الغابات المرتبطة غالبا بالتعدين الأرضي التقليدي.
يقول المؤلف الرئيسي في الدراسة الباحث في معهد ماكس بلانك للمواد المستدامة عُبيد منظور، في حديثه للجزيرة نت، إن الابتكار العلمي الرئيسي يكمن في تطوير عملية كهربائية بالكامل، أحادية الخطوة، لاستخلاص النحاس والنيكل والكوبالت من عقيدات المعادن المتعددة في أعماق البحار.
ويضيف منظور أنه على عكس طرق الاستخلاص الحالية، لا تعتمد الطريقة الجديدة على مصادر الطاقة الكربونية أو عوامل الاختزال الكيميائية مثل فحم الكوك أو الفحم الحجري.
ويوضح الباحث أن الطرق التقليدية تتطلب مراحل متعددة، بما في ذلك التكليس والاختزال الكيميائي والتكرير، وهي عمليات كثيفة الاستهلاك للطاقة وتُنتج كميات كبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفي المقابل، يدمج الابتكار الجديد جميع هذه الخطوات في مرحلة واحدة تعمل بالكهرباء، مما ينتج عنه سبيكة معدنية مكررة مباشرةً، ونتيجةً لذلك حققت التجربة انخفاضا يُقدر بنسبة 84% في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وانخفاضا بنسبة 18% في إجمالي استهلاك الطاقة مقارنةً بأحدث الطرق.
ويعدّ استخلاص النحاس مباشرةً دون استخدام أي عوامل اختزال خارجية إنجازا بالغ الأهمية، إذ لأول مرة يمكن استخلاص النحاس من العُقيدات متعددة المعادن من خلال التحكم الدقيق في الديناميكا الحرارية باستخدام إستراتيجية مصممة خصيصا للمعالجة الحرارية، فمن خلال إدارة ظروف التسخين والتبريد بعناية يُمكن استخلاص النحاس النقي مباشرةً من العُقيدات.
وبينما يؤدي الاستخدام المزدوج للكربون في استخلاص المعادن بالطرق التقليدية إلى انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون أثناء المعالجة، يوضح الباحث أن عملية الاختزال القائمة على بلازما الهيدروجين تُزوَّد بالطاقة الحرارية من الكهرباء المتجددة بدلا من الاحتراق، كما تُستبدل فيها عوامل الاختزال الكربونية بالهيدروجين.
ونتيجة لذلك، يُزال الأكسجين من أكاسيد المعادن عبر اختزال الهيدروجين، مُنتجا بخار الماء كمنتج ثانوي رئيسي بدلا من انبعاث غازات الدفيئة بشكلٍ كبير وتحسين كفاءة الطاقة المُبلغ عنها، وهو ما يُبرز المزايا البيئية لهذا المسار لاستخلاص المعادن الحيوية بشكلٍ مستدام.
يوضح الباحثون في دراستهم أن استخراج عقيدات المعادن المتعددة من أعماق البحار على نطاق واسع يحمل تحديا بيئيا يجب الانتباه إليه، حيث توجد هذه العقيدات في بعض أقل النظم البيئية استكشافا على كوكب الأرض، وقد يُؤثر الاضطراب الواسع النطاق لقاع البحر على الموائل في قاع المحيط، ويُخلّ بالتوازن البيولوجي البطيء النمو، ويُغير بنية الرواسب.
وتشمل المخاوف الإضافية تكوّن أعمدة الرواسب، والآثار المحتملة على النظم البيئية في المياه المتوسطة، والشكوك المحيطة بالتعافي على المدى الطويل، وفقدان التنوع البيولوجي.
يوضح الباحث أن هذه التحديات الرئيسية تتمثل في عدم الفهم الكافي حتى الآن للعديد من هذه الآثار الإيكولوجية، وذلك بسبب محدودية البيانات، وطبيعة العواقب التراكمية والطويلة الأجل لتعدين أعماق البحار التي قد لا تظهر إلا على مدى فترات زمنية طويلة، مما يُبرز أهمية اتباع نهج وقائي وإجراء تقييم علمي دقيق قبل الشروع في أي نشاط واسع النطاق.
ولا تكمن التحديات الرئيسية أمام تبني هذه الطريقة المستدامة للاستخراج تجاريا في المقام الأول في الجوانب التقنية، بل تشمل الاستثمار واللوائح والسياسات العامة.
فعلى الصعيد التقني، يرى الباحثون أن عملية استخلاص المعادن باستخدام بلازما الهيدروجين في أفران القوس الكهربائي تعد مفهوما راسخا نظرا لانتشار أفران القوس الكهربائي في صناعة المعادن اليوم، ولا تتطلب سوى تعديلات طفيفة لتشغيلها بأمان باستخدام الهيدروجين.
وفي الوقت نفسه يجب أن يأخذ أي تقييم واقعي في الحسبان توافر الكهرباء النظيفة والهيدروجين الأخضر، وهما عنصران أساسيان لجعل هذه العمليات صديقة للبيئة بشكل فعلي على نطاق صناعي.
لكن العوائق الرئيسية التي قد تواجه هذه العمليات تكمن في تأمين الاستثمارات الأولية الكبيرة اللازمة للمنشآت الجديدة أو القائمة، وفي وضع لوائح وسياسات واضحة، وسيكون للتدخل الحكومي ولا سيما في شكل تسعير الكربون ولوائح الانبعاثات ودعم التقنيات الصناعية منخفضة الكربون، دورٌ أساسي في تحفيز الصناعة على تبني هذه الطريقة وتقليل مخاطر الاستثمارات المبكرة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة