لوقت طويل، بدت الرياضيات في نظر كثيرين حقلا محصنا ضد التلاعب، فنتائجها تبنى على البرهان، والبرهان إما صحيح وإما غير صحيح.
لكن تقريرا أعده فريق دولي بقيادة أستاذة الرياضيات إلكه أغريكولا من جامعة ماربورغ في ألمانيا، كشف أن بابا آخر للتلاعب اتسع في السنوات الأخيرة، وهو التلاعب بمنظومة النشر العلمي نفسها، لا بصحة الأفكار فقط، بل بطريقة تسويقها، واحتساب قيمتها، ورفع حضورها على الورق.
التقرير أُنجز بتكليف من الجمعية الألمانية للرياضيات وبالتعاون مع الاتحاد الدولي للرياضيات، ونُشر على هيئة تقرير بحثي على منصة ما قبل النشر الأكاديمي "أركايف إكس".
الفكرة الأساسية ليست تزوير برهان رياضي بالضرورة، بل تزوير منظومة التقييم التي تحدد من يُرى ومن يُموَّل ومن يُرقّى، وبدل أن يُقاس البحث بمضمونه وتأثيره العلمي الحقيقي، صار كثير من التقييم يعتمد على مؤشرات تجارية مثل: عدد الأوراق المنشورة وعدد الاستشهادات وسمعة المجلة بالأرقام (مثل معامل التأثير وقوائم التصنيف)، وهذه المؤشرات -بحسب التقرير- تُدار غالبا عبر شركات تجارية وبآليات غير شفافة تماما للمجتمع العلمي، ما يجعلها قابلة للاستغلال.
عندما تصبح الأرقام هدفا بحد ذاتها، تظهر صناعة كاملة لخدمة هذا الهدف. يشير التقرير إلى وجود جهات احتيالية تبيع خدمات تحسين المؤشرات، من تأمين نشر سريع في منافذ ضعيفة التحكيم، إلى بيع الاستشهادات، وصولا إلى شبكات تبادل استشهادات منظمة (ما يُعرف بكارتلات الاستشهاد).
كما يلفت الخبر إلى صعود ما يسمى بـ"المجلات العملاقة" التي تنشر بأعداد هائلة، خصوصا حين يدفع المؤلف رسوم نشر، حتى باتت في بعض الحالات تنشر سنويا أكثر مما تنشره مجلات الرياضيات الرصينة مجتمعة.
النتيجة الجانبية القاسية هي أن تتراكم أوراق هدفها الأساسي رفع الأرقام لا تقديم معرفة جديدة، وقد تكون ضعيفة أو بلا معنى علمي، فتهدر وقت المحكمين والباحثين والتمويل.
قد يبدو ذلك مفاجئا، لكن توصيات الفريق توضّح نقطة مهمة، وهي أنه في الرياضيات تكون معدلات النشر والاستشهاد أقلّ عادة من كثير من العلوم التجريبية.
وهذا يعني أن زيادة صغيرة مصطنعة في الاستشهادات أو عدد الأوراق قد تغير الصورة الإحصائية بسرعة، فتبدو كأنها قفزة حقيقية في التأثير العلمي.
بل إن التقرير يذكر مثالا دالا على غرابة النتائج حين تترك المؤشرات وحدها تقود الحكم، فقد أشارت بعض قواعد البيانات التجارية في وقت ما إلى أن أكثر جامعة تضم باحثين عالميين في الرياضيات هي جامعة في تايوان، في حين أن الرياضيات ليست مطروحة فيها كتخصص من الأساس.
نشر الباحثون كذلك تقريرا بحثيا إضافيا لا يكتفي بتشخيص المشكلة، بل يطرح خريطة عمل عملية موزعة على 3 مستويات: صناع القرار والجهات الممولة، ثم الجامعات والمؤسسات البحثية، وأخيرا الأفراد من الباحثين.
الفكرة العامة هي تقليل الاعتماد على الأرقام وحدها، وإعادة الاعتبار لتقييم الخبراء ولجودة المحتوى العلمي.
على مستوى صناع القرار والتمويل، يوصي التقرير بأن يتم توزيع الموارد بناء على تقييم خبراء متخصصين، لا على بيانات القياسات الببليومترية وحدها، مع تجنب الاعتماد على تصنيفات تجارية للمجلات مثلا.
كما يدعو الفريق إلى دعم المجلات الجيدة ومقاومة المجلات الافتراسية، وضع تعريفات واضحة للممارسات السليمة في النشر وتشجيع الالتزام بها، إلى جانب الحد من الهوس بتصنيفات الجامعات بوصفه محركا غير صحي لسباق الأرقام.
المجلات الافتراسية، هي مجلات تبدو في ظاهرها علمية لكنها في الواقع تضع الربح قبل الجودة، حيث تطلب من الباحث رسوما للنشر، ثم لا تقدم تحكيما علميا حقيقيا ولا تحريرا مهنيا ولا شفافية كافية، وقد تستخدم أساليب خادعة لتبدو مرموقة.
وعلى مستوى الجامعات والمؤسسات البحثية، تشدد التوصيات على تقليل الاعتماد على المؤشرات في لجان التعيين والترقية، والتركيز بدلا من ذلك على تقييم الباحث عبر أفضل أعماله ونشاطه العلمي الحقيقي لا عبر كثرة الإنتاج.
وتوصي كذلك بالتوعية بالمجلات الافتراسية وبضعف الارتباط بين الجودة العلمية ومؤشرات مثل معامل التأثير والاستشهادات، مع عدم ربط منح الدكتوراه بشرط عدد محدد من الأوراق.
وتضيف ضرورة الحذر في دفع رسوم النشر واعتماد ممارسات مؤسسية واضحة تخص الانتماءات البحثية والبريد المهني.
أما على مستوى الأفراد والباحثين، فتدعو التوصيات إلى قراءة الأعمال وتقييمها بمحتواها بدل الاتكال على الأرقام، والإعلان عن هذا المنهج عند كتابة التقارير والتحكيمات.
كما تحث على تجنب النشر في المجلات الافتراسية، وإن كان قد حدث ذلك سابقا بحسن نية فمن الأفضل توضيحه في السيرة الذاتية. وأخيرا تشدد على تثقيف الباحثين الشباب بشأن مخاطر التلاعب بالأرقام والبيانات، حتى لا تتحول المؤشرات إلى بديل عن الحكم العلمي الرشيد.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة