آخر الأخبار

باحث سوداني للجزيرة نت: الكيمياء تعيد اكتشاف أسرار مشروب "الحلو مر"

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

اشتهر "الحلو مر" السوداني بوصفه مشروبا رمضانيا عرفه السودانيون منذ قرون، لكن دراسة جديدة بقيادة باحث سوداني يعمل بجامعة إيبرهارد كارلس توبنغن بألمانيا أعادت اكتشاف هذا المشروب، لتخرجه من بوتقة "التقليد الاجتماعي" المرتبط بأحد المواسم إلى طرحه كحل غذائي في وقت الحروب والأزمات وما يصاحبها من انعدام في الأمن الغذائي وتقطع سلاسل الإمداد، وذلك بسبب محتواه المرتفع من المواد الغذائية.

ويُصنع هذا المشروب يُصنع في غربي السودان فقط في إقليمي دارفور وكردفان، ويُصنع في أغلب الأحيان من الذرة الرفيعة ومن الدخن اللؤلؤي، وهو محصول له قابلية عالية لتحمل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة.

وتسهل زراعة هذا النبات في الأراضي الهامشية، مما يجعله مرشحا مثاليا لإكساب هذا المشروب الشعبي مزايا تجعله مناسبا لوقت الطوارئ والأزمات، وهذه هي الرسالة التي أراد الدكتور طلال سيد عبد الحليم، زميل مبادرة فيليب شوارتز بالجامعة الألمانية والباحث الرئيسي في الدراسة المنشورة بدورية "فود كمستري أدفانسز"، توصيلها.

مصدر الصورة مرحلة الإنبات أو التخمير المبدئي التي أجريت على حبوب الدخن اللؤلؤي المستخدمة في الدراسة (طلال سيد عبد الحليم)

سر الطعم المميز

ويقول عبد الحليم للجزيرة نت إن تصنيع مشروب "الحلو مر" من الدخن اللؤلؤي يمر بعدة خطوات، تبدأ من غسل الحبوب أولا ونقعها في الماء لتبدأ مرحلة الإنبات أو التخمير المبدئي، وهي خطوة تمنحها طاقة حيوية وتزيد من محتواها من المركبات النشطة.

وبعد ذلك تجفف الحبوب وتطحن لتتحول إلى دقيق، يتم خلطه بالأعشاب والتوابل العطرية مثل القرفة والقرنفل والزنجبيل، قبل أن تخضع العجينة لعملية تخمير ثانية تكسبها مذاقها المميز، ثم تأتي مرحلة الخبز على الصاج لتنتج رقائق تعرف باسم "الرقاق" أو "رقائق الحلو مر"، تحفظ لاستخدامها لاحقا.

وأضاف عبد الحليم أن طريقة تجهيز المشروب للاستخدام تبدأ عادة بنقع نحو 120 غراما من رقائق الحلو مر في لتر من الماء النظيف عند درجة حرارة الغرفة (حوالي 25 درجة مئوية) لمدة ساعتين، ثم يصفى السائل ويضاف إليه 10 غرامات من السكر لكل لتر مع التحريك حتى الذوبان الكامل.

إعلان

ويكتسب هذا المشروب اسمه من التوازن الفريد في طعمه بين حلاوة التمر أو السكر المستخدم في التحضير، والطعم المر الناتج عن التخمر والتوابل، فيجمع بين النكهات المتناقضة في انسجام لافت.

وأشار إلى أن محصول الدخن اللؤلؤي، المستخدم في تصنيع المشروب بغربي السودان والذي يرشحه ليكون هو المحصول الرئيسي في التصنيع، وليس الذرة الرفيعة، يُعرف بقدرته العالية على التأقلم مع البيئات القاسية والجافة، وهو من أكثر المحاصيل قدرة على النمو في الأراضي الفقيرة، وتتنوع السلالات المحلية التي تدخل في تحضيره بين "دمبي الأحمر" و"دمبي الأصفر" و"دِمبي الأبيض"، ولكل منها تركيبة كيميائية مميزة تنعكس على خصائص المشروب النهائية.

مصدر الصورة لفائف مشروب الحلو مر السوداني (الجزيرة)

اختلافات واضحة في المحتوى الكيميائي

وكشفت نتائج الدراسة عن اختلافات واضحة في المحتوى الكيميائي الحيوي بين مراحل التحضير المختلفة للمشروب، وبين السلالات الثلاث من الدخن (الأحمر والأبيض والأصفر).

ويقول عبد الحليم "تم تسجيل تغيرات كبيرة في مستويات الفلافونويدات الكلية والمركبات الفينولية الكلية والكاروتينات والتانينات وحمض غاما أمينوبوتيريك أثناء مراحل التحضير".

وأظهرت النتائج أن رقائق "الحلو مر" المصنوعة من صنف دمبي الأصفر تحتوي على أعلى تركيز من حمض الغاما أمينوبوتيريك، وهو مركب معروف بدوره الحيوي في تهدئة الجهاز العصبي وتنظيم ضغط الدم ودعم وظائف الدماغ، في حين أظهر صنف دمبي الأحمر أعلى محتوى من المركبات الفينولية والكاروتينات والتانينات، وهي مضادات أكسدة طبيعية تسهم في تعزيز المناعة وصحة العين والجلد.

وأضاف عبد الحليم أن عمليتي الإنبات والتخمير لا تقتصران على تحسين النكهة فقط، بل تؤديان إلى زيادة محتوى المركبات الحيوية وتقليل المواد المضادة للتغذية مثل التانينات، مما يجعل المشروب أكثر فائدة وسهولة في الهضم.

وقد أظهرت الاختبارات أن الرقائق النهائية تمتلك قدرة مضادة للأكسدة أعلى من الدقيق الخام، مما يعزز مكانة "الحلو مر" بوصفه منتجا غذائيا غنيا بالمركبات الواقية من الأمراض.

غذاء مقاوم للأزمات

وأشار عبد الحليم إلى أن الدخن اللؤلؤي هو محصول مقاوم للجفاف، مما يجعله مثاليا للزراعة في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو الكوارث، كما أن تحويل الحبوب إلى رقائق "الحلو مر" يمنحها قابلية عالية للتخزين والنقل، مع زيادة في الفعالية الحيوية، الأمر الذي يجعلها غذاءً إستراتيجيا قابلاً للتطبيق في حالات الطوارئ وانقطاع الإمدادات الغذائية.

وبيّن أن الفريق البحثي وضع ما يشبه "الملف المثالي" لإنتاج الحلو مر في البيئات الهشة، ويتضمن استخدام سلالات الدخن الغنية بالمركبات الفينولية والكاروتينات مثل "دمبي الأحمر"، أو تلك ذات النشاط الأنزيمي العالي مثل "دمبي الأصفر"، وإنبات الحبوب لمدة 48-72 ساعة في ظروف رطوبة وحرارة مضبوطة، ثم تخميرها لمدة 18-24 ساعة باستخدام بادئات تقليدية أو بكتيريا محلية، وإنتاج الرقائق عبر الخبز السريع على صاج ساخن أو التجفيف على حرارة منخفضة للحفاظ على المركبات الحيوية، وتوفير منتج نهائي مستقر يمكن حفظه لفترات طويلة، مع طريقة تحضير بسيطة تعتمد على إضافة الماء والسكر أو التوابل.

إعلان

وشدد عبد الحليم على أهمية إشراك مجموعات النساء في عملية الإنتاج بما يتماشى مع الأدوار المجتمعية التقليدية في السودان، وتوفير بيئة نظيفة ومياه صالحة للتخمير والخبز، مع استخدام أدوات بسيطة مثل صواني الإنبات، وألواح التجفيف، وأكياس تخزين محمية من الضوء والأكسجين.

كما أوصى بتنويع النكهات باستخدام الكركديه أو التمر الهندي أو القرفة أو الزنجبيل، لما تضيفه من نكهات مميزة ومغذيات نباتية إضافية.

ودعا إلى تطوير آليات تخزين وتوزيع للرقائق يمكن أن تشكل ميزة حيوية في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو النزوح، وإلى دمج المشروع مع نظم البذور المحلية لضمان استدامة زراعة أصناف "دِمبي" السودانية.

تحديات وحلول

وأوضح عبد الحليم أن من أبرز التحديات المتوقعة هو تفاوت نتائج التخمير وتأثيرها على القيمة الحيوية وسلامة المنتج، ويمكن التغلب على ذلك عبر توفير مزارع من البكتيريا أو الخمائر يتم تحضيرها وتجهيزها بطريقة علمية موحدة لاستخدامها في التخمير الغذائي.

أما الجهد والوقت المطلوبان لعمليتي الإنبات والخبز فيمكن تقليصهما عبر آليات شبه آلية أو تنظيم الإنتاج ضمن تعاونيات نسائية، كما يمكن مواجهة نقص التوابل في أوقات الأزمات من خلال الاعتماد على النباتات المحلية البديلة.

وللتعامل مع الحرارة والرطوبة أثناء التخزين، أوصى باستخدام عبوات مقاومة للضوء والأكسجين أو حلول محلية مثل علب الصفيح والتخزين في أماكن مظللة، كما دعا إلى إعادة تقديم "الحلو مر" كغذاء يومي مغذٍ، لا كمشروب موسمي في رمضان فقط.

الخطوات القادمة

واختتم عبد الحليم حديثه بالإشارة إلى أن الخطوة التالية تتمثل في تنفيذ مشروع تجريبي صغير لإنتاج الحلو مر من أصناف "دِمبي" في المجتمعات السودانية الأكثر هشاشة، مع رصد القبول المجتمعي والتغيرات الغذائية بعد المعالجة.

كما يجري العمل على مقارنة طرق التحضير المختلفة مثل التجفيف الشمسي مقابل الخبز على الصاج، للبحث عن الطريقة المثلى في الحفاظ على المركبات الحيوية مثل الفينولات والكاروتينات وحمض غاما أمينوبوتيريك.

وأشار إلى أن الفريق يسعى لتطوير نسخة معززة من الحلو مر بإضافة البقوليات أو المستخلصات النباتية المحلية لتعزيز القيمة الغذائية أكثر، إلى جانب إعداد دليل تدريبي مصور موجه لمجموعات النساء والمدارس الحقلية يشرح خطوات الإنتاج والتعبئة بأسلوب عملي مبسط.

واختتم قائلا إن "إعادة اكتشاف الحلو مر ليست مجرد حفاظ على تراث غذائي سوداني أصيل، بل هي استثمار في غذاء المستقبل القادر على الصمود في وجه الأزمات".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار