في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تخيل أنك جزيء ماء تعيش في صحراء جافة، هذا غريب حقا لكن فقط تخيل، في هذه الحالة فإنك لا تجد مكانا تختبئ فيه من الحر، ثم تكتشف فجأة غرفة صغيرة مثالية موجودة في منزل قريب، جدران هذه الغرفة تجذبك وتحتفظ بك ثم تطلقك من جديد عندما تشرق الشمس.
في الكيمياء، فإن تلك "الغرفة" هي ما يسميه العلماء الإطار الفلزي العضوي، وهي واحدة من أروع الاكتشافات الحديثة في الكيمياء، والتي كانت السبب في حصول 3 علماء هم ريتشارد روبسون وسوسومو كيتاغاوا وعمر ياغي على جائزة نوبل في الكيمياء، لأنهم ابتكروا هذا النوع الجديد من المواد التي تحتوي على فراغات دقيقة جدا تسمح بمرور الغازات والسوائل داخلها وخارجها كأنها إسفنجة بلورية ذكية.
هذه المواد تتكون من ذرات فلزات مثل النحاس أو الزنك تعمل نقاط التقاء أو مفاصل في البناء، ترتبط بها جزيئات عضوية تعمل كجسور بين تلك النقاط، وعندما ترتبط هذه المكونات معا تكوّن شبكة ثلاثية الأبعاد مليئة بغرف صغيرة جدا، كل واحدة منها أصغر من الفيروس.
ولفهم الفكرة تخيل أنك تبني بيتا صغيرا جدا، لكن بدلا من الطوب والحديد تستخدم ذرات وجزيئات، في هذا البيت العجيب توجد أعمدة قوية مصنوعة من ذرات الفلزات مثل النحاس أو الزنك، هذه الأعمدة هي التي تمسك البنية كلها معا، تماما مثل الأعمدة الحديدية في مبنى حقيقي.
وبين كل عمود وآخر تمتد جسور دقيقة جدا من جزيئات عضوية (أي جزيئات تحتوي على الكربون)، تعمل كجسور تربط الأعمدة ببعضها البعض، وعندما تتصل الأعمدة بالجسور في كل الاتجاهات يتكون ما يشبه شبكة هندسية ثلاثية الأبعاد، وبين هذه الأعمدة والجسور لا يكون البناء صلبا بالكامل، بل يحتوي على فراغات صغيرة جدا (مثل الغرف)، كأنك تبني بيتا لكن من الذرات.
يمكن لهذه الشبكة أن تحتجز جزيئات صغيرة مثل الغازات أو بخار الماء، أو تسمح لها بالدخول والخروج بحرية كما تفعل الإسفنجة عندما تمتص الماء وتُخرجه من جديد.
ورغم صغر حجمها فإن غرامات عدة من هذه المادة يمكن أن تحتوي على مساحة داخلية تعادل ملعب كرة قدم كامل، ولهذا السبب يمكنها التقاط الكثير من المواد بكم كبير نسبيا، فهي قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وجمع بخار الماء من جو الصحراء لصنع الماء، وتخزين الهيدروجين كوقود نظيف، وحتى نقل الأدوية داخل الجسم بطريقة آمنة ودقيقة.
ببساطة، هؤلاء العلماء صنعوا مباني مجهرية من الذرات فيها غرف صغيرة جدا يمكنها احتجاز أي مادة يريدونها، وهكذا فتحوا أمام الكيمياء عوالم جديدة تماما داخل المادة نفسها.
بدأت القصة عام 1974 عندما كان ريتشارد روبسون أستاذ الكيمياء في جامعة ملبورن الأسترالية يجهز تمرينا بسيطا لطلابه في المعمل، أراد منهم أن يبنوا نماذج للجزيئات باستخدام كرات خشبية تمثل الذرات، وعيدان تمثل الروابط الكيميائية التي تربط بينها.
وأثناء تحضيره النشاط لاحظ روبسون شيئا مثيرا للاهتمام، فطريقة حفر الثقوب في الكرات (تلك الثقوب التي ستوضع بها العيدان) تعكس بدقة كيف ترتبط الذرات في الطبيعة، فمثلا ذرة الكربون دائما ما تكوّن 4 روابط مرتبة في شكل هرمي صغير، كيف نشأ هذا الشكل الهرمي؟ ولم يكون هرميا من الأساس؟
مثلا في النموذج الذي كان يعمله روبسون كل كرة خشبية تمثل ذرة، وكل عصا خشبية تمثل رابطة كيميائية تربط ذرتين معا.
الآن، تخيل أن عندك كرة تمثل ذرة كربون، في أرض الواقع تحب أن تمسك هذه الذرة بـ4 ذرات أخرى، مثل ذرات الهيدروجين أو الأكسجين، وكل رابطة تتجه في اتجاه مختلف لتشكل شكلا يشبه الهرم.
في النموذج الخشبي، لكي تمثل هذا يجب أن تحفر 4 ثقوب في الكرة، كل واحد في اتجاه مختلف، بحيث لو أدخلت فيها العيدان ستخرج العيدان في شكل هرمي، بالضبط كما تفعل ذرة الكربون في الطبيعة.
ويعني ذلك أن مكان واتجاه الثقوب في الكرة يمثل طريقة الكربون في تكوين الروابط في الواقع، وبنفس المبدأ كل نوع من الذرات له عدد واتجاهات مختلفة من "الثقوب".
وهكذا فهم روبسون أن الطريقة التي ترتبط بها الذرات ليست عشوائية، بل فيها هندسة محددة، هذا الاكتشاف البسيط أثار في ذهن روبسون فكرة عميقة: ماذا لو استخدمت الخصائص الطبيعية للذرات والجزيئات نفسها لأبني منها مواد جديدة بالكامل، ليس مجرد جزيئات صغيرة، بل هياكل ضخمة منظمة؟
مرت السنوات، وقرر روبسون أخيرا تجربة فكرته، حيث جمع أيونات النحاس الموجبة (ذرات نحاس فقد إلكترونا)، مع جزيء عضوي له 4 أذرع يمكنها أن تمسك بالنحاس في أطرافها، وعندما خلطهما لم يحصل على فوضى كما توقع البعض، بل تكوّن هيكل بلوري منظم تماما يشبه الألماس في انتظامه، لكن داخله فراغات واسعة.
لقد نجح روبسون في بناء هندسة جزيئية تحتوي على تجاويف، وهو شيء لم يكن موجودا من قبل في الكيمياء، لكن المشكلة كانت أن هذا الهيكل كان هشا للغاية ينهار بسهولة، فاعتبره الكثير من العلماء تجربة جميلة لكنها غير عملية.
لكن هذه الفكرة لم تمت، فقد جاء بعده عالمان آخران هما سوسومو كيتاغاوا وعمر ياغي ليمنحاها الصلابة والمرونة، ويحولانها إلى ثورة حقيقية في علم المواد.
في تسعينيات القرن الماضي، كان سوسومو كيتاغاوا -الذي كان يعمل في اليابان- مفتونا بهذه المواد التي بدت "عديمة الفائدة"، كان يعتقد أنه حتى الهياكل غير المستقرة أو الهشة يمكن أن تكشف عن مبادئ جديدة في الكيمياء.
وفي عام 1992 ابتكر واحدة من أوائل المواد الجزيئية المسامية ذات المساحات الصغيرة التي يمكن للجزيئات أن تختبئ فيها، لم تكن قوية بعد، ولكنها مهمة من الناحية النظرية.
لم يتوقف كيتاغاوا عند اكتشافه الأول، بل واصل التجربة والمثابرة حتى حقق في عام 1997 إنجازا كبيرا غيّر نظرة العلماء للمادة، فقد نجح في بناء هياكل ثلاثية الأبعاد باستخدام معادن مثل الكوبالت والزنك، وربطها بجزيء عضوي يُعرف باسم "ثنائي البيريدين" يعمل كجسر يربط الذرات ببعضها البعض.
وعندما جف هذا الهيكل من الماء ظل ثابتا ومستقرا رغم أنه مليء بالفراغات الدقيقة، والأروع من ذلك أن الغازات، مثل الميثان والنيتروجين والأكسجين استطاعت الدخول إلى داخل الهيكل والخروج منه بحرية دون أن يتفكك أو ينهار.
كان هذا الاكتشاف ثوريا بحق، فلأول مرة ظهرت مادة يمكنها أن "تتنفس"، فهي تمتص الغاز ثم تطلقه مجددا، تماما كما تفعل الرئة في الكائنات الحية، لكنها تبقى محافظة على شكلها وصلابتها في كل مرة.
وبعد ذلك اكتشف كيتاغاوا أن هذه المواد لا يمكنها فقط أن تتنفس، بل أيضا أن تتمدد وتنكمش مثل الرئة البشرية، فهي مرنة ومتفاعلة مع بيئتها، تتغير دون أن تتكسر.
في البداية، لم يدرك الكثيرون هذه الإمكانات، حيث كان الكيميائيون يمتلكون بالفعل الزيوليت، وهي مواد مسامية قديمة مصنوعة من السيليكا، لكن كيتاغاوا أدرك الفرق: يمكن تصنيع الأطر الفلزية العضوية حسب الطلب على المستوى الجزيئي، مما يوفر مرونة وتنوعا لم توفرهما الزيوليتات قط.
في الولايات المتحدة كان عمر ياغي -وهو عالم أردني أميركي- يسعى بشكل مستقل إلى تحقيق نفس الحلم، وهو بناء المواد بطريقة عقلانية ومنضبطة بدلا من التفاعلات الكيميائية العشوائية.
بدأ شغف ياغي بالكيمياء منذ طفولته، وقالت منصة جائزة نوبل إن دراسة الكيمياء خيارا بديهيا لعمر ياغي، فقد نشأ هو وإخوته في غرفة واحدة بالعاصمة الأردنية عمّان بلا كهرباء أو مياه.
كانت المدرسة ملاذا له من حياة مليئة بالتحديات، في أحد الأيام عندما كان في العاشرة من عمره تسلل إلى مكتبة المدرسة التي كانت عادة مغلقة واختار كتابا عشوائيا من الرف، وعند فتحه لفتت انتباهه صوره غير مفهومة ولكنها آسرة، كانت تلك أول تجربة له مع البنى الجزيئية.
في سن الـ15 وبناء على تعليمات والده الصارمة انتقل ياغي إلى الولايات المتحدة للدراسة، وهناك انجذب إلى الكيمياء، ثم إلى فن تصميم المواد الجديدة.
في عام 1992 عندما تولى ياغي منصبه الأول قائدا لمجموعة بحثية في جامعة ولاية أريزونا أراد إيجاد طرق أكثر تحكما لإنشاء المواد، كان هدفه استخدام التصميم العقلاني لربط المكونات الكيميائية المختلفة مثل قطع الليغو لصنع بلورات كبيرة، واتضح أن هذا صعب ويحتاج وقتا طويلا، لكنهم نجحوا أخيرا عندما بدأت مجموعة البحث بدمج أيونات الفلزات مع الجزيئات العضوية.
في عام 1995 نشر ياغي أول وصف مفصل لما سماها الأطر الفلزية العضوية، كانت أطره العضوية المعدنية مستقرة ومنظمة وواسعة وقادرة على احتجاز "الجزيئات الضيف" داخلها.
ثم في عام 1999 كشف النقاب عن "إم أو إف 5″، وهو تحفة فنية حقيقية في الهندسة الجزيئية، استطاع هذا الإطار تحمّل درجات حرارة تصل إلى 300 درجة مئوية، وبلغت مساحة السطح الداخلي لبضعة غرامات منه مساحة ملعب كرة قدم، كانت خفيفة وقوية ومليئة بعدد لا يحصى من الحجرات المكعبة الصغيرة.
بعد بضع سنوات بنت مجموعة ياغي عائلات كاملة من الأطر العضوية الفلزية مع تعديل روابطها الكيميائية لتغيير حجمها ووظيفتها.
إحدى مواده اللاحقة "إم أو إف 303" كانت قادرة على جمع الماء من هواء الصحراء ليلا وإطلاق مياه صالحة للشرب عند تسخينها بأشعة الشمس الصباحية، وهي معجزة حقيقية للمناطق الجافة.
ومنذ ذلك الحين ابتكر الكيميائيون حول العالم عشرات الآلاف من الأطر الفلزية العضوية، كل منها أشبه بمبنى فريد، بممرات وغرف ومداخل مصممة لغرض محدد، يمكن لهذه المواد أن تُحدث ثورة في تخزين الطاقة وتنظيف البيئة والطب وتكنولوجيا المناخ، حتى إن بعض العلماء يُطلقون على الأطر العضوية المعدنية اسم "مادة القرن الـ21".
وبسبب ما سبق وصفت لجنة نوبل هذا الاكتشاف وصفا رائعا "لقد أوجدوا فضاءات جديدة للكيمياء"، وهذا ليس مجرد تشبيه، فلقرون تعاملت الكيمياء مع الجزيئات كأجسام صغيرة صلبة، مثل الكرات الزجاجية.
وسّع روبسون وكيتاغاوا وياغي هذا المجال ببناء بنية جزيئية كبيرة بما يكفي لاستيعاب جزيئات أخرى، لقد منحوا الكيميائيين مساحة للتفكير والتصميم والابتكار بطرق جديدة تماما.