حذّر خبراء ومختصون من تصاعد ظاهرة «الاحتراق الوظيفي» في بيئات العمل، مؤكدين أنها باتت ظاهرة صامتة تستنزف طاقة الموظفين وتُكبِّد المؤسسات خسائر متزايدة، سواء عبر تراجع الإنتاجية، أو فقدان الكفاءات تدريجياً من دون مغادرتهم الفعلية لمواقع عملهم، والتي تعدّ من أخطر تداعيات هذه الظاهرة وتتمثل في بقاء الموظف جسدياً في موقع عمله ومغادرته نفسياً مكتفياً بأداء الحد الأدنى من المهام من دون مبادرة أو إبداع.
وقالو لـ«الإمارات اليوم» إن الاحتراق الوظيفي يُعدّ استهلاكاً نفسياً وجسدياً مزمناً ناتجاً عن ضغوط مستمرة في بيئة العمل، وغالباً ما يصيب الموظفين المجتهدين وأصحاب الطموح العالي نتيجة ضغوط العمل المكثفة، أو غياب التقدير، أو العمل ضمن بيئات مهنية سامة تتسم بالصراعات ومحاولات إحباط النجاح.
وحددوا 11 عَرَضاً لإصابة الموظفين بالاحتراق الوظيفي، تتوزع بين أعراض نفسية وسلوكية وجسدية، تشمل «شعور الموظف بقلق وضغط دائمين، وعدم الارتياح، وإرهاق جسدي وعقلي مستمرين، وفقدان الحافز والشغف تجاه العمل، إلى جانب التشاؤم والسلبية، وصعوبة التركيز، وكثرة الوقوع في الأخطاء، كما تظهر سلوكيات مثل الانعزال والتأخر وضعف التفاعل، تقابلها أعراض جسدية تتمثل في الصداع، وآلام العضلات، واضطرابات النوم، وتغيرات الشهية، مؤكدين أن تلك الأعراض تتطور في حال تجاهلها إلى الاكتئاب.
كما حدّدوا أربعة أسباب رئيسة تُعدّ من أكثر العوامل التي تدفع الموظف تدريجياً نحو الاستنزاف النفسي والجسدي، وصولاً إلى الاحتراق الوظيفي، تشمل الضغوط المستمرة، وغياب التوازن بين العمل والحياة، وضعف التقدير، إلى جانب سوء الممارسات الإدارية.
وبيّـن المختصون أن القطاعات الخاصة، لاسيما التعليم الخاص وخدمات الأعمال، تُعدّ من أكثر القطاعات عرضة للاحتراق الوظيفي، بسبب كثرة الضغوط، وقلة الاستقرار الوظيفي، وضعف التقدير.
وطالبو المؤسسات بضرورة توفير قنوات آمنة للشكاوى والاستماع إلى الموظفين، وعقد جلسات تواصل مفتوحة من دون خوف أو وصم، في ظل صمت كثير من الموظفين عن معاناتهم، خشية فقدان وظائفهم أو اتهامهم بعدم القدرة على التحمّل.
وروى عدد من الموظفين في قطاعات مختلفة تجاربهم مع «الاحتراق الوظيفي»، مؤكدين أن هذه الحالة لا تبدأ فجأة، بل تتسلل تدريجياً حتى تُفقدهم الحماسة والشعور بالإنجاز، مطالبين بمزيد من الوعي المؤسسي، وبتبنّي سياسات تراعي التوازن بين العمل والحياة، وتمنح التقدير قبل أن يصل الموظف إلى مرحلة الإنهاك الكامل.
ضغوط دون تقدير
وتفصيلاً، قال (محمد. س) إن يوم عمله لم يعد ينتهي بخروجه من المكتب، مشيراً إلى أن ضغط المهام واستمرار التواصل خارج أوقات الدوام جعلاه يشعر بالاستنزاف النفسي، مضيفاً: «كنت أظن أن ما أمرّ به مجرد تعب مؤقت، لكنني اكتشفت أنني أعمل بلا طاقة أو دافع، فقط لأن عليّ الاستمرار».
وأوضحت (ميادة. ع)، موظفة تعمل في قطاع خدمي، أن الاحتراق الوظيفي لا يرتبط فقط بعدد ساعات العمل، بل بغياب التقدير والدعم، قائلة: «أتعامل يومياً مع ضغوط كبيرة، لكن الأصعب هو الشعور بأن الجهد غير مرئي»، مشيرة إلى أن الإرهاق الذهني بات يرافقها حتى خارج ساعات العمل، ما جعلها تشعر بأعراض غياب الشغف في العمل، ما يؤثر تدريجياً في أداء عملها.
وأضاف (إبراهيم. أ)، موظف يتمتع بخبرة طويلة في مجال خدمة العملاء، أن الاحتراق الوظيفي لا يدفع الموظف بالضرورة إلى ترك عمله، لكنه يفقده الشغف، قائلاً: «مازلت أؤدي مهامي لكن من دون روح أو حماسة، وكأنني حاضر جسدياً فقط، فالروتين وغياب فرص التطوير أسهما في تفاقم هذه الحالة».
مسؤولية مشتركة
وقال خبير الموارد البشرية، الدكتور سعيد الطنيجي، إن مفهوم الاحتراق الوظيفي يُعدّ من المفاهيم الحديثة نسبياً، وبات ظاهرة صامتة داخل بيئات العمل، وينتج في كثير من الأحيان عن الانغماس الوظيفي المفرط، عندما يجعل الموظف العمل محور حياته الوحيد على حساب جوانب حياته الأخرى، موضحاً أن الإنسان يحتاج إلى التوازن بين ثلاث حيوات أساسية، هي الحياة الذاتية للنفس، والحياة الأسرية، والحياة المجتمعية، مشيراً إلى أن الإخلال بأي من هذه الجوانب يؤدي تدريجياً إلى الاحتراق الوظيفي.
الأداء المهني
وقالت خبيرة الموارد البشرية، منى وضاح، إن الاحتراق الوظيفي يُعدّ حالة من الاستهلاك النفسي والجسدي المزمن للموظف، تنتج عن ضغوط مستمرة في بيئة العمل، موضحة أن الضغط الطبيعي يتحول إلى احتراق عندما يستمر لفترات طويلة من دون دعم أو تقدير، ويصاحبه شعور بالعجز وفقدان الدافعية، إلى جانب تراجع واضح في الصحة والأداء المهني.
وأكدت أن الاحتراق الوظيفي هو في الأساس مشكلة مؤسسية أكثر من كونه مسؤولية فردية، مشيرة إلى أن قدرة الموظف على التحمّل لا يمكن أن تعالج بيئة عمل غير عادلة، لاسيما في بعض القطاعات الخاصة التي تُدار فيها كوادر تعليمية أو وظيفية بسيطة بعقلية السيطرة لا التطوير، أو يتم تهميشها لصالح كوادر أعلى أو مفضّلة إدارياً، ما يفاقم الشعور بالظلم والإجهاد.
وأوضحت أن القطاعات الخاصة - خصوصاً التعليم الخاص وخدمات الأعمال - تُعدّ من أكثر القطاعات عرضة للاحتراق الوظيفي، نتيجة كثرة الضغوط، وقلة الاستقرار الوظيفي، وضعف التقدير، إلى جانب غياب الدعم الحقيقي ووجود تمييز، وهو ما يخلق بيئات عمل متوترة تؤدي مع الوقت إلى الإرهاق وفقدان الحافز.
وبيّنت أن الأخطاء الإدارية تُسهم بشكل مباشر في خلق الاحتراق الوظيفي، خصوصاً عند غياب وضوح المسمّى الوظيفي وتداخل المهام بين التخصصات، ما يؤدي إلى تحميل الموظف أعمالاً خارج نطاق دوره، ومع استمرار الضغط من دون تقدير أو توازن بين العمل والحياة، يتعزز شعور الموظف بالإرهاق والظلم وصولاً إلى الاحتراق.
وحذّرت من أن بعض الشركات تخسر موظفيها من دون أن يتركوا العمل فعلياً، عندما يفقد الموظف شغفه وانتماءه ويكتفي بأداء الحد الأدنى من المهام من دون مبادرة أو إبداع، مؤكدة أن بقاء الموظف جسدياً ومغادرته نفسياً أخطر أنواع الخسارة المؤسسية.
وفي ما يتعلق بالحلول الواقعية، دعت إلى أهمية اختيار قيادات مؤهلة إنسانياً قبل أن تكون إدارية، ووضع سياسات واضحة للعدالة وعدم التحيز، وتحديد الأدوار والصلاحيات بشكل عادل، إلى جانب تقدير الجهد المبذول وليس النتائج فقط، وفتح قنوات آمنة لتلقي الشكاوى والملاحظات.
كما اقترحت اعتماد اختبار مبسط لأصحاب الأعمال في القطاع الخاص لقياس الحد الأدنى من الكفاءة الإدارية والتنظيمية، على أن تُمنح الأولوية في الدعم والاستفادة لمن يجتاز هذا الاختبار، وفي حال عدم اجتيازه، تتولى إدارات الموارد البشرية تعيين أو توفير كوادر مؤهلة ومتخصصة لمساندة أصحاب الأعمال في إدارة أنشطتهم بكفاءة، بما يضمن استدامة الأعمال وحماية حقوق العاملين وتحقيق المصلحة العامة، مؤكدة أن دور الموارد البشرية يجب أن يكون وقائياً بالدرجة الأولى، ولا يقتصر على ردّ الفعل، من خلال بناء ثقافة عمل صحية وعادلة ومستدامة تحمي الموظف وتدعم الإنتاجية في آن واحد.
مشكلات نفسية
من جانبها، أوضحت الأخصائية النفسية، حصة الرئيس، أن الاحتراق الوظيفي يُعدّ حالة تحمل أعراضاً نفسية واضحة ناتجة عن الضغط والاستنزاف المستمر في بيئة العمل، مشيرة إلى أن استمرار هذه الحالة من دون تدخل قد يقود إلى الاكتئاب، نتيجة ما يعيشه الفرد من ضيق دائم وقلق وفقدان للشغف.
وقالت إن الاحتراق الوظيفي غالباً ما يصيب الموظفين المجتهدين وأصحاب الطموح العالي، نظراً إلى تعرضهم لضغوط عمل كبيرة، أو لغياب التقدير، أو للعمل ضمن بيئات مهنية سامة مليئة بالصراعات ومحاولات محاربة النجاح، مؤكدة أن طلب المساعدة يبدأ بالاعتراف بوجود المشكلة، معتبرة أن إدراك الشخص معاناته واحتياجه للدعم يُعدّ نصف الحل، وخطوة أساسية نحو استعادة التوازن والصحة النفسية.
وبيّنت أن أعراض الاحتراق الوظيفي تنقسم بشكل عام إلى أعراض نفسية وسلوكية وجسدية، وغالباً ما تتداخل مع بعضها بعضاً وتزداد حدّتها في حال تجاهلها وعدم التعامل معها مبكراً، وتشمل معاناة الموظف قلقاً وضغطاً دائمين وشعوراً بعدم الارتياح، مع إرهاق جسدي وعقلي مستمرين وفقدان الحافز والشغف تجاه العمل، ويغلب عليه التشاؤم والسلبية وصعوبة التركيز وزيادة الوقوع في الأخطاء، كما تظهر أعراض سلوكية مثل الانعزال والتأخر وضعف التفاعل، تقابلها أعراض جسدية كالصداع، وآلام العضلات، واضطرابات النوم، وتغيرات الشهية، وكل ذلك ينعكس بشكل مباشر على الإنتاجية والصحة العامة.
وشددّت على أهمية الوعي بمفهوم الاحتراق الوظيفي والوقاية منه، من خلال تبنّي الاعتدال في الأداء المهني، وعدم تحميل النفس أعباء تفوق طاقتها، مؤكدة أن الضغوط المستمرة من دون توازن كافٍ قد تؤدي إلى استنزاف نفسي وعاطفي يؤثر سلباً في الكفاءة والصحة النفسية على المدى البعيد، داعية إلى ضرورة البحث عن الاستقرار النفسي والمهني، ووضع حدود واضحة بين متطلبات العمل والحياة الشخصية، والاستفادة من الاستشارات المهنية والتعلم من تجارب الآخرين، مشيرة إلى أن إدراك أهمية الراحة وتنظيم الجهد لا يُعدّان تقصيراً، بل ضرورة لضمان الاستمرارية المهنية بجودة وكفاءة.
مسؤولية مشتركة
أكد الدكتور سعيد الطنيجي أن بعض الموظفين يعملون بدافع السعي إلى الترقية، فيبذلون جهداً مضاعفاً ليلاً ونهاراً لتحقيق هذا الهدف، بينما يعمل آخرون بدافع الحصول على الإشادة والتميّز وإثبات الذات داخل بيئة العمل، ما يدفعهم إلى الإفراط في العطاء من دون الالتفات إلى حياتهم الشخصية، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى استنزاف طاقتهم ووصولهم إلى مرحلة الاحتراق الوظيفي عندما يشعرون بأنهم قدّموا كل ما لديهم ولم يعد لديهم ما يضيفونه، خصوصاً بعدما لم يجدوا تقديراً لهذا الجهد، وأكد أن مسؤولية الاحتراق الوظيفي مشتركة بين الفرد والمؤسسة، موضحاً أن كثيراً من الموظفين لديهم تصور غير دقيق لمفهوم النجاح الوظيفي، حيث يُطلب منهم تحقيق أهداف محدّدة تعدّ جزءاً من مهامهم الأساسية، إلا أن بعضهم يضيف جهوداً إضافية من تلقاء نفسه، من دون أن تكون مطلوبة رسمياً، ثم لا يجد التقدير المناسب لها، ما يولد الإحباط والشعور بالظلم، داعياً الموظفين إلى ضرورة إدراك أدوارهم ومتطلبات وظائفهم بدقة، وطرح أسئلة جوهرية حول ما يقدّمونه، ولمن وكيف ولماذا، ولفت إلى أن بعض المؤسسات تعتمد نظام الحوافز القائم على زيادة الإنتاجية من دون مراعاة قدرات الموظفين أو ظروفهم الشخصية، ما قد يدفعهم إلى قبول أعباء إضافية تفوق طاقتهم من أجل الحصول على الحافز، وشدد على ضرورة أن تقوم بيئات العمل بدراسة أوضاع الموظفين والمهام الموكلة إليهم بعناية، لافتاً إلى أن كثيراً من الموظفين لا يصرّحون بمعاناتهم من الاحتراق الوظيفي، خوفاً من فقدان وظائفهم أو من وصمهم بعدم القدرة على التحمّل، مطالباً بتوفير قنوات تواصل آمنة وشفافة بين الموظفين والإدارة، مقترحاً عقد جلسات ودية أو عائلية تتيح للموظفين التعبير عما يمرون به من دون ضغوط أو محاسبة، وأكد أن المؤسسات، على الرغم من حرصها على تحقيق رضا المتعاملين وهو أمر إيجابي، فإنها في كثير من الأحيان تغفل عن رضا الموظفين الذين يُعدّون الأساس الحقيقي لنجاح أي مؤسسة، موضحاً أن إرضاء الموظف يجب أن يسبق إرضاء العميل، لأن فقدان الموظف أو استنزافه نفسياً ينعكس سلباً على بيئة العمل ومستوى الأداء المؤسسي على المدى البعيد.
موظفون:
• العمل لم يعد ينتهي بالخروج من المكتب، والإرهاق الذهني بات يرافقنا خارج ساعات العمل.
المصدر:
الإمارات اليوم