آخر الأخبار

في كتاب جديد.. الإمارات ضمن أبرز تجارب الدول الآسيوية في صناعة النمو الاقتصادي

شارك

أصدر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بأبوظبي كتاباً جديداً عن تجارب التنمية الاقتصادية في دول آسيا، والكتاب الصادر بعنوان "صناعة التنمية: قصص نجاح قطاعية ملهمة عبر آسيا"، تأليف د. رشا مصطفي عوض، مستشار السياسات والاستراتيجية والتنمية المستدامة وخبير في قيادة التغيير، وفي هذا الكتاب أبرز مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في الفصل الأول من الكتاب تجربة دولة الإمارات الرائدة في التنمية الاقتصادية تحت عنوان " الإمارات: العُمران المُستدام – منصة حيوية لرفاه الانسان".

"ستعيش الأجيالُ القادمة في عالمٍ يختلف تمامًا عن ذات الذي اعتدْنا عليه. ولذا فمن الضروري أن نُعِدَّ أنفسَنا وأولادنا لذاك العالم الجديد".. بهذه البوصلة التي وضعها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تحرّكت الإمارات في مسار حضري لا يرى المدينة ككتلة عمران، بل كمنظومة حياة: بيت قريب من العمل والخدمات، ظل يُطمئن المارة، هواء أنقى، ماء مُصان، وشارع يُدار للإنسان قبل المركبة. هذه ليست صورًا شاعرية، بل طريقة عمل تقيس أثرها في يوم الناس: دقيقة تُستعاد من الزحام، خطوة إضافية يمشيها طفل بأمان، نافذة تُفتح لأن جودة الهواء الداخلي تحسّنت، فاتورة تُخفّ لأن المبنى صار أكثر ذكاء وكفاءة.

دخلت الإمارات امتحان الألفية أمام معادلة حادّة: نمو حضري سريع، صيف طويل وقاسٍ، وموارد مائية محدودة. لم تُعالَج هذه المعادلة بتجميلٍ أخضر عابر، بل بميزانٍ دقيق يجمع الجرأة والضبط: تخطيط يتعلم من كل موسم، أدوات قياس تُحوّل الحدس إلى قرار، وبنية تحتية تبني للحاضر وتتهيأ للطوارئ. لذلك تُقرأ الإنجازات في مؤشراتٍ متراكمة على جودة الحياة والأمان وسلاسة الخدمات؛ والأهم أنها ليست "نهاية طريق"، بل دلائل على مسار اختار الإنسان مركزًا له، واعتبر المدينة "أمانة" تُحاسَب بقدر ما توفر من وقتٍ وهواءٍ وماءٍ وفرص.

انعكس ذلك على إشاراتٍ تتكرر في تقارير العالم. قفزت دبي إلى المركز الرابع عالمياً في مؤشر المدن الذكية لعام 2025 الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)، مسجلة تقدماً بثماني مراكز خلال عام واحد فقط. اتصالاً، تقدَّمت أبوظبي إلى المركز الخامس في تصنيف المؤشر، من تصنيفها في المركز العاشر في عام 2024، متجاوزةً العديد من العواصم العالمية الكبرى. ويعزز هذا الإنجاز المكانة العالمية لكل من دبي وأبوظبي كمدن مستقبلية متقدمة تعتمد على التكنولوجيا، مع تصدرهما المرتبتين الأولى والثانية عربياً وآسيوياً على التوالي.

ووفقًا لـ "إكسبات إنسايدر" (Expat Insider) لعام 2025، حلّت الإمارات في المرتبة السابعة إجمالًا بين 46 وجهة، واحتلّت المرتبة الثانية عالميًا في "جودة الحياة" مع صدارةٍ عالمية لأبعاد السلامة الشخصية والبنية التحتية للطرق. كما واصلت ترسيخ مكانتها كأكثر البلدان أماناً في العالم، متصدرة مؤشر "نومبيو" (Numbeo) لسلامة الدول في منتصف 2025. وتقدم ترتيب الدولة إلى المركز 21 عالميًا والأولى عربياً في "تقرير السعادة 2025" بحسب بيانات مركز أبحاث الرفاهية التابع لجامعة أكسفورد، بما يعكس علاقة مباشرة بين السياسات الحضرية ورفاه السكان.

فما أهم المراحل التاريخية لتطوّر العمران المستدام في الإمارات، والمقومات الجوهرية التي صنعت هذا النجاح، وكيف استطاعت أن تدعم رحلة نجاحها، وما الفلسفة الراسخة وراء هذه التجربة وأهم الدروس المستفادة منها؟ هما ما سيتناوله العرض التالي في قراءة تحليلية تأمّلية لإضاءات إيجابية، مؤيدة بأمثلة ونماذج استرشادية.

مراحل تطوُّر مسيرة العُمران المستدام

بدأت المسيرة من قاعدةٍ بسيطة: تثبيت البوصلة قبل تثبيت الحجر. أي تحويل القيم الكبرى - مدينة أقرب للناس وبيئة أكثر صفاء - إلى لغة مشتركة تُحكَم بها القرارات، وتُقاس بها النتائج. في العقد الأول (2000–2010) خرجت الاستدامة من خانة النوايا إلى خانة الأهداف المُعلَنة مع صعود الأهداف الإنمائية للألفية؛ وُضعت مؤشرات واضحة لجودة الحياة، وتشكّلت أدوات محلية في أبوظبي ودبي تُعرّف الجودة من التصميم حتى التشغيل. ما الذي تغيّر؟ انتقل السؤال من "كم نبني؟" إلى "كيف نبني؟ ولمن؟ ولماذا؟". ومع اتساع القياس والمقارنة، تَشكّلت ثقة متبادلة بين الدولة والسوق والمجتمع: مقاصد معلنة، مساءلة منتظمة، ومسار يمهّد للالتزام الأكثر رحابة.

في الفترة من 2011 إلى 2015 تحوّلت المبادئ إلى التزام فعلي. لم تعد الاستدامة نصيحة أخلاقية، بل اشتراطات من الترخيص حتى التسليم، ومعايير تُراجع التشغيل الحقيقي. وقد سبقها قرار اتحادي عام (2010) باعتماد معايير المباني الخضراء والمستدامة على مستوى الدولة وبداية التطبيق في المباني الحكومية مطلع 2011، مع توقع وفوراتٍ قدرُها 10 مليارات درهم وخفض يقارب 30% من الانبعاثات بحلول 2030. وهكذا، أصبح هناك سلاسل امتثالٍ متكاملة، نمذجة للطاقة، خطط ضبط جودة، تكليف وتشغيل تجريبي، ووثائق تُثبت احتياجات المالك ومعايير التصميم. ومع هذه "الهندسة التنظيمية" نشأت سوق محلية للكفاءة؛ تحركت سلاسل التوريد، انخفضت تكلفة الامتثال مع وفورات الحجم ومنحنى التعلّم، وصارت الكفاءة ميزةً تجارية لا عبئًا إضافيًا.

ثم جاءت فترة 2015–2020 لينقل التركيز من "مبنى جيد" إلى "مدينة أفضل". اتصلت السياسات القطاعية تحت مظلة رفاهٍ حضري: النقل، المياه، الطاقة، الصحة، والمجال العام صارت حزمة واحدة تُدار يوميًا. وفّرت الأجندة الخضراء 2030 مظلّةً اقتصادية–بيئية طويلة الأمد لزيادة القيمة المضافة وتقليل الانبعاثات معًا، ثم جاءت الخطة الوطنية للتغيّر المناخي للفترة 2017 لتربط خفض المخاطر المناخية بجدول أعمال التنويع الاقتصادي؛ فغدا النمو والتحوّل الأخضر مسارًا واحدًا لا مسارين متوازيين، ودخلت اعتبارات المناخ والهواء والمياه في جوهر صنع السياسات الحضرية.

خلال الفترة من 2021 إلى 2023، اتخذ مسار "العمران المستدام لرفاه الإنسان" مُنعطفًا نوعيًّا حين غادر حيّز المبادرات المتناثرة إلى أفقٍ وطني بعيد المدى تُدار فيه المدينة كأصلٍ استراتيجي داخل سرديةٍ واحدة للاقتصاد والمجتمع والبيئة. بدا ذلك بإطلاق المبادرة الاستراتيجية للحياد المناخي 2050 في أكتوبر 2021، وتبلورت لاحقًا في "استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050" التي تم إطلاقها في نوفمبر 2023، بوصفها مظلّة اتحادية تربط التخطيط الحضري وإدارة الموارد بمسارٍ مُعلن لخفض الانبعاثات لعقود قادمة، وتحوّل الاستدامة إلى قاعدة قرارٍ استثماري وتنموي.

تم تدشين البرنامج الوطني للسكك الحديدية، السياسة الوطنية للمركبات الكهربائية، وتهيئة البنية التحتية للشحن، وطاقة نظيفة - من المتجددة إلى النووية - ترفع الاعتمادية وتقلل الكثافة الكربونية، وغير ذلك من مسارات تتكامل فيما بينها. وفي السياق الاقتصادي–البيئي، أرست "سياسة الاقتصاد الدائري 2021–2031" - التي تم إطلاقها في يناير 2021 - إطارًا تنظيميًا يُفعِّل التحوّل الحضري عبر أولوياتٍ تشمل البنية التحتيّة الخضراء، والنقل المستدام، والتصنيع المُستدام، بالإضافة إلى الإنتاج والاستهلاك المُستدامين للغذاء. ومع "توافق الإمارات" الصادر عن مؤتمر الأطراف في إتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المُناخ" (كوب 28) عام 2023، اكتسبت المدن دور المنصة الأولى للتحول التنموي المُستدام.

ومنذ عام 2024 دخلت التجربة طور التنفيذ المُقاس والصمود المُموَّل. كشفت عاصفة أبريل 2024 –أغزر هطول أمطار مُسجل منذ بدء جمع البيانات عام 1949 - استثنائية الحاجة إلى "هندسة منظومات" لا حلول إسعافية: توسعة شبكات التصريف، تحديث استعمالات الأراضي، إنذار مبكر، وموازنة دقيقة بين الندرة والفيض. على الساحل، ارتقت الطبيعة إلى خط دفاع أول: مانغروف تُخزّن كربونًا أزرق وتحمي السواحل وتنعش الهواء. تسارعت كهربة النقل والتنقل النشط، وامتد التمويل الأخضر، وظهرت النتائج في تصنيفات المدن الذكية وجودة العيش. هكذا اكتمل سلّم التحول: بوصلة تُقاس والتزام يصنع سوقًا للجودة، منظومة رفاه حضري، أفق عمران حضري مؤيد بالتقنية، وصمود يُقاس أثره في يوم الناس.

المًقومات الرئيسة للتجربة الإماراتية

لا تُفسَّر التجربة الإماراتية بخط زمني فقط عبر تحليل مسيرة الرحلة، بل بشبكةٍ فاعلين يعملون معًا. في طرفٍ أول حكومة "مهندس منظومات" توزّع الأدوار بين الاتحادي (يرسم الوجهة) والمحلي (يحوّلها لخدمةً في الحي والشارع). في قلب الآلة التنفيذية تقف شركات المرفق وهيئات المدن بوصفها "مديري الدورة الحياتية" للأصل الحضري: كهرباء، مياه، صرف، طرق، نقل عام، إسكان، ومجال عام؛ تُغلق فجوة الأداء بين المخطط والتشغيل، وتحوّل البيانات اليومية إلى قرارٍ أذكى. في الطرف الآخر سوق متنوع: مطوّرون، مصانع، لوجستيات، مصارف وصناديق استثمار؛ لا يتلقّون التنظيم فحسب، بل يصممون الإشارة الاقتصادية ويختبرون الحلول ويخفضون تكلفتها.

وعلى الضفة المعرفية جامعات ومراكز بحث تبني "ذاكرة تشغيلية" تربط العلم بالقرار، وتجسّر بين المختبر والمدينة. ويتقدم فاعل المجتمع المدني والمهني - مجالس الأبنية الخضراء، جمعيات مهندسين، حركات ركوب الدراجات، وروّاد الأعمال الاجتماعيون - بوصفه مُشكّلًا لثقافة الامتثال الطوعي والوجه الإنساني للمدينة. ويبرز الفاعل المالي السيادي بصفته "مهندس المخاطر" في الاقتصاد الحضري: صندوق سيادي يشارك في تمويل البنية التحتية الذكية، وبنوك تُصدر أدوات دينٍ مستدامة، ومنصاتُ كربون تُسعّر بدائل التعويض عالي النزاهة - كلها أدوات تُحوِّل الصمود والكفاءة والهواء النظيف إلى قيمةٍ قابلةٍ للتمويل. وحتى لا تتفرق الخيوط، تتفاعل الجهات معًا بأدوار سبعة: المعماري، المقنّن، المشغّل، المموّل، المبتكر، المقيم، والراوي.

لم تولد إرادة التحوّل الإماراتي إلى "عمرانٍ مستدام لرفاه الإنسان" من فراغ؛ بل من مصفوفة ضغوطٍ متراكبة كان لا بدّ من تحويلها إلى مُحركًا للتغيير: مجتمع حضري واسع التنوع يريد سكنًا وخدمةً وحركةً وهواءً أوضح؛ مناخ حار جاف وإجهاد مائي يفرضان الاقتصاد في الطاقة والماء؛ منافسة عالمية على المواهب ترفع سقف الجودة في الأمان والرقمنة؛ وأحمال تبريد مرتفعة تُلزم بذكاء إدارة الذروة وكفاءة مستمرة. اقتصاديًا كشفت حسابات العمر الكامل أن "تكلفة اللا-استدامة" أعلى بكثير من تكلفة الإصلاح؛ سياسيًا ومؤسسيًا أغلقت لغة المؤشرات فجوة التوقعات، فصار التحسين المثبت هو ما يُكافأ. ومع كل صدمة طقس، انتقل الاستعداد من رد فعل إلى هندسة مسبقة للصمود.

وتأتي الأدوات لتجعل الرؤية طريقة تشغيل. جوهرها بسيط: معيار أداء يحرّر الابتكار بقياس الأثر لا الوصفة، وتمويل يرى دورة الحياة - سندات وصكوك خضراء، قروض مرتبطة بالأهداف، وائتمانات كربون عالية النزاهة - وبيانات تُدار كمنفعة عامة، مع توأمة رقمية وسجل للمدينة بواجهات مفتوحة. تُسجَّل الطبيعة كأصل له قيمة وصيانة، وتؤدي الجهة العامة دور "المشتري الأول للابتكار" لفتح سوق الحلول الجديدة. تُدار الرحلة اليومية بإدارة ذكية للطلب: توقيت، تسعير، تنظيم رصيف، وتخطيط "مدينة 20 دقيقة"، وتعمل المدينة كـنظام تشغيل يوحّد الهوية والدفع والخرائط والخدمات. وبالموازاة، تُبنى سوق مهارات خضراء دقيقة تمنح الممارسين شارات اعتماد تُترجم إلى جودة تشغيل أعلى.

كيف يتحوّل التحسين الصغير إلى قفزة كبيرة؟

من نجاحات التجربة الإماراتية غزلت حلقات ديناميكية لضمان استدامة الزخم العمراني التنموي وفق نهج ذاتي لا ينفذ. كل نجاحٍ صغير يُخفض عدم اليقين، ويجذب رأس المال، ويرفع كفاءة القرار، فتتسارع الدورة وتترسخ الثقة. هكذا يتجاوز العمران وظيفة المكان إلى صناعة رفاهٍ مستدام: مدينة تُدار كأصل وتُشغَّل كمنصّة، تُقاس بقدرتها على تحسين جودة العيش اليوم، ومرونتها في مواجهة الغد.

يأتي في مقدمة هذه الحلقات الفاضلة "حلقة القياس"؛ فحين يصبح القياس لغة القرار، تُربط الرخصة بالأداء الفعلي، وتُسدَّد عقود التشغيل عند تحقق النتائج. كفاءة الطاقة والمياه وجودة الهواء وزمن الرحلة تتحول من أرقام صامتة إلى مؤشرات يُناقشها صانع القرار وتنعكس على جداول العمل. كل نجاح صغير - مدرسة تخفض استهلاكها الحقيقي، أو خط حافلات يرفع معدلات انتظامه - يقلّل عدم اليقين، فيسهل التمويل، فيتوسع التنفيذ، فتتحسن المؤشرات مجددًا، وتدور العجلة. لولا هذه الحلقة لظلّت المباني "خضراء على الورق"، والنقل العام يُقاس بعدد الخطوط لا زمن الرحلة، ولظل رأس المال مترددًا لأن اللغة مشتركة مفقودة.

في سياق متصل، تأتي "حلقة البيانات"، والتي يتم التعامل معها كمنفعة عامة، لتتغير حياة اليوم: هوية رقمية ودفع موحد، منصات "التنقل كخدمة"، عدادات ذكية، ولوحات قيادة تربط الهواء بالزحام والحرارة بالسلوك. كل تحسين في زمن الخدمة يرفع الاعتماد على القنوات الرقمية؛ كل استخدام إضافي يولّد بيانات أكثر جودة؛ وكل بيانات أكثر جودة تعود كنماذج تنبؤ وتوزيع موارد أدق. تتحول الخوارزميات إلى سياسة: جداول حافلات تتكيّف مع الطلب الحقيقي، تنظيم الرصيف كأصل نادر، مواقع شحن تُحدَّد بالأنماط الفعلية لا الأمنيات. ومع وضوح خطوط الأساس، ينخفض هامش مخاطر التمويل المرتبط بالأداء، وتولد أسواق محلية للتحليلات والصيانة التنبؤية.

هناك أيضًا حلقة "تمكين السوق المحلي". فحين ربطت الإمارات تراخيص البناء والتحديث بأداء مُقاس - مثل "استدامة/اللؤلؤ" في أبوظبي و"لوائح المباني الخضراء" في دبي - لم تكن تضع أختامًا على الجدران، بل كانت تخلق سوقًا محلية لمنتجات وخدماتٍ ينبغي أن تفي بمعايير الكفاءة وجودة الهواء وإدارة المياه. وهكذا، تحركت "تروس" دقيقة: مواصفات صارمة في المشروعات العامة، موردون ومكاتب هندسية يعيدون تأهيل قدراتهم، شركات خدمات طاقة تموّل من التوفير، ثم تمويل أوفر لأن الأداء أصبح مُثبتًا. هكذا تصبح السياسة الصناعية جزءًا من العمران: مسارات ظلّ تُنشئ سوقًا لمواد مبردة وأثاث حضري متين، معايير "الماء الرمادي" تفتح أعمال تشغيل وصيانة، ويتراكم "رصيد ثقة" ليُعيد تسعير الجدارة الائتمانية للمشاريع الأكفأ.

وأخيرًا، تأتي "الطبيعة" كحلقة فاعلة، بعد التوقف عن التعامل معها بوصفها "زينة حضرية" ولكن "دفتر أصول". لقد تبدّل المشهد: مانغروف تخزن كربونًا وتحمي الشواطئ وتنعش الهواء؛ ممرات خضراء تبرد الأحياء وتُشجّع المشي؛ ريّ بمياه معالجة يصنع دورة مائية مغلقة. آثار محسوسة - شارع أبرد بدرجتين، شكاوى أمراض تنفسية أقل، مشي أطول على كورنيشٍ مظلّل- تحولت إلى وفورات في أحمال الذروة وكلف الصحة. ومع تسجيل المنافع، أصبحت الطبيعة "أصلًا ممولًا" يجد تمويلًا أيسر لأنها تقلّل مخاطر الطاقة والنقل والصحة معًا. وتتغذى هذه الحلقة من القياس والبيانات والسوق: كل ظلّ جديد يولّد قياسًا أدق، وكل وفْرٍ تشغيلي يدخل تمويل الأداء، وكل طلب على الراحة الحرارية يخلق سوقًا لمواد وتقنيات وخدمات محلية.

وعندما تتشابك الحلقات، تبدو تجربة الإمارات في العمران المستدام كآلة متناسقة تُدار بحلقاتٍ فاضلة تتغذّى على نفسها: قياس صارم يحوّل الجودة إلى ثقة ورأس مال؛ بيانات تُعامل كبنية تحتية تعيد تشكيل القرار اليومي؛ سوق محليّ يُمكَّن ليحوّل الطلب المعياري إلى قدرةٍ مُنتِجة وصادراتٍ خضراء؛ وطبيعة تُدار كأصلٍ يراكم المناعة الحرارية والصحية والاقتصادية.

فلسفة الصعود واستشراف الطريق

تبدو تجربة الإمارات في العمران المستدام كمسار هادئ يراكم القيم بالعمل والاختبار، لا كعرضٍ تقني عابر. الفكرة بسيطة: قرارات تُصاغ على أفقٍ طويل يوازن بين كرامة الإنسان ومقتضيات الاقتصاد، وموارد تُدار كأمانة أخلاقية قبل أن تكون بندًا محاسبيًا. لذلك، فالرفاه ليس نتيجةً تأتي بعد المشروعات، بل هو البوصلة التي تقودها منذ البداية: جودة هواء يمكن قياسه، وقت يُستعاد من الزحام، حرارة تُروَّض، وموارد تُصان من دون أن تتراجع الحيوية الاقتصادية.

هذه الفلسفة ترى المدينة "كيانًا ذا ذمّة" أمام الزمن والأجيال. معناها العملي: نصمّم الأصول من أجل التشغيل والصيانة لا من أجل لحظة الافتتاح؛ نقيس الأثر حيث يعيش الناس لا في التقارير؛ ونعترف بأن الطبيعة شريك في الصمود المناخي وليست مجرد مشهد بصري. في هذا الإطار يصبح رأس المال وسيلة لتحقيق غاية اجتماعية واضحة، وتصبح البيانات اللغة المشتركة بين المصلحة العامة وقرارات الاستثمار. أما العدالة المكانية - ظل، وصول، أمان - فهي مفاتيح للإنتاجية وليست كماليات.

ولكي تتحول هذه الفلسفة إلى درسٍ قابل للتطبيق في أي مكان، نحتاج إلى مبادئ عملية تنظّم القرار بدل قوائم مشروعات جاهزة. المقصود أن نحافظ على اتساق القيم مع مسارات التنفيذ، وأن نحتفظ بقدرة دائمة على تصحيح المسار كلما تعلّمنا المزيد. وأبرز هذه المبادئ:

أخلاقيات الزمن التشغيلي: نتعامل مع الزمن كأصلٍ يُستثمر لا فراغ يُستهلك. تُصمَّم الأصول بعقود صيانةٍ ملزمة ومعايير أداء دورية، ويُسعَّر القرار وفق تكلفة التأخير والاختلال، لا تكلفة البناء فقط.
لامركزية تستند إلى الدليل: نمنح الحيّ والشارع صلاحية تعديل الإعدادات التشغيلية (التوقيتات، الظلّ، تنظيم الأرصفة) متى توفّر الدليل، مع حوكمةٍ شفافة تربط القرار بالبينة وتوافق المجتمع.
قابلية الرجوع كمعيار تصميم: نفضّل الحلول القابلة للعكس والتعديل على القفزات غير القابلة للتراجع. كل مشروع جديد يُسأل: كيف نعيد تشكيله بأقل كلفة إذا تغيّر العلم أو السلوك؟
ميزانية الانتباه المدني: نُعلى انتباه الناس كمنفعةٍ عامة محدودة؛ تُصمَّم الواجهات والخدمات واللافتات لتقليل الضجيج الذهني وتوضيح الخيارات الجيدة، لأن جودة الانتباه شرطٌ لجودة القرار الفردي.
محاسبة مزدوجة للمدينة: نُدير الميزانية على دفتريْن متلازمين - مالي وحيوي - بحيث لا يُموَّل مشروع لا يحقق عتبة بيئيةً واضحة (ماء، حرارة، جودة هواء) إلى جانب العائد المالي.
تنظيم أدنى فعّال: نبني القاعدة التنظيمية على اختباراتٍ صغيرة سريعة ومناطق تنظيم تجريبي، تُقاس نتائجها وتُعمَّم عند نجاحها، لخفض الاحتكاك وتسريع انتقال المعايير الجيدة إلى السوق.
الفائدة الأوسع لهذا النسق أنه يقدم "وصفة عمل" لتصميم حلقات تنموية قابلة للتكييف خارج التجربة الإماراتية. ليس المطلوب نسخ الأدوات أو استنساخ الخرائط، بل تبنّي طريقة تفكير ترى الزمن رأس مال، والقياس أمانة عامة، والسوق شريك منفعة، والطبيعة شريك صمود. وعندما تُجمع هذه العناصر على إيقاعٍ واحد، يصبح الازدهار الحضري قابلًا للدوام لأن بنيته الأخلاقية والتشغيلية متماسكة. عندها يصبح استشراف الطريق امتدادًا طبيعيًا لبوصلةٍ داخلية تعرف متى تتقدم، ومتى تُبطئ، وكيف تعيد ترتيب الأولويات دون التفريط بالمقصد الأعلى: رفاهٌ إنساني محفوظ بذكاءٍ وانضباط.

وهكذا تستلهم التجربة الإماراتية تجددها من جذور عهد الشيخ زايد؛ عهد يحمل ديمومة إعداد الأجيال لعالم جديد، برؤية حكيمة تسعى إلى واقعية كريمة تستجيب لاحتياجات الإنسان من العمران. ما دامت هذه الواقعية حاضرة في القرار، يبقى الصعود ممكنًا ومتّزنًا، وتظل الإمارات مثالًا حيًا لعمران مستدام يوسّع أفق الرفاه كلما اتسعت الرؤية وثبتت الأمانة.

٢٤ المصدر: ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا