في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تتحرك واشنطن بثقل سياسي غير مألوف نحو الملف السوداني، لكن المبادرة الأميركية التي توصف بأنها "الأكثر جدية" منذ اندلاع الحرب تواجه منذ لحظتها الأولى مأزقا مزدوجا، يتمثل في تعقيدات الداخل المتشابكة، وغياب آليات ملزمة تضمن احترام أي هدنة مقترحة.
فالمستشار الأميركي مسعد بولس تحدث للجزيرة عن "ردود إيجابية" من الجانبين، إلا أن التفاؤل الذي تبديه واشنطن يصطدم بواقع سوداني بالغ الهشاشة، حيث خلفت 30 شهرا من القتال تشوهات عميقة في الثقة، جعلت أي تعهد لفظي بلا قيمة، ما لم يرافقه نظام واضح للمحاسبة والضمانات، وهو ما ظل غائبا في المفاوضات السابقة.
التحليل الذي قدمه كاميرون هادسون، مستشار المبعوث الأميركي السابق إلى السودان ، ضمن برنامج "ما وراء الخبر"، عكس هذا الإشكال بوضوح، إذ يرى أن ما منع اختراقا حقيقيا في كل المبادرات الماضية لم يكن نقص الرغبة السياسية، بل غياب الطرف القادر على فرض الالتزام.
ومن وجهة نظره، فإن دخول الرئيس الأميركي المباشر يمنح المبادرة الحالية قوة دفع كانت مفقودة منذ سنوات، لكنه لا يلغي المعضلة الأساسية، وهي أن الطرفين لا يثقان مطلقا في بعضهما بعضا.
هذا التشخيص يتقاطع مع رؤية أخرى قدمها الدكتور فتحي أبو عمار، رئيس تحرير صحيفة "الوسط"، فعلى الرغم من اعتباره أن الدعم السريع "الأكثر ترحيبا" بالمبادرة الأميركية، فإنه يرى أن هذا القبول لا يغيّر حقيقة عميقة، وهي أن الهدنة في السودان لا يمكن أن تصمد دون مراقبة دولية حقيقية.
ويذهب أبو عمار إلى أن تجارب جدة وما تلاها أثبتت أن أي هدنة بلا آليات تنفيذ ستتحول إلى استراحة لالتقاط الأنفاس، لا إلى مدخل لتسوية سياسية.
ويتعقد المشهد أكثر عند النظر إلى موقف المؤسسة العسكرية، فالدكتور رشيد محمد إبراهيم، المحلل السياسي من بورتسودان، يشير إلى أن الجيش ينظر إلى أي هدنة من زاوية مختلفة جذريا، فهو لا يرفض مبدأ وقف إطلاق النار ، لكنه يراه مشروطا بانسحاب الدعم السريع من المدن وتجريدها من السلاح الثقيل.
وفي تقديره، هذا ليس شرطا تفاوضيا بقدر ما هو "حاجز أمان" لمنع تكرار سيناريوهات الفاشر والخرطوم .
وتوضح هذه الرؤى المتعارضة، أن المشكلة ليست في صياغة الهدنة، بل في غياب الحد الأدنى من الثقة المتبادلة، فبينما تتحدث واشنطن عن "مساعدات إنسانية عاجلة"، يرى الجيش أن أي هدنة بلا حسم تمكّن خصمه من إعادة التموضع، في حين يخشى الدعم السريع من أن تُستغل الهدنة لإعادة ترتيب المؤسسة العسكرية ضده.
العامل الخارجي يزيد الصورة تعقيدا، فالإدارة الأميركية تتحدث عن تنسيق مع الرباعية وقطر وتركيا ، لكن هذا التعدد في القنوات الدبلوماسية لا يلغي حقيقة أن أطرافا إقليمية مؤثرة تحتفظ بعلاقات متفاوتة مع طرفي الصراع.
وهنا يشير أبو عمار بوضوح إلى أن أي جهد لا يمسّ "مصادر الدعم" سيظل محدود التأثير، لأن استمرار الحرب يرتبط بشبكات تمويل وتسليح وتأييد سياسي عابرة للحدود.
وفي مقابل هذه الرؤية، يرى هادسون أن بإمكان ترامب -إذا قرر ذلك- فرض توازن ردع جديد، فالدعم السريع مصنف في الكونغرس منظمة إرهابية، والجيش يعتمد على شرعية الدولة وتفويض المجتمع الدولي .
وهذه الثنائية تمنح واشنطن فرصة لصياغة "معادلة حوافز وعقوبات" قد تُجبر الطرفين على الالتزام ولو مرحليا، لكنه يقر في الوقت ذاته، أن الإدارة الأميركية لم تقدّم، حتى الآن، أي تعهد واضح بآليات المحاسبة، وهو ما يجعل الالتزام مسألة نيات أكثر منه تعهدات قابلة للقياس.
أما على الأرض، فتبدو التطورات الميدانية عاملا حاسما في تحديد اتجاه المبادرة، فالجيش يحقق تقدما في كردفان وغرب الأُبيّض، ويدمّر أرتالا قادمة من شرق ليبيا ، في حين تواصل الدعم السريع تمركزها داخل المدن.
ومع استمرار هذا الاختلال الجغرافي، يصبح الحديث عن هدنة مستقرة شبه مستحيل، إذ يخشى كل طرف أن تمنحه الهدنة مساحة يتحرك فيها خصمه.
ومع ذلك، لا تبدو واشنطن مستعدة للاعتراف بأن الجهد الحالي قد يفشل، فبولس يتحدث بثقة عن "مرحلة انتقالية" ترافق الهدنة منذ لحظتها الأولى، إلا أن غياب رؤية واضحة لمكونات هذه المرحلة يجعل المبادرة عرضة للارتطام بالعقبات نفسها التي عطّلت منبر جدة.
فالسودان اليوم ليس مجرد بلد منقسم على خطوط عسكرية، بل هو مساحة متداخلة النفوذ، تتقاطع فيها مصالح دولية وإقليمية وحسابات قبلية وسياسية مختلفة.
وتظهر خطورة الموقف في أن كل طرف أصبح يرى في الحرب قضية وجودية، حيث يريد الجيش استعادة الدولة، والدعم السريع تبحث عن شرعية سياسية لا تمتلكها، والولايات المتحدة تريد وقف المأساة الإنسانية من دون الانخراط في "إعادة هندسة" الدولة السودانية.
ورغم ذلك، يرى مراقبون أن دخول واشنطن بثقل أكبر قد يُحدث توازنا جديدا، شرط توافر عنصرين أساسيين، هما ضمانات تنفيذية واضحة، وإجماع إقليمي حقيقي، فالتجارب السودانية السابقة تؤكد أن أي تسوية بلا رعاية دولية قوية تظل مجرد إعلان نيات مؤقت.
وما لم تتمكن واشنطن من ابتكار صيغة تلزم الطرفين بوقف النار وتمنح السودانيين مسارا يمكن الوثوق فيه، ستبقى مبادرتها مجرد حلقة جديدة في سلسلة المبادرات التي لم تغيّر شيئا في مآسي السودان الممتدة.
المصدر:
الجزيرة