"التعليم: الحرب الصامتة في القدس"؛ كُتيب أصدرته حديثًا لجنة أولياء أمور طلبة مدارس الإيمان في القدس، لرصد التحريفات في المنهاج الفلسطيني الذي يدرسه أبناؤهم.
أبرز المساهمين في إصدار الكتيب المقدسي طارق عكش يتحدث للقدس البوصلة على أهميته وأهدافه.#القدس_البوصلة pic.twitter.com/B2esiqXNu6
— القدس البوصلة (@alqudsalbawsala) August 27, 2023
في الوقت الذي تتطرف فيه مناهج إسرائيل التعليمية الموجهة للطلاب اليهود في تعظيم الهوية اليهودية وتقديس التاريخ العسكري، نجد أنها تستثمر أموالا طائلة وخبرات استشراقية وتربوية ونفسية لهندسة مناهج تعليمية للفلسطينيين تسعى لتحقيق هدف معاكس تماما، وهو خلق عربي جديد منزوع الهوية، متسامح حتى مع جلاده، ينفر من ثقافة القوة والاعتزاز بالهوية، ويجهل تاريخ أمته التي قادت العالم طوال قرون. والأخطر من ذلك، هو عربي مُبرمَج ليفهم نصوص دينه كدعوات لتعظيم محتليه والخضوع لهم.
إن ما يحدث في القدس اليوم ليس مجرد إجراء محلي، بل هو نموذج مكثف لمشروع أوسع يهدف الاحتلال لتطبيقه في كل فلسطين ، ويسعى لتصديره إلى العالم العربي. فالمؤسسات الصهيونية التي دعمت مشروع أسرلة التعليم في القدس هي ذاتها التي سعت وما تزال لتغيير مناهج التعليم في العالم العربي، ولها نجاحات ببعض الدول العربية بالفعل.
ولفهم أبعاد هذه المعركة، قامت لجنة من مجلس أولياء الأمور في إحدى مدارس القدس قبل عامين بدراسة مقارنة بين المناهج الفلسطينية الأصلية والنسخ التي حرّفها الاحتلال وفرضها على مدارس المدينة. لم تكن هذه الدراسة أكاديمية بحتة، بل كانت صرخة آباء وأمهات يدافعون عن هوية أبنائهم.
كشفت الدراسة أن الاحتلال لم يتدخل في مواد العلوم المحايدة كالرياضيات والفيزياء، ولم يسعَ لرفد التعليم في القدس بخبراته التكنولوجية المتقدمة. بل تركزت كل تدخلاته -وهنا يكمن جوهر القضية- في المواد التي تشكل هوية الطالب وشخصيته ووعيه: التربية الإسلامية، واللغة العربية، والتاريخ، والتربية الوطنية. وكانت التغييرات بالعشرات، وتمتد عبر كل المراحل الدراسية، وتزداد عمقا وخبثا عاما بعد عام.
ويدّعي الاحتلال أن هدفه هو "إزالة التحريض ومكافحة التطرف"، وهو ادعاء تفنده حقيقة أن المناهج الفلسطينية الأصلية تخضع أصلا لرقابة مشددة من الدول الأوروبية المانحة. فالهدف الحقيقي ليس إزالة التحريض، بل إزالة الهوية ذاتها.
تتبع "الأسرلة" إستراتيجية مزدوجة تقوم على الحذف الممنهج والزرع الخبيث.
يحذف كل ما يربط الطالب بتاريخه الحضاري وهويته الفلسطينية والعربية والإسلامية. وشملت عمليات الحذف التي رصدتها الدراسة:
في الفراغ الذي يخلقه الحذف، يزرع الاحتلال نصوصا ومفاهيم صممها مستشرقوه وخبراؤه لتشكيل وعي جديد، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك:
تُستخدم المناهج الدراسية في كل دول العالم لتحقيق هدفين: الأول هو "المنهج الظاهر" المتمثل في تمرير المعلومات والمعارف، والثاني هو ما سماه الباحث فيليب جاكسون "المنهج الخفي" (Hidden Curriculum) الذي تزرع من خلاله الأمم هوية أبنائها وقيمهم وثقتهم بأنفسهم وحضارتهم.
وهنا تتجلى المفارقة الصارخة؛ فبينما تستخدم إسرائيل مناهجها لترسيخ اعتزاز عرقي وديني متطرف لدى طلابها اليهود، وتعزيز ثقافة "عسكرة المجتمع"، فإنها تسعى عبر المناهج المحرفة لزرع عكس ذلك تماما في نفوس الطلاب العرب.
يتضح هذا في منهج "البجروت" (نظام تعليمي بديل عن نظام التوجيهي الفلسطيني) الذي يُفرض على فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وبدأ يجد طريقه إلى بعض مدارس القدس. ففي أحد نصوص المرحلة الابتدائية، يتعلم الطفل العربي "فضل" دولة الاحتلال على قريته، وكيف أدخلت إليها الكهرباء والعمران، ليغرس فيه شعورا بالدونية والامتنان للمحتل. وفي نهاية الدرس، وإمعانا في الإذلال، يُطلب من الأطفال أن ينشدوا نشيد "عيد استقلال" الكيان، وهو ذكرى نكبتهم وتطهيرهم العرقي.
إن خطورة ما يحدث في القدس تكمن في كونه ليس حالة معزولة، بل هو "نموذج" تسعى إسرائيل لتصديره. فالمؤسسات الصهيونية نفسها التي تراقب التعليم الفلسطيني وتعمل على تغييره، مثل مؤسسة "IMPACT-se"، وسّعت نشاطها ليشمل العالم العربي والإسلامي. وتُستخدم الضغوط السياسية والاقتصادية أداة لفرض هذه التغييرات من خلال تعاون إسرائيل في ذلك مع أوروبا وأميركا.
ففي عام 2021 اشترط البرلمان الأوروبي تغيير المناهج الفلسطينية لتحويل مساعدات بملايين اليوروات، كما استخدمت الولايات المتحدة حجة المناهج كأحد مبررات فرض العقوبات على مسؤولي السلطة الفلسطينية. وحاليا، صرح نتنياهو بأن أحد اهداف الحرب على غزة هو إعادة تشكيل وعي أهلها من خلال مناهج تعليمية جديدة تشرف عليها إسرائيل.
أما في دول عربية أخرى، فتأتي الضغوط تحت ستار "محاربة التطرف"، والتهديد بقطع المساعدات هو السلاح المستخدم. وكل ذلك بإشراف مؤسسات صهيونية لها نفوذ في الغرب، وقد حققت بالفعل نجاحات من خلال إدخال دول عربية عديدة لتغييرات في مناهجها بطلب من الغرب وإسرائيل.
الدفاع عن المناهج في القدس ليس دفاعا عن مدينة فحسب، بل هو دفاع عن مستقبل أمة بأكملها ضد مشروع يهدف إلى صناعة "المسلم الجديد" و"العربي العبد"
إن الهدف النهائي "لأسرلة التعليم" هو كسر إرادة الإنسان الفلسطيني والعربي، وتجريده من ثقته بنفسه وحضارته. يريد الاحتلال إنشاء إنسان مُدجّن، فاقد للذاكرة، لا يملك إرادة الدفاع عن حقوقه ومقدساته، بل ينظر بإعجاب وامتنان لمن قهره وظلمه.
ما بدأ في القدس وفلسطين يمتد اليوم ليطرق أبواب العواصم العربية. إنها معركة على الوعي، والدفاع عن المناهج في القدس ليس دفاعا عن مدينة فحسب، بل هو دفاع عن مستقبل أمة بأكملها ضد مشروع يهدف إلى صناعة "المسلم الجديد" و"العربي العبد".
ولكن، على الرغم من خطورة هذه الحرب الخفية على الوعي، تقدم تجربة الأهالي في القدس مؤشرا مهما على فاعلية المقاومة المعرفية. فمبادرتهم لدراسة المناهج وتوثيق التحريفات ونشرها بين الأهالي لا تمثل مجرد رد فعل، بل هي برهان على أن الوعي بطبيعة المعركة وأدواتها الخفية هو من أنجع سبل المواجهة.
لقد أثبتت هذه التجربة المحلية أن تفكيك سردية المحتل وفضح مخططاته يشكل خط الدفاع الأول عن الهوية. ويقدم هذا النموذج المقدسي دليلا على وجود إمكانية حقيقية لمواجهة هذه الضغوط، ليس في فلسطين وحدها، بل في أي سياق يتعرض فيه النسيج الثقافي والتعليمي لمحاولات التوجيه الخارجي.
فالهوية المتجذرة في تاريخ طويل وحضارة عميقة تظهر قدرة على الصمود وتوليد آليات دفاع ذاتية في وجه المشاريع الطارئة التي تستهدف الذاكرة والوعي.
*طارق عكش: الرئيس السابق لمجلس أولياء الأمور في مدارس الإيمان في مدينة القدس، وباحث في السياسة الدولية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة