لا تزال أسرار نجاح السياسي الأميركي زهران ممداني ، الذي نجح في الوصول إلى مقعد عمدة نيويورك، تتكشف شيئا فشيئا، بعدما اعتقد كثيرون أن ما حققه كان شبه مستحيل. فقد بدأت أعداد مشاهدات واستماع أغاني الراب التي أطلقها في سنواته السابقة بالتصاعد، ليكتشفه جمهور جديد كمغني راب، وكأنه شخص مختلف تماما.
وتبدو تلك الأغاني، بكلماتها وإيقاعاتها واختياراتها الفنية، تفسيرا واضحا لقدرته اللافتة على التأثير من خلف الميكروفون. فهي تحمل وعيا مبكرا بالحاجة إلى تغيير جذري، وهو الوعي الذي أصبح اليوم جوهر مشروعه السياسي.
وكان ممداني، قبل انتخابه عمدة لمدينة نيويورك ، وقبل أن يشغل مقعدا في مجلس الولاية، معروفا في أوساط موسيقى الأندرغراوند باسم "السيد كارداموم"، وهو مغني راب ذكيّ يملك وعيا اجتماعيا، ويمزج بين السخرية والإثارة السياسية في جرعات من التعليقات السياسية والاجتماعية لا تتجاوز 3 دقائق.
ويأتي تحوّل الشاب -الذي يعود إلى أصول هجينة تجمع بين الهند وأوغندا والولايات المتحدة- من الإيقاعات الموسيقية إلى صناديق الاقتراع كما لو كان إعادة ابتكار، لكن بالنسبة لمن تابعوا مسيرته عن قرب، لم ينفصل فنّه أبدا عن نشاطه السياسي، وإنما كان مقدمة تمهيدية للسياسة التي يدافع عنها الآن على أكبر منصة بلدية في أميركا.
أصدر ممداني عام 2017 ألبوما قصيرا بعنوان "كزبرة" (Cilantro)، وهو عمل ساخر يمزج بين الراب والسياسة والهوية الثقافية. من أشهر أغانيه ضمن هذا المشروع أغنية "فيض الكاري" (Curry Flow)، التي نُشرت عبر "يوتيوب"، وتميزت بطابع ساخر ونقدي للصور النمطية عن الثقافة الهندية والجنوب آسيوية في أميركا.
يشير ممداني مرارا إلى أن موهبته في موسيقى الراب لم تولد بمعزل عن نشأته في أسرة مكونة من مخرجة سينمائية ناجحة ومستقلة وقوية هي الأم ميرا ناير ومن المنظّر السياسي والأستاذ الجامعي، صاحب النزعة الاشتراكية محمود ممداني. وهو ما يعني أن الابن نشأ منغمسا في سرديات المقاومة والتداخل الثقافي بين 3 مجتمعات في كل من الهند وأوغندا والولايات المتحدة بما تحمله من اختلافات وتعقيدات وتناقضات، ومن خلال الموسيقى، وخاصة الهيب هوب، وجد صوته الخاص بين تفاصيل ذلك الزحام الفني والمعرفي والفكري.
بصفته "السيد كارداموم"، استخدم ممداني الموسيقى لتشريح كل شيء، من ذكريات سنوات الاستعمار في أفريقيا إلى التحرر. استخدم زهران السخرية والاستعارة لكشف كيف تُشكّل العنصرية والرأسمالية الحياة اليومية. كانت ألحانه مليئة بالإشارات إلى الصدمات التاريخية وفخر المهاجرين بأصولهم، ولكن دائما بلمسة مرحة، إذ دعت أبياته المستمعين إلى الضحك والتفكير والتساؤل.
في أغنيته "Curry Flow"، يقول "أُحرّر ذوقي من الاستعمار، أُصنع نكهة لحربي الطبقية، من كامبالا إلى كوينز، أنا جوهر التوابل." يقدم ممداني أو السيد كارداموم في أغنيته وعيا سياسيا مُبهجا، نابضا بالحياة، ومتجذرا في الثقافة اليومية. هذا النهج نفسه ميّز لاحقا خطاب حملته الانتخابية، وتنظيمه المجتمعي، والآن، أجندته كعمدة.
عبر سنوات مراهقته وشبابه المبكر، شكل زهران ممداني ملامح أسلوب مختلف لممارسة النشاط الثقافي، ذلك الأسلوب الذي يعتمد بشكل رئيسي على الأداء المسرحي ورواية القصص والمشاركة المباشرة، فيما يشبه استدعاء لتاريخ الحركات الشعبية الناجحة. فلم تكن عروضه الحية حفلات موسيقية فقط، وإنما مساحات تلتقي فيها الهوية الجنوب آسيوية بالسياسة.
كانت الحكايات، وما زالت، هي القاسم المشترك في خطابات وأغاني السياسي الشاب، إنه السرد الذي ورثه عن أم تروي الحكايات عبر الأفلام، وفي "الراب"، روت كلمات أغانيه قصصا نادرا ما كانت محور اهتمام وسائل الإعلام الرئيسية عن أطفال من ذوي البشرة السمراء يتمسكون بهويتهم، ومستأجرين يحاربون جشع ملاك العقارات، ومسلمين يواجهون محاولات محو هويتهم.
وعندما انتقل إلى تنظيم حملات العدالة السكنية في حي "كوينز" بنيويورك، جلب معه أداء الراب، حيث طرق الأبواب كما لو كان يلقي أبياتا شعرية، وكتب منشورات انتخابية بإيقاعات وعبارات مؤثرة، وتواصل مع الناخبين من خلال المشاعر المشتركة بعيدا عن المصطلحات السياسية.
قام ممداني بصياغة بياناته كما يكتب أغانيه، فالإيقاع حاضر تماما، والجمل بسيطة وواضحة، تعكس شعارات حملته، ومنها "السكن حق من حقوق الإنسان"، و"إلغاء الإيجار"، و"فرض ضرائب على الأغنياء لتمويل الشعب"، تلك الجمل التي تبدو فيها قوة أسلوب الراب المختصر، حتى إن أول فيديو لحملته الانتخابية عام 2020 عن خلفيته وقيمه جاء أشبه بأغنية راب، تم تلحينها بشكل بسيط وممتع، وكأن الفيديو ليس إلا بداية لحملة صُممت كألبوم موسيقي شعارها، كل سياسة أغنية، وكل احتجاج أداء.
وجعلته هذه الغريزة الفنية مؤثرا بشكل خاص مع المجتمعات الشابة متعددة اللغات والمهاجرة التي غالبا ما يتم إهمالها من قبل السياسي التقليدي. وكما خاطبت موسيقاه الهويات الهجينة، فعلت سياساته ذلك أيضا، واعترفت بأنه يحق للمواطن النيويوركي أن يكون مسلما، أو أفريقيا، أو جنوب آسيوي، أو من الطبقة العاملة، أو أبيض.
تميزت موسيقى الراب لدى ممداني، دائما، بالسخرية والتهكم، وهو أسلوب يؤدي إلى إفقاد السلطة السياسية هيبتها، سواء في قاعة الجمعية الوطنية أو في مناظرة انتخابية لرئاسة البلدية، وقد أتقن الشاب البالغ من العمر 34 عاما فن الإشارة إلى السخافات دون أن يفقد وقاره وبوصلته الأخلاقية، وهي مهارة صقلتها خشبة المسرح والميكروفون.
ولم تكن تلك الموسيقى مجرد أداة بلاغية، بل ساهمت في تشكيل فهم ممداني للتجربة الجماعية. يزدهر الراب، وخاصة أنواعه الفرعية "الأندرغراوند" و"الواعية"، في المساحات المشتركة، كالحفلات الموسيقية، والميكروفونات المفتوحة، والتعاون بين مختلف الطبقات والثقافات. وتتجسد هذه الروح التعاونية في كيفية بناء ممداني للتحالفات السياسية.
ويعكس نهجه في الحملات الانتخابية الممولة من قِبَل صغار المتبرعين، والمدفوعة بالمتطوعين، والمحلية للغاية، أخلاقيات العمل الذاتي في المشهد الموسيقي المستقل. فكما قاوم الفنانون المستقلون احتكار الشركات في صناعة الموسيقى، قاومت حملة ممداني أموال العقارات، وأجهزة الأحزاب، وهيمنة المؤسسات.
في كلا العالمين، الأصالة هي الأساس. ولم يحد ممداني عن ذلك قط. سواء كمغني راب أو كمرشح لمنصب عمدة، كان يتحدث بنفس الأسلوب الساخر، والحماسي، والأصيل.
ربما يكون زهران ممداني قد وضع اسم "السيد كارداموم" في أحد الأرفف المخفية بعد انتخابه، لكن العقلية التي ألهمت موسيقاه لا تزال حية في قاعة المدينة، إلا أن الأسلوب الذي نجح به يصلح تماما للحكم، إذ يمكنه أن يكتب القصة، كمبدع، ومن ثم يحركها الناس، لأن التغيير الثقافي يأتي أولا.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة