في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كشفت التجربة الفلسطينية أن الحرب لم تعد أحداثا عسكرية تُغيّر الواقع الاقتصادي بوصفه نتيجة غير أساسية للصراع، وإنما تحوّلت إلى أداة لإعادة تشكيل الواقعين الاقتصادي والسياسي على نحو يخدم أهدافا بعيدة المدى.
وحول هذه الفكرة نشر مركز الزيتونة للدراسات السياسية والاستشارات ورقة علمية تحت عنوان "اقتصاد اللا دولة في مرحلة ما بعد الحرب سياسات التفكيك المنظم للبنى الاقتصادية في غزة كأداة للهيمنة السياسية" للدكتور رائد محمد حلس المختص في الشأن الاقتصادي الفلسطيني.
وتُسلّط الدراسة العلمية الضوء على سياسات التفكيك المنظّم للبنى الاقتصادية في قطاع غزة ، بوصفها أداة للهيمنة السياسية في مرحلة ما بعد الحرب، وتفترض أن الحروب العسكرية الإسرائيلية المتكررة التي تعرّضت لها غزة في السنوات الأخيرة قد تجاوزت كونها مجرد حروب عسكرية، لتصبح سياسات إستراتيجية ممنهجة، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الاقتصادي والسياسي.
وناقشت الدراسة الآليات الرئيسية لسياسات التفكيك مثل السيطرة على الحدود والمعابر لفرض العزلة والعقاب الجماعي، والاستهداف المنهجي للبنى التحتية الحيوية مثل المياه والطاقة والخدمات الصحية، وتعطيل القطاعات الإنتاجية، وشلّ النظام المالي والإداري من خلال استهداف الكفاءات الوطنية، وعرقلة الموارد المالية، وتعطيل القطاع المصرفي.
وتناولت الدراسة محاولات إعادة هندسة الاقتصاد الفلسطيني في سياق خطط الإعمار الخارجية، مثل الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تهدف -وفق التحليل- إلى ترسيخ نموذج تبعي يُعرف بـ"اقتصاد اللا دولة" من خلال الإعمار المشروط وخصخصة الموارد.
وخلصت الورقة إلى نتائج وسيناريوهات مستقبلية تدور بين الهيمنة والتنازع والصمود.
أشارت الدراسة إلى أن خطط الإعمار والتهدئة يترتب عنها ما يلي:
1- تحويل غزة إلى مشكلة إنسانية بحتة
فبدلا من التركيز على الأبعاد السياسية والأمنية سيكون التركيز على المشكلة الإنسانية والاهتمام بتوفير المساعدات الغذائية من قبل المنظمات الدولية لوقف المجاعة و التجويع .
2- الاعتماد المفرط على المساعدات الإنسانية
أشارت الدراسة إلى أن الحرب على غزة التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 نتح عنها انهيار كامل في النشاط الاقتصادي، إذ توقفت معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية، مما أدى إلى فقدان مئات الآلاف من فرص العمل.
وقد تسبب هذا الوضع في لجوء معظم الناس واعتمادهم على المساعدات الإنسانية التي تقدم من قبل المنظمات العاملة في مجال الإغاثة والعون.
ووفقا لإحصائيات برنامج الأغذية العالمي ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فقد أصبح نحو 2.2 مليون شخص بحاجة ماسة وفورية إلى المساعدات الغذائية.
3- استخدام التجويع سلاح حرب
عملت تل أبيب على استخدام التجويع كأداة من وسائل الحرب على قطاع غزة، حيث أعاقت دخول المساعدات من خلال فرض حصار شامل على جميع المعابر الحدودية، كما فعلت سابقا في حرب 2007.
وقد صاحب إغلاق المعابر والحدود العمل على تدمير الأراضي الزراعية والمخابز، ومراكز توزيع الوجبات التابعة لمنظمات الإغاثة.
ونتيجة لهذه الإجراءات القاسية والخطيرة، تفاقمت أزمة الغذاء بشكل ملحوظ، الأمر الذي جعل المنظمات الدولية المعنية مثل اليونيسيف، وبرنامج الأغذية العالمي يطلقان نداءات متكررة للتحذير من تفاقم الكوارث في قطاع غزة.
وفي أغسطس/آب 2025، أكّد تقرير رسمي صادر عن اليونيسيف وقوع مجاعة لأول مرة في قطاع غزة، وأشار إلى أن النقص الحاد في المياه أو المواد الأساسية يزيد من أخطار الوفيات وخاصة بين الأطفال.
وتناولت الدراسة موضوع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث أشارت إلى أنها أصبحت بين مفترق طرق، حيث تتصارع مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، مع مصالح الدول العربية من جهة أخرى، وذلك في موضوع مسارات الإعمار وإستراتيجيات التنمية.
وتطرح إكراهات المرحلة ضرورة استشراف سيناريوهات متنوعة لتحديد المسارات الأكثر فاعلية واستدامة في بناء سياسات اقتصادية مستقلة.
ويمكن إجمال الاحتمالات الواردة في ما يلي:
السيناريو الأول: ترسيخ الهيمنة
وفي هذا الاحتمال تتحول عملية الإعمار من أداة للنهوض الاقتصادي، إلى وسيلة للسيطرة على المجتمع الفلسطيني وإدارة موارده وفقا لأجندات خارجية.
ويتجلّى هذا الاحتمال في مشروع تحويل غزة إلى " ريفييرا الشرق الأوسط "، حيث يتم ربط المشاريع الاقتصادية بإدارة الاحتلال، وتصبح البنية التحتية وسيلة للسيطرة بدلا من التحرر.
وفي هذا السيناريو أيضا تطرح فكرة السيادة المجزأة، حيث يربط نقل الصلاحيات للفلسطينيين بتحقيق كفاءات إدارية معينة، وذلك يعني تحويل الحق السياسي إلى مكافأة مشروطة بالامتثال والتبعية الإدارية للجهة الوصية.
كما تطرح في هذا السيناريو فكرة اقتصاد التبعية وخصخصة الإعمار، بحيث يعاد اقتصاد غزة ليكون مكملا وتابعا لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي .
السيناريو الثاني: استمرار مسار التنازع
ويركز هذا السيناريو على فرضية استمرار التنازع بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، و فلسطين والدول العربية والأطراف الداعمة من جهة أخرى.
وفي هذا المسار، ستتم عرقلة مشاريع الإعمار لا محالة، وذلك لوجود بيئة متوترة تتميز بالتنازع والتداخل المعقد بين المصالح الأمنية والسياسية.
وفي هذا الطرح، ستكون المشاركة الاقتصادية وتفعيل المواد تخضع للأسس التالية:
1- تضارب المصالح الدولية والإقليمية
ونتيجة للتباين في المواقف، ستسعى تل أبيب بدعم من واشنطن إلى توجيه الإعمار بما يخدم مصلحة الاحتلال، وفي مقابل ذلك سيعمل الفلسطينيون والعرب على تعزيز السيادة المحلية وتحقيق المنفعة للمجتمع الفلسطيني.
2- تأثير الخطط الدولية والإقليمية
وفي هذا الإطار ستواجه المشاريع التنموية صعوبات كبيرة في تنفيذها على أرض الواقع، إذ ستتأثر بالطرح المتعلق بتقديم الأولويات وترتيب المصالح، وهو ما سيؤدي إلى إضعاف النتائج الميدانية.
الإطار الفلسطيني الهش
وفي سياق التنازع العربي الإسرائيلي على أهداف الإعمار، يبرز الواقع الفلسطيني الهش، مما يسهم في انتشار الفوضى المؤسسية ويضعف القدرة على إعادة البناء.
السيناريو الثالث: الصمود واقتصاد المقاومة
ويركز هذا السيناريو على انتهاء الحرب، وقيام اقتصاد على أسس تنطلق من ضرورة الإعمار والتنمية مع رفض السيطرة الخارجية.
وفي هذا السيناريو تكون السيادة المجتمعية والسياسية هي حجر الزاوية، حيث يكون المجتمع المحلي قادرا على إدارة موارده، واتخاذ قراراته المصيرية.
وبالتوازي مع ذلك، يكون الاقتصاد المقاوم آلية رئيسية لضمان الاستدامة المالية والقدرة على الصمود أمام الأزمات الاقتصادية، ويشمل ذلك القدرة على تطوير الإنتاج وتمويل المشاريع الصغيرة، لتقليل الاعتماد على الاستيراد والمساعدات الخارجية.
وخلصت الدراسة إلى أن الاقتصاد الفلسطيني تكبّد خسائر فادحة استهدفت تفكيك المنظومة الاقتصادية، حتى أصبح مصنفا في دائرة "اقتصاد لا دولة" يعتمد على المساعدات الإنسانية ويخضع للهيمنة الخارجية، وتحولت معه القضية الفلسطينية من مسألة سياسية إلى مشكلة إنسانية.
لكن تجاوز "اقتصاد اللا دولة" هذا يتطلّب مقاومة سياسية واقتصادية شاملة تعيد ربط التنمية الاقتصادية ومشاريع الإعمار بالتحرر الوطني.
وقد أشارت الدراسة إلى أن هذا لن يتأتى إلا من خلال مجموعة من الأمور أهمها رفض خطط الإعمار الدولية والإقليمية، ووضع إطار وطني شامل يركز على ربط قطاع غزة بالضفة الغربية.
ومن جملة التوصيات التي قالت الدراسة إنها ستساعد في الخروج من الواقع الاقتصادي الحالي في فلسطين، هو مطالبة المجتمع الدولي بوقف الحصار، واشتراط ربط المساهمات في الإعمار بعدم عرقلتها من الكيان الإسرائيلي.