في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تعتبر مشكلة الهجرة المغادِرة والوافدة في تونس معضلة مركّبة تتجاوز البعد الأمني وآثاره، لتطال مجالات الاقتصاد والمجتمع والسياسة.
وفي حين تمثل هجرة التونسيين إلى الخارج نزيفا متواصلا للأجيال الشابة والمتعلمة يضر برأس المال البشري للدولة، فإن تدفقات الوافدين من أفريقيا جنوب الصحراء حوّلت البلاد إلى مكان للعبور والاستقرار يضغط على البنية الاقتصادية والاجتماعية بشكل لافت للانتباه.
وحول أنواع الهجرة في تونس، وأسبابها، ومخاطرها، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحمل عنوان " مشكلة الهجرة في تونس: أنواعها وأسبابها وتداعياتها " أعدها أستاذ الفلسفة والباحث في الشؤون السياسية البشير لسيود.
في الأعوام الأخيرة، تحولت الهجرة في تونس إلى ظاهرة مركبة إذ يتم التعامل معها بوصفها نقطة عبور من دول الجنوب إلى دول الشمال، وتتعرض لموجات من الهجرة والمهاجرين رغم محدودية جغرافيتها بالمقارنة مع الدول المجاورة.
ورغم الإشكالات والإكراهات المرتبطة بالهجرة في تونس، فإنه يمكن تقسيمها إلى نوعين:
تقود الهجرة المحلية رغبة بعض التونسيين في مغادرة البلاد والبحث عن حياة أفضل تكون الفرص فيها غير محدودة، والمهاجر حسب القانون التونسي هو كل شخص يحمل الجنسية التونسية ويبلغ من العمر 15 عاما فأكثر ويقيم في بلد آخر لمدة 3 أشهر على الأقل.
وتشمل الهجرة المحلية، هجرة الطلاب الذين يسافرون بقصد الدراسة والحصول على الشهادات العليا، والمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، وكذا العاطلون عن العمل.
أما فيما يتعلق بأسباب الهجرة، فإن الإحصاءات الرسمية في تونس تشير إلى أن 28.5% من المهاجرين التونسيين يذهبون بقصد تحسين الدخل، و26.7% يذهبون بهدف تحسين الظروف المعيشية، و23.2% من أجل فرص العمل، فيما يشكل التعليم نسبة 14.1%، والرغبة في السفر 3.3%، وأسباب أخرى 2.5%.
ويتعلق هذا النوع بالمهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ملف يعتبر حساسا لبلدان الضفة الأخرى من البحر المتوسط ، وأسهمت التوترات الأمنية في بعض البلدان الأفريقية إلى تصاعد موجات الهجرة نحو أوروبا عن طريق تونس.
وقد دفعت الحرب الجارية في السودان الكثير من الشباب إلى الهجرة عن طريق تونس، ووفقا لإحصاء رسمي بتاريخ يناير/كانون الثاني 2024، بلغ عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس أكثر من 13 ألف شخص، يمثِّل السودانيون 40% منهم.
وفي سنة 2023، كانت المفوضية قد استقبلت 7831 طلب لجوء، بينها 4676 من السودان، بينما لم يكن عددهم سنة 2022 يتجاوز 868 شخصا، مما يعني أن الحرب الحالية في السودان هي السبب الرئيسي لدفع الآلاف من أبناء البلاد للهجرة، بحثا عن الأمن والاستقرار المؤقت استعدادا لعبور البحر إلى أوروبا.
ويلاحظ أن السودانيين خلال إقامتهم المؤقتة في تونس يعملون في بعض القطاعات الخاصة، كالفلاحة والحراسة والصناعة والبناء، وفي الوقت ذاته يسعون إلى ربط علاقات مع شبكات التهريب للتنسيق معها حين تتوافر فرصة عبور البحر على قوارب الموت.
أما دول الصحراء والساحل (غينيا، وتشاد، و مالي ، وساحل العاج) التي تتميز بعدم الاستقرار وكثرة الانقلابات في أغلبها، فإن الهجرة منها نحو أوروبا هدف للمواطنين الباحثين عن مستقبل أفضل.
وقد سمحت عملية إلغاء التأشيرات المتبادلة بين تونس ودول الساحل والصحراء في سنة 2015 بدخول أعداد متزايدة من تلك الدول إلى البلاد خاصة بعد الاتفاقية بين إيطاليا و ليبيا عام 2017 التي نتجت عنها عمليات احتجاز للمهاجرين.
وهكذا تحولت تونس إلى وجهة مفضلة للأفارقة القادمين من دول الصحراء والساحل بغرب أفريقيا، ويرغبون في العبور إلى أوروبا، لكنهم أثناء انتظار فرصة المغادرة ينخرطون في الأعمال اليدوية المتعددة، ليسهموا في تأسيس الاقتصاد الموازي للمهاجرين.
رغم أن الهجرة تحارَب بشكل واسع، سواء في بلدان المصدر أو العبور، فإنها تعود بمزايا ملموسة، مثل التحصيل العلمي الذي يحققه الطلاب التونسيون في مجالات علمية حديثة من داخل الجامعات الأوروبية.
كما أن العمال المهاجرين يوفرون العيش الكريم لعائلاتهم، ويسهمون في انتعاش السوق من خلال ضخ العملة الصعبة والتحويلات المالية.
وقد كشف محافظ البنك المركزي التونسي، أن المغتربين من دولته يسهمون بمتوسط تحويلات يناهز 120 دولارا شهريا للفرد الواحد، في حين يصل المستوى العالمي إلى 200 دولار، وهو ما يعد إنجازا مهمّا مقارنة بالمستوى العالمي للتحويلات.
أما المهاجرون من بلدان جنوب الصحراء في تونس فلهم فوائد متعددة، منها إدخال حركية على سوق الإيجارات في المدن التي يستقرون بها، ومنها تغطية العجز في مجال اليد العاملة؛ إذ هناك العديد من الأنشطة التي أصبح الشباب التونسي يعزف عن القيام بها، سواء في مجال الفلاحة أو العمل في البناء، أو غير ذلك من المهن الصغرى التي عجز أصحاب المؤسسات الخاصة عن توفير اليد العاملة التونسية لها.
ورغم هذه المزايا العديدة للهجرة والمهاجرين، فإن لها مخاطر على أكثر من صعيد، فهجرة العقول تمثل نزيفا مستمرا للطاقات البشرية وتنعكس على النهضة العلمية للبلاد، وباتت تحتاج إلى مقاربات شاملة لاسترجاعها، أو وقفها على الأقل.
وتمثل هجرة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، الذين فرّوا من جحيم الإضرابات العمالية، خسارة كبيرة للاقتصاد الوطني، وكان هذا الصنف من المهاجرين يوفر الآلاف من موارد الرزق للعمال والموظفين في الدولة.
أما الهجرة الوافدة على تونس، وخاصة في السنوات الأخيرة، فتحمل مخاطر متعددة ذات طبيعة أمنية واجتماعية واقتصادية، إذ ترافقت بعض موجات الهجرة غير النظامية مع انتشار الجريمة مثل السرقة، والاعتداء بالعنف على الأشخاص والعائلات، وإفساد بعض المزارع وغابات الزيتون بعد أن جرى تحويلها إلى أحياء سكنية.
لا شك أن مواجهة الهجرة تتطلب الكثير من الجهود المشتركة بين جميع الأطراف المعنية، نظرا لما تتسم به من مشكلات وتعقيدات.
وفي ذلك السياق، سارعت تونس إلى إبرام اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي ، وأخرى مع إيطاليا من أجل التصدي لموجات المهاجرين غير النظاميين.
و بمقتضى تلك الاتفاقيات، عززت السلطات التونسية من إجراءات مراقبة حركة الهجرة وحراسة الحدود البحرية للحدّ من تكاثر ما يسمى بقوارب الموت، ومقابل ذلك قدمت الدول الأوروبية مساعدات مالية وزوّدت المصالح الأمنية التونسية بمعدات بحرية تساعدها في تنفيذ مهامها.
وأمام مشكلات تزايد الهجرة، يبدو أن الخيارات أمام تونس لمواجهة هذه التحديات محدودة جدا، وأن الجهود المبذولة رغم تنوعها، لا تزال قاصرة، خاصة أن المهاجرين الوافدين من أفريقيا أصبحوا يشكلون كتلة ديمغرافية كبيرة، وترحيلهم يحتاج إلى إمكانات مادية وأمنية ضخمة.
أما مشكلة الهجرة المغادِرة التي تتعلق بالتونسيين، فهي تحتاج إلى مقاربة متعددة الزوايا، تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وأول خطواتها تكمن في احتواء الشباب والاستثمار فيه وتشجيعه على الإنتاج من خلال توفير الفرص أمامه.
ورغم أن الهجرة تُعد أمرا معقدا، فإن التصدي لها يحتاج إلى تجاوز الاتفاقيات الثنائية، وعلى الدول المغاربية أن تقدم مقاربة جماعية وتوحّد جهودها لأنها تشترك في المأزق، وتنطلق من مبدأ أنه ليس من وظيفتها حراسة حدود الدول الأوروبية مقابل صفقات ثنائية ومساعدات مالية.