تشير صور الأقمار الصناعية، وبيانات النزوح، وشهادات الميدان في قطاع غزة ، إلى خيط واحد يربط بين التدمير الممنهج ودفع السكان نحو الجنوب. وهناك، بقع مكتظة لا تصلح للحياة، يروج الاحتلال لما يسميه "مناطق إنسانية" في حين هي في الواقع بؤر اختناق ومعاناة.
ويتتبع هذا التحقيق لوكالة سند خيوط القصة: كيف يُدار النزوح تحت القصف؟ وما الذي يعنيه استهداف الأبراج والمخيمات لحركة المدنيين؟ ولماذا تتحول "المناطق الإنسانية" من ملاذ مزعوم إلى وهم دعائي يخفي خلفه حربًا تستهدف البشر قبل الحجر؟
تكشف صور الأقمار الصناعية الصادرة عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) -الذي يحدّث بياناته كل 3 أشهر- عن مشهد صادم لتسارع الدمار شمال قطاع غزة.
فقد أظهرت الصور الصادرة بتاريخ 8 يوليو/تموز الماضي ارتفاع عدد المباني المدمرة كليا بمحافظتي غزة والشمال إلى 42 ألفا و470 مبنى، مقارنة بـ33 ألفا و837 مبنى رُصدت في 25 فبراير/شباط 2025.
ولا يعد الفارق -الذي يقترب من 9 آلاف مبنى خلال أقل من 5 أشهر- مجرد رقم، بل مؤشر على مرحلة جديدة من العمليات الإسرائيلية، حيث انتقل الاستهداف من الضربات المتفرقة إلى سياسة ممنهجة تستهدف الكتلة العمرانية ذاتها.
وتعكس هذه الأرقام نمطا واضحا من التدمير المقصود، لا يقتصر على إلحاق الضرر المادي بالمدينة، بل يتجاوز ذلك إلى دفع السكان قسرا نحو النزوح، وتفريغ شمال القطاع ومدينة غزة من أهلها عبر إستراتيجية أشبه بسياسة "الأرض المحروقة".
يقطن في مدينة غزة وشمالها أكثر من 1.3 مليون نسمة، بينهم نحو 398 ألفا من محافظة شمال غزة نزح معظمهم إلى غرب المدينة، إضافة إلى أكثر من 914 ألفا من سكان محافظة غزة، بينهم نحو 300 ألف مواطن اضطروا لترك الأحياء الشرقية باتجاه وسط المدينة وغربها، وفق بيانات المكتب الإعلامي بالقطاع.
ولكن هذا النزوح لم يكن خيارا طوعيا، بل جاء تحت وقع القصف والدمار، فقد وثق فريق التحقيقات في "سند" أن قوات الاحتلال نفذت، بين مارس/آذار وأغسطس/آب 2025، عمليات إخلاء قسري طالت نحو 140 مخيما ومركز إيواء شمال غزة، إلى جانب أحياء التفاح والشجاعية (شرق المدينة) وحي الزيتون جنوبها.
ويوضح هذا النمط من التهجير القسري كيف تتحول غزة إلى مدينة تستنزف ببطء، حيث يدفع سكانها، مرة بعد أخرى، إلى النزوح داخل دائرة مغلقة من الخيام المهددة بالقصف والملاجئ التي لا تلبث أن تمحى.
تحول وسط وغرب غزة مع اشتداد القصف وتواصل تدمير الأحياء السكنية في مدينة غزة إلى آخر الملاذات الممكنة للنازحين، ويكشف تحليل صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 4 يوليو/تموز و4 سبتمبر/أيلول 2025 عن حركة نزوح كثيفة باتجاه غرب المدينة ومخيم جباليا ، حيث انتشرت خيام جديدة على مساحات ضيقة.
وقد فاقم النزوح الداخلي المعاناة، فقد تكدس عشرات الآلاف في رقع محدودة، معرضين لخطر الاستهداف المباشر مجددا، في ظل ظروف معيشية قاسية تكشف عن محدودية المساحات المتاحة داخل المدينة، مع توسع العمليات العسكرية الإسرائيلية وسيطرتها على أجزاء واسعة من القطاع المنكوب.
وتشير الكثافة البشرية المتزايدة وسط مدينة غزة وغربها إلى أن أي عملية عسكرية إسرائيلية جديدة ستترك أثرا مضاعفا على المدنيين، بعد أن تحولت المدينة المنكوبة إلى بؤرة نزوح داخلي متواصل.
صعّد جيش الاحتلال -ضمن مخطط التهجير القسري- استهدافه المباشر للمباني السكنية الكبيرة داخل مدينة غزة، والتي باتت الملجأ الأخير لآلاف الأسر الفلسطينية.
وخلال الفترة بين 2 و15 سبتمبر/أيلول الجاري، جرى قصف وتدمير 22 مبنى سكنيا بشكل كامل، شملت 8 عمارات و14 برجا. ويزيد ارتفاع جميع هذه المباني على 5 طوابق، وبعضها يتجاوز 10 طوابق، مما يعني أن الدمار طال مئات الشقق السكنية دفعة واحدة.
ويعكس التدمير الممنهج إستراتيجية واضحة لإفراغ المدينة من سكانها وفرض تهجير داخلي قسري، إذ يُترك المدنيون بلا مأوى ويُجبرون على النزوح نحو مناطق ضيقة وغير آمنة.
وقد أدى تدمير هذه المباني إلى نزوح عشرات العائلات الفلسطينية وتركهم في العراء، فضلًا عن تضرر خيام نازحين قائمة في محيط الأبراج المستهدفة.
وفي 5 سبتمبر/أيلول 2025، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال أن القوات الإسرائيلية ستباشر تدمير مبان سكنية بزعم استخدامها "بنى تحتية للمقاومة الفلسطينية" غير أن إدارة أحد الأبراج المستهدفة نفت هذه المزاعم، مؤكدة أن "المبنى خال تماما من أي تجهيزات أمنية، ويستخدم فقط مأوى للنازحين".
https://t.me/IDFSpokespersonArabic/10546
وقد وثقت قناة الجزيرة لحظة استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي برج مشتهى المحاط بخيام النازحين غرب مدينة غزة، في مشهد علت فيه صرخات الأهالي الذين تابعوا انهيار المبنى.
ويعكس هذا المشهد القاسي حجم ما تتعرض له المدينة من استهداف ممنهج لبنيتها العمرانية، وتحويل المساكن والملاجئ المؤقتة إلى أهداف مباشرة، مما يفاقم معاناة المدنيين ويجسد سياسة التهجير القسري المستمرة.
https://www.facebook.com/share/v/17WM7eNEAa
ونشر جيش الاحتلال، في 6 سبتمبر/أيلول 2025، خريطة تروّج لما سماه "منطقة إنسانية" جنوب قطاع غزة، داعيا سكان مدينة غزة وشمال القطاع للنزوح إليها.
لكن تحليلًا أجراه فريق التحقيقات في وكالة "سند" -بعد مطابقة الخريطة جغرافيا مع صور أقمار صناعية عالية الدقة بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول- كشف حقائق مغايرة تماما:
وتكشف هذه النتائج أن ما يصفه الاحتلال بـ"منطقة إنسانية" ليس سوى مساحة ضيقة ووهمية لا تكفي بأي حال لاستيعاب مئات آلاف المدنيين الذين يُجبرون على النزوح القسري من شمال ووسط القطاع.
وبذلك، تتحول الخريطة المعلنة إلى أداة دعائية تستخدم لإضفاء شرعية على سياسة التهجير، بدلا من أن توفر حماية أو بيئة إنسانية آمنة.
ويأتي هذا التحقيق بعد أقل من أسبوعين فقط على نشر جيش الاحتلال خريطة سابقة في 27 أغسطس/آب، ادّعى فيها وجود "مناطق واسعة خالية" جنوب ووسط القطاع. ولكن تحقيق "سند" آنذاك كشف زيف الادعاء، مبينًا أن معظم الرقع المعلنة لم تكن خالية أصلًا، بل كانت مشغولة بمبانٍ قائمة أو مخيمات نازحين أو ملكيات خاصة.
ويكشف تكرار النمط نفسه في خريطة 6 سبتمبر/أيلول أن خطاب "المناطق الإنسانية" ليس سوى أداة دعائية متكررة، لا تمتلك أي سند واقعي يمكن أن يوفر بيئة آمنة أو مناسبة للمدنيين، بل تعكس محاولة مستمرة لتسويق التهجير القسري كخيار "إنساني".
ورغم انعدام صلاحية المنطقة المعلنة، أجبر القصف المتواصل على مدينة غزة وشمال القطاع آلاف المدنيين على النزوح نحو الجنوب.
وتكشف صور الأقمار الصناعية بوضوح عن تكدّس خيام جديدة في مناطق متفرقة من دير البلح وخان يونس ، أبرزها غرب مدينة حمد، حيث بلغت مساحة انتشارها -بعد 5 سبتمبر/أيلول- نحو 1.25 كيلومتر مربع فقط، وفق تحليل أُجري لصور متوسطة الدقة بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول.
وهكذا تتحول "المنطقة الإنسانية" من وعدٍ بالحماية إلى مصيدة اكتظاظ تحت القصف، تضاف إلى سلسلة طويلة من الدعاية العسكرية التي تخفي وراءها واقعا أكثر قسوة.