آخر الأخبار

لماذا يتظاهر الغرب الآن بأنه يدين المجاعة؟

شارك

يبدو أن وسائل الإعلام السائدة بدأت تستيقظ من سبات مؤيد لإسرائيل دام 21 شهرا، ويمكن رؤية أمثلة كثيرة على ذلك في الصحافة الغربية، بما فيها «سي إن إن» و«إم إس إن بي سي».

ففي الولايات المتحدة، تزداد الانتقادات الموجهة لإسرائيل بين المشرّعين والمعلّقين السياسيين على حد سواء.

وحتى صحيفة "ديلي إكسبريس" البريطانية اليمينية نشرت عنوانا يقول: "من أجل الرحمة، أوقفوا هذا الآن"، بجانب صورة لطفل فلسطيني يتضوّر جوعا على حافة الموت. وأضافت الصحيفة أن من "يتشبثون بالحياة في جحيم غزة يجللوننا جميعا بالعار". وكتب الصحفي مات كينارد على منصة إكس: "نظام المحرقة الصهيوني خسر دعم ديلي إكسبريس".

لطالما ظهرت تصدّعات في الأطر الإعلامية الجامدة التي برّرت إبادة إسرائيل للفلسطينيين خلال هذه الأشهر، وذلك كلّما صعّدت من عمليات القتل والتطهير العرقي.
لكنّ العالم اليوم يرى، ولأسابيع متتالية، صورا لأطفال عبارة عن هياكل عظمية يتضوّرون جوعا دون بارقة أمل. كما قالت الصحفية الفلسطينية الشابة (24 عاما) هبة المقادمة، والتي لا تزال تعيش في مدينة غزة: "في غزة، أصبح الجوع أقسى أسلحة إسرائيل، متجاوزا حتى القنابل". لم تعد هناك طفولة في غزة.

ما سرّ هذا الألم الذي يسبّبه الجوع؟

الممثل والكاتب والإنساني ستانلي توتشي قدّم بعض الإجابات عن هذا السؤال في كتابه الطعم (Taste)، وهو سيرة لحبه الطويل للطعام، لجاذبيته، لتحضيره، ولتمثيله.
يقول توتشي إنّه تعلّم في وقت مبكر أنّ "الجمهور يحب أن يشاهد الناس وهم يأكلون أو يشربون" على الشاشة، مضيفا: "هناك شيء شديد الجاذبية في مشاهدتنا للناس وهم يقومون بهذه الأفعال الأساسية".
ويعزو ذلك إلى أنّ هذه الأفعال "تجعلهم أكثر إنسانية، وتسمح لنا بالتواصل معهم".
الناس يحبون مشاهدة الأفلام التي تتمحور حول الطعام، ويحبون برامج الطبخ، لأنّها تجعلنا جميعا نشعر أننا جزء من عائلة بشرية واحدة.
ولهذا السبب بالتحديد يكون وقع الجوع على النفس قاسيا جدا، حين نرى بشرا مثلنا محرومين من هذا الفعل البسيط.

إعلان

رؤية شخص آخر يتضوّر جوعا أمر لا يُحتمل، خصوصا إذا كان طفلا. بالنسبة لمعظمنا، هي لكمة تهوي إلى أعماق القلب، وتضرب أقصى ما فينا من إنسانية. على خلاف ضربة جوية أو عملية اغتيال لا نراها إلا بعد أن تقع، وقد قُضي أمرها، فالجوع، حين نراه، ما زال قائما، وصاحبه لم يمت بعد. وكما قالت وكالة الأونروا: "الناس في غزة جثث تمشي".
أحد الأطباء من غزة نشر صورة لطفل هزيل لا يكاد يملك جلدا يغطي عظامه، وكتب ببساطة: "نحن نتضور جوعا". وهم لا يزالون يتألمون.

هذه الصور تُجبرنا على أن نلهث بحثا عن حل. تدفعنا لأن نطالب بأن يصلهم الطعام فورا. لأنها الطريقة الوحيدة لنتخلّص من ألم مشاهدتنا لتدمير البشرية، وتدميرنا نحن معها، بشكل بطيء ومقصود.

لكن هذه الاستجابة العامة تختلف كلّيا عن ردود الفعل التي تبدر عن الجناة الذين يتعمّدون التجويع، وعن الحكومات والأشخاص الذين يساعدونهم في ذلك.

ليس من باب الخطابة، ولا الهجوم الشخصي، ولا القسوة، ولا حتى من باب معاداة السامية، أن نقول إنّ قادة إسرائيل الذين ينفّذون جريمة التجويع القسري، فقدوا إنسانيتهم.

هؤلاء هم الذين أخبرونا منذ البداية، بحماس، عمّا سيفعلونه، وهم يفعلونه بلا انقطاع منذ ذلك الحين.
ومؤخرا، ضاعفوا من تصريحاتهم التي تكشف عن اضطراب نفسي عميق تغذّيه سنوات من الكراهية، والتي اشتدّت بفضل تشجيع قادة العالم الذين منحوا إسرائيل الحصانة.

انظر مثلا إلى أحدث خطاب كراهية صدر عن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، والذي قال فيه: "لن نسمح بدخول غرام واحد من المساعدات إلى غزة حتى يركع شعبها ويتوسّل. يجب تسوية غزة بالأرض. لا وجود لما يسمى أشخاصا أبرياء".

مشاهدة أمثال بن غفير وغيره وهم ينطقون بهذه الكراهية الفاحشة، ويرتكبون الجرائم غير القابلة للتخيل، هو اعتداء آخر على مشاعرنا، وعلى إنسانيتنا.

وكذلك هو حال الأفعال المشينة التي يقوم بها إسرائيليون هرعوا إلى الحدود للمساعدة في منع دخول المساعدات إلى غزة.

وفي المقابل، ينهض الضمير العالمي، بأفعال كبيرة وصغيرة، ليجذب انتباه العالم ويطالب بوقف هذه الكارثة.
ينزل الناس إلى الشوارع؛ في لندن، يرفعون علم فلسطين في دار الأوبرا الملكية، ويُعلّق علم فلسطين على تمثال المسيح في ريو دي جانيرو، وعلى شاحنات سائقي النقل في شيكاغو.

ويواصل آخرون التظاهر في شوارع نيويورك، أمام مقر الأمم المتحدة. ويمنع متظاهرون مناهضون للإبادة سفنا سياحية تقلّ سائحين إسرائيليين من الرسو في الجزر اليونانية. وفي بلجيكا، تم اعتقال جنديين من جيش الاحتلال بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

نشطاء على متن سفينة "أسطول الحرية- حنظلة" التي كانت تحمل إمدادات إلى غزة، اعتقلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي، واعتدى على المنظم العمالي الأميركي والمدافع عن حقوق الإنسان كريس سمولز.

ناشطو حركة "كود بينك" يقفون في تضامن ثابت مع زملائهم من العاملين في المجال الإنساني، وفرانشيسكا ألبانيزي تواصل قول الحقيقة. وتطالب عضوة الكونغرس الأميركي رشيدة طليب بفرض حظر كامل على الأسلحة المرسلة إلى إسرائيل، وتطالب بالإفراج عن الدكتور أبو صفية.

إعلان

وحتى منظمات حقوق الإنسان التي امتنعت حتى الآن عن إصدار حكم بشأن الإبادة الجماعية، بدأت تستيقظ وتستعيد إنسانيتها. فقد أصدرت منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان تقريرا وفيديو بعنوان: "إبادتنا تحدث الآن".

وفي إعلان طال انتظاره، أعلنت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل" لأول مرة، أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية، لتنضم بذلك إلى قائمة طويلة من المنظمات مثل "العفو الدولية" و"أطباء ضد الإبادة".

وهناك من تتبّعوا التدهور الفاضح في تغطية الإعلام السائد للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. فردًّا على عنوان ظهر في شبكة "سي إن إن": "الفلسطينيون يتضوّرون جوعا أو يُقتلون على يد جنود إسرائيليين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات، بشكل شبه يومي، كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟" ردّ عليه قارئ بغضب: "أنت وزملاؤك الذين غطّيتم على الإبادة الجماعية أنتم من أوصلونا إلى هنا".

لماذا تحوّلت تغطية "بي بي سي" فجأة إلى عناوين مثل: "أكثر من 100 وكالة إغاثة تقول إن المجاعة الجماعية تنتشر في غزة"؟
لأن الجميع بات يعلم، كما يقول الصحفي أوين جونز، "أن الكارثة الكاملة التي تلتهم غزة لن يمكن إخفاؤها".
جونز غاضب، ولا يكلّ من الإدانة: "إلى الرجال المذنبين في الإعلام: كان لديكم متسعٌ من التحذيرات طوال 21 شهرا! أنتم من فعل هذا! كل ما يحدث الآن يقع على عاتقكم".

أما التصريحات التي بدأ بعض القادة الغربيين يُطلقونها منتقدين إسرائيل، فهي محلّ شكّ مشروع. لماذا انتظروا حتى الدقيقة الأخيرة؟
أمثال كير ستارمر، كانوا يعرفون منذ البداية ما كانت تفعله إسرائيل، بل إنّ المملكة المتحدة قدّمت لها المساعدة. فلماذا يتحدثون الآن؟

رغم أنّ التعبير عن الاشمئزاز مهم، فإنّ دوافعهم على الأرجح ليست استجابة إنسانية حقيقية ولا غضبا أخلاقيا، بل هي حسابات أنانية، ولا تؤدي إلى أي خطوات فاعلة لوقف إسرائيل.

كما قال ماكس بلومنثال عن قلق هؤلاء القادة الديمقراطيين الأميركيين المتأخرين، من أمثال أوباما وكلينتون: "إنّه غسل سمعة بعد سنوات من الصمت". هذه التصريحات التي تبدو كأنها معارضة، ليست إلا محاولات لتجنّب تهمة التواطؤ في إبادة جماعية.
وكما عنون عمر العقاد كتابه: "في يوم من الأيام، سيقول الجميع إنهم كانوا ضدّ هذا من البداية".
لكن حتى وهم يحاولون الإفلات من التهم، فهم لا يزالون مسؤولين.

وفيما يعبرون عن "قلقهم الصادق"، كما قالت هبة المقادمة: "نحن لا نحتاج إلى الشفقة. نحتاج إلى الضغط على من يمنعون الطعام، على من يملكون القدرة على إيقاف هذه المجاعة، لكنهم يختارون ألا يفعلوا".

إنّ هذه الإبادة الجماعية بالتجويع، ليست فقط اعتداء لا يُطاق على الفلسطينيين، بل اعتداء علينا جميعا، على إنسانيتنا ذاتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا