في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لندن- يبدو أن اليمين الشعبوي البريطاني استطاع للمرة الأولى أن يكسر تقليد الثنائية الحزبية التي عاشت على إيقاعها الحياة السياسية البريطانية عقودا، ويفرض نفسه في الانتخابات المحلية، كخيار ثالث قادر على استقطاب أصوات الساخطين على الأداء السياسي لحزبي العمال و المحافظين .
واستطاع حزب الإصلاح اليميني المتطرف بقيادة الزعيم الشعبوي المثير للجدل نايجل فاراج ، الفوز بالمركز الأول بأكبر عدد من المقاعد واستطاع اختراق مناطق يعُدها حزب العمال الحاكم "آمنة" له وخاضعة لسيطرته منذ أزيد من 40 عاما، وأخرى تُعد معاقل تقليدية لحزب المحافظين اليميني، ليحصد عشرات المقاعد في المجالس البلدية وينتزع رئاسة بلديتين محليتين.
وامتدت مكاسب حزب الإصلاح اليميني المتطرف الانتخابية إلى البرلمان ؛ حيث انتزع مقعدا برلمانيا في انتخابات فرعية موازية، ليضاف إلى المقاعد الخمسة التي حظي بها في الانتخابات البرلمانية الماضية.
ولم يتأخر فاراج عن تصويب سهام النقد إلى الطبقة السياسية البريطانية، حيث أعلن مع توالي النتائج ما وصفها بـ"نهاية عهد الثنائية الحزبية التي عرفتها بريطانيا أزيد من قرن من الزمن"، متوعدا بالظفر بالانتخابات البرلمانية المقبلة.
ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إحصاءات تظهر أنها المرة الأولى التي يتقدم فيها حزب غير المحافظين والعمال في نسب الأصوات على الصعيد الوطني؛ إذ بلغ مجموع الأصوات التي حصدها حزب الإصلاح اليميني نحو 30%، بينما انخفض مجموع نسب الأصوات التي حصل عليها حزبا المحافظين والعمال عن 50% لأول مرة.
ومع تواتر النتائج الصادرة عن مراكز الاقتراع، احتدم الجدل بين حزبي المحافظين والعمال بشأن أيّ الحزبين تكبّد الخسارة الكبرى وأفسح الهامش السياسي لصعود حزب الإصلاح اليميني المتطرف.
ففي الوقت الذي اعترف فيه زعيم حزب العمال كير ستارمر بالخسارة، حاول التقليل من شأن وصف الانتخابات المحلية بـ"استفتاء" على شعبية السياسات الحكومية، وأكد عزمه الإسراع في وتيرة الإصلاحات السياسية التي أطلقها خلال الأشهر الماضية.
واقتفى حزب المحافظين أثر غريمه السياسي في النأي بسياساته عن الخسارة التي لحقت به، حيث أقرت زعيمة الحزب كيمي بادينوش بالهزيمة، لكنها أكدت أنها على أنقاضها ستحاول إعادة بناء حزب المحافظين من أجل استعادة ثقة الناخبين واسترجاع المقاعد الانتخابية التي خسرها.
وترى صحيفة فايننشال تايمز أن صعود حزب الإصلاح الشعبوي قد يدفع حزب العمال إلى تبني سياسات أكثر يمينية لمحاصرة صعود نجم الزعيم الشعبوي فاراج، لكنه في الوقت ذاته سيمثل تحديا أكبر لحزب المحافظين الذي يبدو أنه يفقد باستمرار خزّانه الانتخابي اليميني لصالح حزب الإصلاح الشعبوي.
يرى الزعيم الشعبوي نايجل فاراج، أن حزبه يتجه تدريجيا لاحتلال معاقل حزب المحافظين، ليصير القوة السياسية المعارضة الأولى في البلاد، ومؤكدا أن أطروحته السياسية أصبحت أكثر إقناعا للناخبين الذين اختاروا الحزب لتسيير شؤونهم المحلية.
ولا يفسر العضو السابق في حزب العمال كامل حواش ، انحراف سلوك الناخبين للتصويت لليمين المتطرف فقط بالحنق المتصاعد من ضعف أداء الأحزاب التقليدية، بل يعود أيضا لقدرة شخصية يمينية شعبوية كنايجل فاراج على الحشد والترويج لأفكار الحزب الشعبوية وتوفره على المساحات الدعائية والإعلامية الكافية لممارسة ذلك التأثير.
وحذر الناشط السياسي، من أن المشهد في بريطانيا يمضي بخطى حثيثة لإعادة استنساخ تجارب أوروبية مجاورة صعد فيها اليمين الشعبوي ليتولى مقاليد السلطة ويصبح قوة انتخابية تغير التوازنات السياسية. مشيرا إلى أن زعيم حزب الإصلاح فاراج يحاول في مساعيه إنتاج نموذج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الساحة البريطانية بتبنيه خطاب ترامب السياسي نفسه.
وحشد فاراج على مدى سنوات لفكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي . وأسس أحزابا سياسية كـ"الاستقلال" عام 1993 و"حزب بريكست " عام 2019، حيث يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الناخبين البيض اليمينيين لتبنيه سياسات معادية للمهاجرين والأقليات.
ترى صحيفة الغارديان، أن صعود حزب الإصلاح اليميني ليس إلا تتويجا لمسار طويل من التشظي الحزبي تعيش على وقعه الساحة السياسية البريطانية منذ سنوات بسبب فشل الأحزاب التقليدية الكبرى في ابتداع سياسات تقنع الناخبين وتحل أزماتهم.
وتضيف الصحيفة، أن حزب الإصلاح اليميني ليس وحده المستفيد من هذا التحول في المزاج الانتخابي للبريطانيين، حيث ارتفعت أيضا أسهم الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي حل ثانيا على قائمة الأحزاب المتصدرة للانتخابات المحلية.
وقال دافيد ستيفان أستاذ السياسات العامة في جامعة نوتينغهام البريطانية، في حديث للجزيرة نت، إن حزب العمال كان يجب أن يتوقع تصويتا عقابيا غاضبا ضده بسبب السياسات غير الشعبية التي اختار انتهاجها للتعامل مع الظرف الجيوسياسي والاقتصادي الصعب الذي تواجهه البلاد، حيث فضل استرضاء الولايات المتحدة بزيادة الإنفاق العسكري مقابل سياسات اجتماعية قاسية تعيشها الفئات الهشة.
ويضيف الخبير البريطاني، أن حزب العمال لا يمكن أن يعول على تفهم القاعدة الانتخابية للسياسات الاقتصادية التقشفية التي تمس معاشهم اليومي، بحجة محاولة تعامله مع حالة الفوضى التي خلفتها سياسات حكومة المحافظين السابقة طوال 14 عاما، مشيرا إلى أن عدم تدارك تلك الهفوات لن يؤدي إلا إلى اتساع قاعدة الباحثين عن خيارات سياسية أخرى.
وألقى نواب من حزب العمال محسوبون على تيار أقصى اليسار، باللوم على زعيم الحزب كير ستارمر في قيادة الحزب إلى هذه الخسارة، بسبب السياسات التقشفية التي انتهجتها الحكومة وأثارت غضب شرائح واسعة من قواعد الحزب الانتخابية المتضررة منها.
وأدى الانحسار غير المسبوق في المقاعد الذي ظفر بها حزب المحافظين، إلى تململ صفه الداخلي، حيث دعا أحد منافسي زعيمة الحزب كيمي بادينوش على القيادة روبرت جينريك، إلى تنحيها بسبب فشلها في مواجهة صعود حزب الإصلاح وقيادة دفة المعارضة بما يناسب.
ويتوقع أن تسلط نتائج الانتخابات المحلية مزيدا من الضوء على سياسات حزب الإصلاح اليميني الشعبوي وتضعها على محك الاختبار في السنوات المقبلة. حيث يرتقب أن يتحول الحزب من تيار يميني جذري يبني خطابه على مهاجمة الطبقة السياسية التقليدية ومعاداة المهاجرين، إلى حزب ينخرط في تدبير الشأن العام المحلي للبريطانيين.
وكان زعيم الحزب نايجل فاراج، قد ألمح لاستعداد الحزب لتبني سياسات فعالة في إدارة المجالس البلدية تحاكي تلك التي أقرها الميليادير الأميركي إيلون ماسك لخفض الهدر والإنفاق الحكومي.
ويرى كامل حواش، الرئيس السابق للجنة التضامن مع فلسطين في بريطانيا، أن صعود الحزب سيشكل أيضا باعث قلق للجاليات المسلمة والمهاجرين والداعمين للقضية الفلسطينية في بريطانيا، حيث سيصبح التهديد الذي يرفع في وجه الأقليات قابلا للتنفيذ بالسياسات التي سيتبناها ويضعها.
من ناحيته، يرى النائب المستقل في البرلمان البريطاني إقبال محمد، في حديث للجزيرة نت، أن حزب الإصلاح سيكون أمام تحدي تدبير الشأن العام، وتجاوز الخلافات الداخلية الشرسة بين أعضائه وعدم كفاءتهم السياسية، والتي يلتف عليها الحزب بخلق إجماع حول السياسات المعادية للمهاجرين والأقليات.
ومن المتوقع أن يعمل الحزب على تبني نهج أكثر تطرفا في هذه القضايا ليحاكي النموذج الذي يقدمه ترامب على الضفة الأخرى من الأطلسي في تدبير الشأن العام وفهم السياسة.
في المقابل، يشير المتحدث إلى أن الحزب سيكون الآن تحت المهجر، لمراقبة الطريقة التي سيدير بها المجالس البلدية ويصنع بها سياسات تلبي مطالب الناخبين الذين صوتوا عليه، بعيدا عن صناعة الجدل السياسي الشعبوي.