روزي جدي روائي وصحافي تشادي، فازت روايته "زمن الملل"، الصادرة عام 2021، بجائزة غسان كنفاني في الأدب ضمن جوائز فلسطين الثقافية التي تنظمها مؤسسة فلسطين الدولية لعام 2025.
ويصف الكاتب هذه القصة بأنها الأقرب إليه من بين جميع رواياته، لأنها تحمل الكثير من معاناة جيله، جيل التسعينيات في نجامينا ، الذي عاش سنوات البطالة والفقر والحروب الأهلية.
وقد صدر له: "قارب يلاحق مرساة" (عام 2022)، و"ارتدادات الذاكرة" (عام 2023)، و"التاريخ السري المعلن لآدم وحواء" هذا العام.
ففي عام 2004، صدرت "سندو" للتشادي آدم يوسف، التي عدت أول رواية تشادية مكتوبة بالعربية. وبعد ذلك، ظهرت أسماء عديدة، مثل: كوثر سالمي، وسمية حماد، وفاطمة هارون، وفاطمة نهار، وسعدية محمد، وعبير يونس يوسف، والهادي محمد، وموسى شاري، وأحمد جابر، وآدم أحمد موسى، وإدريس جمعة، وطاهر النور، وعيسى الأمين إبراهيم يوسف محمد، وأيضا جدي.
ومع ذلك، ظل هذا الأدب المكتوب بالعربية يواجه تساؤلات كثيرة: هل هو أدب أفريقي أم عربي؟ ومن هم قراؤه في بلد تعد الفرنسية اللغة الرسمية؟ لذا، تبقى الكتابة بالعربية مهمة شاقة للكاتب الأفريقي.
ويؤمن جدي بأن الروايات تقدم تفاصيل ومشاعر عن التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات على مر التاريخ الإنساني.
وإذا كانت الكتابة هي البحث عن أفق أرحب للعيش، فإن جدي يبحث عن وطن مختلف، بلا صراعات ولا حروب.
ولدت في مدينة صغيرة بالشمال، ووصلت إلى العاصمة نجامينا في حضن أمي وأنا ابن 3 سنوات. وهناك عشت طفولة ثرية جدا ومليئة بالتجارب والحكايات. اعتقدت دائما أن الكتابة الجيدة تأتي من التجارب الكثيرة.
والطفولة هي أهم مرحلة في حياة الكاتب، هي أنين الحنين. باكرا اضطررت إلى مواجهة الشارع والأطفال وإثبات الذات. كنت وحيدا، وعلي مواجهة الجميع فردا فردا حتى آخذ حقي عنوة وأجد مكانا في الألعاب ولقاءات الأنس.
وهناك سمعت قصص أناس مختلفين عني يتحدثون لغة أخرى، هناك في الشارع وفي ليل نجامينا سمعت قصصا عن المصاصين، وعن أشخاص يتحولون إلى ذئاب في الليل، وعن فتاة جميلة في الشارع المجاور تزوجت بجنية، وأن شابا يملك ذيلا، وحكايات عجيبة، إلا أن الشباب كانوا يحكونها كأشياء عادية.
وذهبت إلى الخلوة في الرابعة لحفظ القرآن، وفي الخامسة والنصف عرضني خالي أمام لجنة من أجل أن أدخل المدرسة التي لم تكن تقبل من هم دون السابعة. وكنت ضئيل الجسد، نحيفا قصيرا لا أستطيع لمس أذني بيدي من فوق رأسي، فرفضتني المدرسة، بيد أن خالي أصر قائلا: هو قصير ونحيف لكنه أذكى من تلاميذكم ويحفظ جزءا من القرآن الكريم.
وكنت أحفظ من سورة الناس حتى سورة النبأ عن ظهر قلب. وقرأت وقرأت حتى اقتنع المدير، وهكذا وضعت مؤخرتي على طوب أحمر كي أتلقى دروسي الأولى في اللغة العربية والدين.
نعم، شاقة جدا، لأننا في الهامش العربي والأفريقي معا. نكتب بلغة هي الثانية في بلادنا، ولا يعرف أغلب العرب أننا نكتب أدبا أفريقيا بالعربية. نحن نكتب بلغة ليست هي لغة الأم لأغلب الكتاب، إضافة إلى عدم اهتمام العالم العربي بما نكتبه، مما يعني أن الجودة أيضا ليست كافية أحيانا.
وإضافة إلى ذلك، هناك إقصاء في بعض الجوائز التي تتيح المشاركة فقط لمن هم أعضاء في جامعة الدول العربية، ودول مثل تشاد والنيجر ومالي ليست أعضاء في تلك الرابطة، لكن يكتب فيها، من قبل روائيين مثلنا، أدب أفريقي بالعربية.
وهناك قلق وتساؤلات أيضا حول هذا الأدب الذي نكتبه: هل هو أفريقي عملا بالمكان والقضايا، أم عربي باعتبار لغة الكتابة؟ وسط كل هذه الصعوبات نحن نكتب أدبا مختلفا ومميزا.
نحن في عصر الرواية، وهي التي تكتب التاريخ الآن، لكننا لا نكتب تاريخا بالمعنى الحرفي، وإنما نقدم قراءة للتاريخ. فروايتي "التاريخ السري المعلن لآدم حواء" عن التغيرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع التشادي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. وللوقوف على هذه التغييرات عدت إلى الوراء وقدمت قصصا لجيل الآباء ثم الأبناء لرصد التغييرات التي حصلت سواء في القيم أو الرؤى.
ولا تغنينا الرواية عن قراءة التاريخ، لكنها تقدم لنا تاريخا تفصيليا وفهما للأحداث بشكل لا نجده في كتب التاريخ. وتمتاز بأنها تفصيلية جدا في سردها وتركز على الدوافع وأسباب الأفعال والجانب الإنساني للشخصيات، كما أنها تقدم دراسة اجتماعية للمجتمع بشكل لا يهتم به المؤرخ. فقراءة ثلاثية نجيب محفوظ أفضل من قراءة أي عمل تاريخي عن فترة ما بعد الاستعمار البريطاني.
والرواية لا تغني عن التاريخ لأنها لا تهدف إلى البحث عن الحقيقة أو كتابتها، لكنها مهمة جدا في تشكيل سردية معنية عن فترة ما، لأن التاريخ صار لا يقرأ سوى عند ثلة من الأكاديميين، لأنه يكتب بلغة أكاديمية وبعيدة جدا عن القراء، خاصة في العالم العربي وأفريقيا. الرواية التاريخية تغني عن قراءة التاريخ من حيث المعلومات، لكنها لا تغني حين نتحدث عن معرفة الحقيقة وتشكيل الوعي، لأن الرواية لا تهدف لكتابة التاريخ، ومع ذلك نجد في الرواية التاريخية ما لا نجده في التاريخ.
نعم، تأريخ اليوميات من مهام الرواية. فالروائي ليس معبرا عن ذاته فقط، وإنما عن مجتمعه أيضا. فمشاعر الخوف والقلق التي يعيدها الكاتب في أعماله ربما هي التي تشكل مجتمعه أو يعاني منها لأسباب سياسية أو اجتماعية. والكاتب شخص يواجه مخاوفه الشخصية وقلاقل مجتمعه وكأنهما نفس الأمر، لذا فهو لسان مجتمعه.
أجل، هناك رواية تشادية. ما أكتبه أنا هو رواية تشادية قبل أن تكون أفريقية أو عربية، لأننا نتناول قضايا تشادية ونتحدث عن شخصيات تشادية الملامح، وأسئلتها وآمالها التي تعيش في تشاد. ولدينا رواية تشادية لها خصوصيتها الثقافية ولغتها وبنيتها وقضاياها التي تميزها عن الرواية الليبية أو السودانية.
وتجري أحداث رواياتي في نجامينا، ومقهى عمر، وحارة دقيل، وبعضها تجري أحداثها في الجنوب وسط مزارع القطن، وفي الشرق خلف جبال أبشة. وأبطالي يعيشون على ضفاف نهر شاري، وخلف كثبان بحر الغزال، وداخل مغارات جبال تيبستي. كما أن كل أعمالنا تتحدث عن تشاديين، وفيها لهجة عربية تشادية، وأسماء قبائل وأماكن وفضاءات تشادية. وأعتقد أننا كتبنا أدبا تشاديا بالعربية.
نعم، المنفى هو شعور. حين يعيش المرء تحت سلطة دكتاتورية أو في مكان لا يستطيع أن يعبر فيه عن رأيه ويشعر فيه بالحرية، فإنه يعيش منفاه. وحين يعجز عن إيجاد نفسه في وطنه، فإن الهروب يصبح ضرورة، ولما يعجز عن ذلك فالانكفاء على الذات يجعل الشخصيات أو الكاتب يعيش في المنفى بينما جسده هنا في الوطن.
وشخصيات رواياتي تعيش في حالة صعبة جدا، من هم هنا يريدون المغادرة، ومن غادروا يحلمون بالعودة. وتقول الشخصية الرئيسة في رواية "زمن الملل" في وصف مدينة نجامينا "يقتلني الحنين حين أبتعد عنها.. وأمل منها بعد أيام" وهذا هو شعوري تجاه نجامينا وتجاه بلادي.
ليس بعد. أعتقد أنني أبحث عن السلام النفسي الذي كنت أملكه في طفولتي. أريد أن يصبح وطني مثل طفولتي: لا صراعات، ولا اقتتال، ولا أحقاد. بيد أن ذلك يبدو مستحيلا، ولذا أحاول تكوين وعي مجتمعي وإدراك سياسي عبر رواياتي كي نتمكن من لملمة الشتات ورتق النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحروب، وتكوين هوية لهؤلاء الناس الذين جمعتهم الصدفة وخطوط رسمها فرنسي ثمل.
يشغلني القارئ كثيرا. أشعر أحيانا أنني أكتب له، لكن من هو؟ بالنسبة لي هو أنا. النص الذي يعجبني ويضربني ويدهشني إيقاعه هو الذي أعتبره جيدا، ونادرا ما أحذف نصا كتبته وأدهشني، ولذا أسلم هذا الدور لأصدقائي.
وأعتقد أنني أكتب لنفسي ولشخص آخر يفهمني، ولذا أسعى لإقناع ذاتي بجودة النص، ولا أحاول إقناع أشخاص معينين أو أفكر في ردود فعل جماعات، لذا تأتي أعمالي جريئة نوعا ما، وأتعرض لسوء ظن وسوء فهم. أنا أفكر في القارئ كصديق يمنحني أذنه، يستمع إلي، وهدفي إمتاعه لا إقناعه.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة