يبرز المؤرخ تقي الدين المقريزي كشخصية فذة في تاريخ التدوين الإسلامي، لا بوصفه مجرد ناقل للأخبار، بل باعتباره المؤرخ الأكثر ارتباطًا بمدينته القاهرة، وروح وطنه مصر. انطلق مشروعه المعرفي الضخم من دافع شخصي عميق، وحبّ جارف عبّر عنه بقوله: "مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومَجْمَع ناسي"، وهو انتماء لم يمنعه من توجيه نقد جريء لمجتمعه.
عاش المقريزي في عصر بالغ الاضطراب، شهد بدايات أفول الدولة المملوكية وتزايد الأزمات والمحن، وهو ما صبغ كتاباته بنظرة تحليلية فريدة، وجعل من التاريخ في نظره "ديوان العِبَر"، لا مجرد سرد للحوادث، بل أداة لفهم سنن الانهيار ومقاومة اليأس.
لم تكن عبقرية المقريزي وليدة فراغ، بل تبلورت في كنف "المدرسة الخلدونية التاريخية" على يد شيخه العلامة ابن خلدون. كما يُعتبر -بحقٍّ- الشارح الأكبر والمنفذ الأمين لهذا المنهج الخلدوني، حيث أخذ على عاتقه تحويل النظريات العميقة في "طبائع العمران" إلى منتج تاريخي تطبيقي.
فبينما وضع ابن خلدون الأسس النظرية لفهم صعود وهبوط الدول، كان المقريزي هو من غاص في تفاصيل التاريخ المصري، مستخدمًا هذا المنهج لتحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكشف العلل الكامنة وراء الأحداث، متجاوزًا بذلك حدود التأريخ التقليدي الذي يكتفي بأخبار الحكام والحروب.
تجلّت هذه الرؤية المنهجية في مصنفاته الموسوعية التي عالجت قضايا فريدة بإحاطة غير مسبوقة. ففي كتابه العظيم "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، لم يؤرخ للقاهرة كعاصمة سياسية فحسب، بل ككائن حيّ بعمرانه وأسواقه ومؤسساته وطوائفه. وفي رسالته البديعة "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، قدّم تحليلاً اقتصادياً عبقرياً للمجاعات والتضخم، رابطًا إياها بفساد الإدارة وسوء التدبير. كما انفرد بدراسات عميقة عن تاريخ الفاطميين، ورصد بعمق تاريخ الأقباط وعاداتهم، وكشف بجرأةٍ عن جذور الاختراقات القانونية الدخيلة في عصره، تاركًا بذلك إرثًا معرفيًا لا يزال مصدر إلهام للباحثين حتى اليوم.
لذا تستضيف الجزيرة نت المؤرخ البارز الدكتور ناصر الرباط، أستاذ كرسي العمارة الإسلامية ومدير برنامج "الآغا خان" للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، للحديث عن تاريخ وفلسفة المؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي. تمحور النقاش حول الرؤى التي قدمها الرباط في كتابه القيم "كتابة مصر.. المقريزي ومشروعه التاريخي" (Writing Egypt: Al-Maqrizi and His Historical Project)، وكتابه العربي الصادر عن "تراث" والذي جاء بعنوان "تقي الدين المقريزي.. وجدان التاريخ المصري".
يغوص حوار الدكتور ناصر الرباط مع الجزيرة نت في أعماق شخصية المقريزي ليكشف عن جذور هويته المركبة التي تتجاوز الانتماء المصري، حيث يثبت الرباط أصوله الفاطمية الأمازيغية، وولاءه العاطفي العميق لآل البيت. كما يحلل قراراته الشخصية المصيرية، كتحوله إلى المذهب الشافعي، ليس كخيار فقهي فحسب، بل كإعلان ولاء للنسيج العلمي المصري على حساب السلطة المملوكية. ويكشف أيضاً عن عالمه الداخلي المأساوي، الذي طبعته سوداوية نابعة من مآسي الفقد المتتالية لزوجته وأبنائه، وقصة حبه المكتوم لجاريته "سول".
كما قدم الرباط مقارنة عميقة بين المقريزي ومعاصره ابن خلدون، فبينما كان ابن خلدون رجل دولة براغماتياً يسعى للسلطة، اختار المقريزي -بعد يأسه من الإصلاح- العزلة النقدية والمواجهة الأخلاقية للحكام. وقد استوعب المقريزي نظرية ابن خلدون في "الانحدار" وطوّرها بعبقرية لتخدم مشروعه، فطبقها على العمران ليصوغ مفهوم "الخراب".
سلط الرباط الضوء على عبقرية المقريزي في تدوين تاريخ مصر، ليس كسارد للأحداث فحسب، وإنما كصانع للذاكرة الوطنية ومحلل عميق لطبائع العمران والأزمات، مقدماً بذلك قراءة معاصرة لأحد أهم المؤرخين في الحضارة الإسلامية. واختتم بالتأكيد على ضرورة استعادة المقريزي اليوم ليس كمجرد مصدر للمعلومات، بل كمنهج تحليلي حيوي لفهم العلاقة الجدلية بين السلطة والفساد والأخلاق، وهي البصيرة التي يحتاجها واقعنا المعاصر بشدة. فإلى الحوار:
لقد تبلورت فكرة الكتاب حين أصبح المقريزي هاجسًا لي في بداية مسيرتي المهنية التي انطلقتُ فيها كمهندس معماري. فبعد دراستي وعملي في مجال العمارة، قادني تخصصي في الطاقة الشمسية وتطبيقاتها إلى الالتحاق بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA)، التي تمتلك أفضل برنامج في هذا المجال. وهناك، اكتشفتُ أن البيوت ذات الباحة تتعامل مع الطاقة الشمسية بوعي، وهو الاكتشاف الذي وجّهني نحو دراسة التاريخ.
ولأنني من دمشق، حيث تشتهر هذه البيوت، ركزتُ على دراستها أثناء وجودي في لوس أنجلوس. وبناءً على اقتراح من أستاذةٍ كان لها دور كبير في حياتي لاحقًا، وهي الراحلة إيرين بيرمان، قررتُ عقد مقارنة مع بيوت القاهرة التي لم أكن أعرف عنها شيئًا آنذاك. وبفضل تشجيعها وإلحاحها، اقتصر تقديمي لبرنامج الدكتوراه على معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) حيث تم قبولي.
خلال دراستي في المعهد، سافرتُ إلى القاهرة لدراسة بيوتها على أرض الواقع، وهناك سُحرت بالقاهرة المملوكية. كان ذلك منعطفًا حاسمًا، حيث أخبرتُ مشرفي، المؤرخ البارز أوليك غرابار، بأن موضوع أطروحتي سيكون حتمًا عن القاهرة المملوكية. دفعني هذا الشغف إلى البحث عن المصادر، وكان كتاب المقريزي "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" -المعروف بالخطط- هو المصدر الأول والأساسي.
بعد حصولي على الدكتوراه وتعييني أستاذًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نلتُ منحة من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون لكتابة كتابي الثاني، والذي خصصته لدراسة كيفية تعامل المصادر العربية في القرون الوسطى مع الفنون. اكتشفتُ أن المقريزي وابن شداد هما الوحيدان تقريبًا اللذان اهتما بهذا الجانب. وعندما أرسلتُ مسودة الكتاب التي تضمنت فصلًا عن المقريزي، كان رد الأستاذة ريناتا هولود (Renata Holod) عام 1998 حاسمًا، إذ قالت: "الفصل الخاص بالمقريزي هو أفضل ما كتبت، لمَ لا تجعل عملك كله عنه؟".
في البداية، كنت أعتزم الكتابة عن تعامل المقريزي مع الفنون، لكنني علّقت المشروع حتى عام 2011. كانت عودتي إليه مدفوعة باندلاع ثورات الربيع العربي، التي اتخذتُ منها موقفًا مؤيدًا، وبدأتُ بالكتابة ضد نظام الأسد، مما حال دون عودتي إلى سوريا. في تلك اللحظة، وجدتُ في المقريزي نموذجًا للمؤرخ صاحب الموقف من السلطة. ومن خلال قراءة مدققة لكتابه "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة"، استخلصتُ تفاصيل حياته وأعدتُ بناء سيرته كنموذج للمؤرخ الذي لا يهادن السلطة. وبهذا تبلور التحول النهائي لموضوع الكتاب، من مؤرخٍ للعمران إلى مؤرخٍ ناقد للسلطة.
يختلفُ المقريزي عن سائر مؤرخي عصره في أنه لم يكتفِ بالسرد التاريخي المُجرد، فعلى الرغم من ندرة معلوماته المباشرة عن نفسه، فإنه كان معتدًا بشخصيته لدرجةٍ بثَّ معها في ثنايا كتاباته الكثير من آرائه وعواطفه، مما منحه أسلوبًا فريدًا يمزج بين الموضوعية والتقييم الذاتي للأحداث.
وقد تجلّى ذلك في حبه اللافت لآل البيت، بشكل فاق ما هو معتاد عند فقهاء السنة في زمنه، وهو ما دفعني للبحث عن سر ذلك. وجدتُ الخيط الأول في اتهام خصومه له، وعلى رأسهم شمس الدين السخاوي (831- 902 هـ) بادعاء الانتماء إلى الفاطميين. وبالتعمق في البحث، اكتشفتُ أن المقريزي كان يعتز بالفعل بأصوله الفاطمية، مستندًا إلى رواية تزعم أن جده الأكبر انتقل بعد انهيار الدولة الفاطمية إلى "حارة المقارزة" في بعلبك، وهي حارة لا وجود لها في الواقع، لا قديمًا ولا حديثًا.
قادني هذا التناقض إلى تقصي أصل تسمية "المقارزة" في كتابات المقريزي نفسه، فوجدته ينسبها إلى رواياتٍ أخرى، كان أبرزها ما ذكره أحد تلاميذه المغاربة من أن أصله يعود إلى أمير من قبيلة كتامة الأمازيغية المغربية (دعامة الحكم الفاطمي) يُدعى "أمقريز". كما اكتشفتُ وجود مدينة في ليبيا تُعرف اليوم باسم "قريز" أو "مقريز"، وكانت مركزًا مهمًا في العهد الفاطمي، مما يرجح أن انتماءه يعود إما لهذا القائد المغربي أو لتلك المدينة الليبية.
تتضافر هذه القرائن لتؤكد صحة انتمائه الفاطمي، وهو ما يتضح جليًا في كتاباته، حيث خصص نصف كتابه "الخطط" للقاهرة الفاطمية، وألف كتاب "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا" الذي يطفح بالمديح لهم. والجدير بالذكر أنه كان، هو وابن خلدون، الوحيدين في القاهرة آنذاك اللذين أقرا بصحة نسب الفاطميين إلى الرسول ﷺ، بل إن المقريزي فاق ابن خلدون في عاطفته الجياشة تجاههم. وكل ذلك أثبتُّه في كتابي، حيث لم يعد هناك مجال للشك في أن المقريزي كان يعتقد اعتقادًا راسخًا بانتمائه إلى الفاطميين عن طريق الإمام الحسين.
يُمكنُ فهم تحول المقريزي المذهبي في سياق نشأته المركبة، فقد وُلد بين مذهبين: الحنبلي من جهة أبيه القادم من بعلبك، والحنفي من جهة جده لأمه الذي كان قاضي قضاة الجيش في القاهرة. لكنه ما إن بلغ ورشد، حتى اختار لنفسه المذهب الشافعي، وهو ما أراه أشبه "بثورة على الأب" لإثبات ذاته، خاصةً أن هذا التحول جاء بعد وفاة أبيه وجده.
وعلى الرغم من أن تلميذه ابن تغري بردي (813 هـ – 874 هـ) ألمح إلى معرفته بالسبب دون أن يفصح عنه، فإن الدافع الأرجح لهذا التحول يكمن في رغبة المقريزي بالاندماج في النسيج العلمي المصري الأصيل. فالمذهب الشافعي كان هو السائد بين علماء مصر، بينما كان المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة المملوكية الحاكمة. ولو كان المقريزي يطمح إلى المناصب التي تبوأها جده، لكان الأجدر به أن يظل حنفيًا، إلا أنه آثر الانتماء لمصر وأهلها على الانتماء للسلطة.
لقد تَجَسّد انتماءُ المقريزي العميق لمصر، التي شعر بأنه منها "حتى النخاع" رغم أصول عائلته غير المصرية، في دفاعه المستميت عنها ضد كل منتقد، وفي إبرازه الدائم لفضائلها ومكانتها الفريدة في التاريخين الإسلامي والمقدس، بدءًا من علاقتها بالنبي موسى عليه السلام، ومرورًا بكونها ملاذًا للمسيح عليه السلام وأمه، وانتهاءً بدخول الصحابة إليها.
تماهيْتُ خلال عملي الطويل على المقريزي لمدة 24 عامًا، مع شخصيته إلى حدٍ شعرتُ فيه بأنني أجدُ نفسي فيه. فقد لفت نظري ما كتبه عن أمه من عبارات تنضح عطفًا وحبًا، وهو أمر نادر بين علماء عصره، مما دفعني إلى تقصي علاقته بالنساء. اكتشفتُ أنه تزوج وأنجب ولدين، لكن ذكرهما يختفي تمامًا من كتاباته بعد ولادتهما، ويرجح أنهما توفيا في حياته، كما توفيت زوجته وهي شابة، وهو ما جعله يشعر بالذنب كما يظهر من رؤياه لها في المنام.
قضى المقريزي آخر 20 عامًا من حياته وحيدًا، بعدما فُجع بوفاة ابنته الوحيدة المتبقية له، فاطمة. ورغم هذه الوحدة، فإن قصة حبه الأكبر قد تجلت في جاريةٍ تدعى "سول"، كان قد اشتراها عام 1400م وعمرها آنذاك 15 عاما.
ورغم اضطراره لبيعها بسبب فقره، فإنه على نحوٍ مدهشٍ ظل يتتبع أخبارها حتى بعدما خرجت من ملكه، حيث دوّن رحلتها مع سيدها الجديد إلى مكة، وتفاصيل وفاتها ودفنها في البقيع، محددًا تاريخ ذلك بدقة. ولم يكتفِ بهذا، بل أورد في ترجمتها أبيات شعرٍ رقيقة لشاعر آخر، يُعتقد أنه أضاف إليها بيتًا من عنده، ليعبر عن عمق شوقه وافتقاده لها، مما يبرهن على أنها كانت بالفعل حبه الأكبر.
انخرط المقريزي في بداية حياته -كغيره من أبناء طبقته- في الإدارة المملوكية، حيث أتاحت له صلاته بأربع من كبريات العائلات وأمراء المماليك الوصول إلى بلاط الظاهر سيف الدين برقوق (740هـ -779هـ) حتى أصبح نديمًا له. ومن خلال توليه منصب "المحتسب"، اصطدم بواقع الإدارة الفاسد وانتشار الرشوة، فكان ذلك دافعه لتأليف كتابه الأول والمهم "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، الذي حلل فيه أسباب الانهيار الاقتصادي ومجاعة مصر عام (807هـ/ 1405م). مثّلت هذه التجربة نقطة تحول قرر عندها التفرغ لكتابة التاريخ، مدفوعًا برغبة في فهم أسباب انهيار الدولة المملوكية.
ورغم استمراره في محاولاته الإصلاحية، كتقديمه كتيبًا عن النقود للسلطان المؤيد شيخ (771هـ -824هـ) الذي لم يستمع لنصحه، فإن القطيعة النهائية حدثت عام 814هـ/1412م، ففي ذلك العام، أعدم السلطان راعيه الأول فتح الله إعدامًا عنيفًا، وهو الحدث الذي يبدو أنه فجع المقريزي ودفعه للانطواء على نفسه. وبحسب النجم ابن فهد المكي (812هـ – 885هـ)، فإن المقريزي نفسه كان مستهدفًا لولا أن الله حماه. بعد تلك الحادثة، اعتزل المقريزي الناس ليكتب بحرية تامة، مُحوّلًا سلاطين المماليك إلى هدفٍ لنقده الذي كانت لهجته تزداد حدة وتتعالى من سلطان إلى آخر.
آثر المقريزي الاعتكاف والتفرغ للكتابة بعدما أيقن فساد الدولة المملوكية واستحالة إصلاحها، مُكرّسًا مشروعه التاريخي لمصر على وجه الخصوص. في هذا السياق، صنّف 7 مؤلفات كبرى في تاريخها، أبرزها كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، وكتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك" الذي أرّخ فيه للدولتين الأيوبية والمملوكية. وفي حقل التراجم، ألّف كتابين هما "المقفى الكبير"، الذي سعى فيه لترجمة كل شخصية لها صلة بمصر، ومصنَّفه ذو الطابع الشخصي "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" الذي خصصه لمعاصريه. وهكذا، تحوّل مشروعه الذي بدأ بهدف الإصلاح؛ إلى عملٍ تذكاري، سعى من خلاله إلى صون ذاكرة مصر من الاندثار الذي عاينه يتفشى تحت حكم المماليك.
ولم يقتصر جهده على تاريخ مصر، بل امتد أيضًا إلى التاريخ النبوي، حيث كتب في بداياته رسائل موجزة حول وجوب تبجيل آل البيت، من أهمها "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم". وفي أواخر حياته، كرّس جُلّ وقته لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأثمر ذلك كتابين متكاملين، أولهما "الإمتاع والأسماع بما للنبي من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع"، وهو سفرٌ ضخم استقصى فيه أدق التفاصيل المتعلقة بحياة النبي وآله، ويُرجّح أنه أنجز هذا العمل كقُربةٍ تعبدية ودينية.
طُبع كتاب المقريزي "الخطط" ضمن أوائل المطبوعات في مطبعة بولاق عام 1853م، ليصبح منذ ذلك الحين المصدر الأول لكل من أرّخ لمصر (الجزيرة)اتّسم ابن خلدون، كما يصفه معاصروه، بغرورٍ لافت جعله لا يلتفت إلى الآخرين، ولكن على النقيض تمامًا، أكثرَ المقريزي من ذكره بما يزيد على 20 مرة، واصفًا إياه دائمًا بألقاب التبجيل مثل "شيخنا" و"معلمنا". والواقع أن المقريزي لازم مجلس ابن خلدون 20 عامًا، فتشرّب منهجه وتأثر بكتابه "المقدمة" تأثرًا فلسفيًا وعميقًا.
بنى ابن خلدون نظريته على دورةٍ سياسية تبدأ بالعصبية التي تقود إلى تأسيس الدولة، ثم بلوغ الازدهار الثقافي، وصولًا إلى الانحدار وفقدان القوة. وقد استلهم المقريزي هذه الدورة نفسها، لكنه أسقطها ببراعة على التاريخ العمراني للمدن، حيث استبدل مفهوم الانحدار السياسي بمفهوم "الخراب"، ورصد معالم هذه الدورة في مسار المدينة منذ نشأتها البسيطة، مرورًا بذروة ازدهارها، وانتهاءً بلحظة انهيارها حين ينخر الفساد في كيانها.
يُعد المقريزي بذلك المؤرخَ المسلم الوحيد الذي استوعب نظرية ابن خلدون وطبقها بوعي قبل إعادة اكتشافه في القرن 19، إذ نجح في "ترجمتها" ونقلها من حقل التاريخ السياسي إلى حقل التاريخ العمراني.
اختلف المقريزي عن ابن خلدون في أمرين جوهريين: أولهما سوداوية المقريزي ونظرته المتشائمة، التي يُحتمل أنها كانت نابعةً من ظروفه الشخصية القاسية، كوحدته وفقدانه لأبنائه. أما الأمر الثاني فيكمن في الموقف من السلطة، وقد كان ابن خلدون طامحًا لأداء دور سياسي وميالًا إلى مداهنة الحكام، وورّطه هذا الطموح في الانخراط بثورة يلبغا الناصري ومنطاش ضد السلطان برقوق.
وعندما عاد السلطان إلى عرشه عام 795هـ، أمر بقتل منطاش وعزل ابن خلدون عن مناصبه، وذلك رغم اعتذار الأخير بقصيدة مطولة بالغة في التذلل والاستعطاف. وأظن أن للمقريزي دورًا في إعادة ابن خلدون إلى حظوة السلطان، ولكني لا أملك ما يكفي من المعلومات لتأكيد ذلك.
على النقيض من ذلك، تمسك المقريزي بموقف أخلاقي صارم، فرغم محاولاته الإصلاحية، لم يتنازل قط عن مبادئه كعالم. وقد تجلى هذا الموقف بوضوح في آخر 30 عامًا من حياته، حين واجه الحكام بكشف تجاوزاتهم دون هوادة، حتى بلغت حدة نقده درجةً عرَّضت حياته للخطر.
وخلاصة القول، بينما يُحتَفى بعبقرية ابن خلدون الفذة كأول مُنظّر للتاريخ العالمي، ويجبُ التمييز بين فكره وسلوكه الشخصي، يبرز المقريزي على النقيض منه، فقد كان شخصية متواضعة وقليلة الطموح، مدفوعًا بحسٍ أخلاقيٍ رفيعٍ دفعه إلى إيثار الانسحاب من صراع المناصب على مُداهنة الحكام.
تتميز كتابات المقريزي بعمقها الفلسفي الذي يتجاوز السرد التاريخي، وهو عُمقٌ يُعتقد أن لاحتكاكه المباشر بابن خلدون لأكثر من عقدين دورًا فيه (الجزيرة)يُعد التنجيم جزءًا أصيلًا من الإطار المعرفي لتلك الحقبة، وقد آمن به ابن خلدون كغيره من معاصريه. أما المقريزي، فعلى الرغم من أنه لم يتحدث عن ممارسته له، فقد اتُّهم به، إذ يروي السخاوي أن علاقة المقريزي بابن خلدون توطدت حين تنبأ له عبر استخدام الرمل؛ بأنه سيتقلد منصب قاضي القضاة، وهو ما تحقق لاحقًا.
وهذا ما يدفع للاعتقاد بأن المقريزي، الذي كان له نفاذ إلى بلاط السلطان الناصر زين الدين فرج ابن برقوق، هو من أوصى بتعيين ابن خلدون في هذا المنصب، لشدة تبجيله واحترامه له. والواقع أن إعجاب المقريزي بشيخه لم يكن له مثيل بين مؤرخي مصر، الذين -على النقيض تمامًا- ناصبوه العداء مدفوعين بالغيرة من مكانته والكراهية لغطرسته.
وهكذا، تتجلى فرادة شخصية المقريزي في ذلك المزيج النادر الذي جمع بين السوداوية والتشاؤم، وبين التواضع والحس الأخلاقي الصارم. وقد انعكست هذه السمات مجتمعةً على كتاباته، فمنحتها صبغة ذاتية خاصة، وجاذبية تفوق تلك المؤلفات التاريخية الموضوعية التي تغيب عنها روح كاتبها.
اكتشف المستشرقون -وخاصة الفرنسيين- قيمة المقريزي في وقت مبكر، مدفوعين ببحثهم عن تاريخ الحملات الصليبية، حيث وجدوا في كتاباته مصدرًا مهمًا، لا سيما عن حملة لويس التاسع. ثم امتد اهتمامهم ليشمل الأقباط وكنائسهم.
غير أن نقطة التحول في الاهتمام به كمؤرخ طبوغرافي جاءت مع حملة نابليون على مصر، إذ استخدم نابليون وصف المقريزي لقناة "خليج أمير المؤمنين" القديمة؛ في مشروعه لشق قناة تصل بين البحرين. ومنذ تلك اللحظة، برزت أهمية المقريزي كمؤرخ طوبوغرافي، وبدأت ترجماته تنتشر في سائر اللغات الأوروبية.
وفي أواخر القرن 20، تغيرت النظرة إليه حين اكتشف المستشرقون المؤرخين الذين أخذَ عنهم، مما عرّضه لاتهامات بالسرقة وقلة الدقة. ويأتي كتابي دفاعًا عنه، ليس لكونه مؤرخًا مدققًا أو متكاملًا، بل لأنه كان مؤرخًا متفاعلًا مع عصره، يرى في كتابة التاريخ فعلًا عقائديًا وسياسيًا، ومن هذا المنطلق يجب أن تُقرأ أعماله.
قدم المقريزي أداة لفهم التشابك بين السلطة والفساد والأخلاق والاقتصاد؛ وهي بصيرةٌ أدركها الأدباء المصريون بعمق، بينما لم يلتفت إليها المؤرخون بعد بالقدر الكافي (مواقع التواصل)طُبع كتاب المقريزي "الخطط" ضمن أوائل المطبوعات في مطبعة بولاق عام 1853م، ليصبح منذ ذلك الحين المصدر الأول لكل من أرّخ لمصر. ورغم أن الاهتمام به خفت قليلًا مع ثورة 1952م وصعود المد القومي العربي، لكونه مؤرخًا "قُطريًا" لمصر وليس قوميًا، فإن أهميته عادت لتتوهج بعد هزيمة 1967م، حيث استلهمه المؤرخون لاستنهاض الهمم، وأعيد تقديمه بوصفه "المؤرخ الوطني" لمصر.
ومن هذا المنطلق، اكتشفه الأدباء من جديد، فكتب جمال الغيطاني "خطط الغيطاني" بوحي مباشر من خطط المقريزي، واستحضره خيري شلبي في روايته "رحلات الطرشجي الحلواني" كدليلٍ على عظمة مصر وشخصيتها الشعبية. وقد بلغ هذا التوظيف ذروته مع الشاعر نجيب سرور في ديوانه، حيث تحول المقريزي إلى شخصية يُقتدى بها في نقد الحكام، وإلى نموذج معرفي يُنظر من خلاله إلى واقع مصر.
يغيبُ اليوم الحضورُ الحقيقي للمقريزي بالقدر الذي يستحقه، فبينما يكتفي المؤرخون بالتعامل معه كمجرد مصدر للمعلومات، متجاهلين قيمته التحليلية الكبرى، قامت جماعات إسلامية متشددة باستغلاله فكريًا وتقديمه على أنه "إمام" ونموذج لها.
تكمن الضرورة اليوم في استعادة المقريزي، ليس بوصفه ساردًا للأخبار، وإنما بوصفه صاحب منهجٍ لقراءة التاريخ بحثًا عن حلول لأخطائنا. لقد قدم لنا بالفعل أداةً لفهم التشابك بين السلطة والفساد والأخلاق والاقتصاد، وهي بصيرةٌ أدركها الأدباء المصريون بعمق، بينما لم يلتفت إليها المؤرخون حتى الآن بالقدر الكافي. إن التركيز على هذه القيمة التحليلية في فكره هو ما يجعله جزءًا حيًا ومؤثرًا في تراثنا المعرفي، وركيزةً نسعى من خلالها لبناء نهضتنا.