في جنوب السودان، خاصة في القرى والمناطق الريفية النائية، يحرص الرجال والنساء من مختلف الأعمار على تزيين وجوههم وجباههم بعلامات وفصود تقليدية تعكس هويتهم وانتماءهم لمجموعاتهم.
وتظل هذه العادات والممارسات حاضرة رغم التحولات الاجتماعية والتأثيرات الحديثة، إذ تحمل كل علامة أو فصد على الوجه دلالات اجتماعية وثقافية تعكس الانتماء القبلي أو المناسبات الطقسية، كما تسهم في الحفاظ على التراث ونقل القيم والتقاليد عبر الأجيال.
تُعد الشلوخ إحدى العلامات الأساسية لبلوغ مرحلة الرجولة وتحمل المسؤوليات والصعاب لدى الرجال، ولا تزال بعض المجموعات في المناطق الريفية تعتبر الشخص الذي لا يحمل هذه العلامات على وجهه مجرد صبي مهما بلغ من العمر، مما يحرمه من مكانته والمكتسبات المرتبطة بها.
وتشارك غالبية الجماعات الإثنية في أقاليم جنوب السودان في هذا التقليد، خاصة مجموعات الدينكا والشلك، حيث يُعد جزءا من طقوس الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحياة.
وتشهد القرى والأرياف احتفالات كبيرة يحضرها الشباب المولودون في العام نفسه، وتُستخدم فيها أدوات حادة مثل الحراب والسكاكين لعمل الشلوخ على الجباه، بينما يتحمل الشباب هذا التقليد بصبر وجَلَد لإثبات رجولتهم وتجنب السخرية أمام الأسرة والعشيرة والأقران.
أما بالنسبة للفتيات، فإن الخضوع لعملية التشليخ لا يُعد مجرد طقس تقليدي، بل يحمل دلالات اجتماعية وثقافية عميقة ترتبط بالنضج والاستعداد للزواج وتحمل مسؤوليات الأسرة.
فإتمام هذه الطقوس يشير إلى انتقال الفتاة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، ويجعلها مقبولة اجتماعيا ضمن مجتمعها بوصفها زوجة محتملة وقادرة على إنجاب الأبناء.
كما تعكس هذه الممارسة القيم المجتمعية المتعلقة بالشرف والسمعة، وتؤكد أهمية الانتماء للثقافة الجماعية، حيث يُنظر للفتاة التي لم تخضع لهذه الطقوس على أنها غير مكتملة اجتماعيا، مما يؤثر على مكانتها داخل الأسرة والمجتمع الأوسع.
ويذهب عديد من المهتمين والباحثين في التراث الشعبي لجنوب السودان إلى أن عادة الشلوخ قد تعود أصولها إلى فترة الاستعمار الإنجليزي في بدايات القرن العشرين، حين استخدمها المستعمر وسيلة للتمييز بين القبائل المختلفة وتحديد هوياتها الجماعية.
ومع مرور الوقت، تبنت هذه المجموعات الطقس بشكل تلقائي، وأصبح جزءا من ممارساتها الثقافية والاجتماعية من دون وعي بتاريخها الاستعماري، ليتحول إلى رمز للرجولة والانتقال إلى مرحلة جديدة في حياة الفرد.
وتتميز كل قبيلة في جنوب السودان بنمط فريد من الشلوخ يميزها عن غيرها، فقبيلة النوير في ولايات أعالي النيل وجونقلي والوحدة تعتمد خطوطا أفقية على الجبهة تتراوح بين 6 و7 خطوط، بينما تأخذ شلوخ قبيلة المنداري في مناطق تركيكا وتالي بالولاية الاستوائية الوسطى شكل 3 سبعات على الجبهة.
أما قبيلة الشلك في أعالي النيل، فلها نمط مختلف يتمثل في ندوب بارزة أسفل الجبهة تُعرف لديهم باسم "طاي".
يقول دينق لوال، الباحث في الفولكلور، إن عادة الشلوخ بدأت تتراجع في عديد من مناطق البلاد، حتى في بعض المناطق الريفية، بفعل انتشار التعليم الحديث وزيادة الوعي الصحي.
ويضيف في تصريحات للجزيرة نت أن "هذا التراجع يعكس تحولا تدريجيا في الممارسات التقليدية، حيث بدأ الشباب والأسر يعيدون النظر في هذه الطقوس بسبب المخاطر الصحية والرغبة في التكيف مع أساليب الحياة الحديثة، كما أن التعليم مكّن الشباب من التفكير النقدي وفهم أهمية حقوق الفرد والسلامة البدنية، مما أدى إلى انخفاض الإقبال على التشليخ أو تعديل ممارسته لتصبح أقل ضررا".
ويؤكد لوال أن هذا التحول لا يعني فقدان الهوية الثقافية، بل يمثل محاولة لإعادة تفسير الرموز التقليدية وربطها بأساليب حياة معاصرة، مع الحفاظ على الروابط الاجتماعية والانتماء الجماعي الذي كانت الشلوخ تمثله سابقا.
إلى جانب ممارستها كعادة جمالية لها طقوسها المحددة، استخدمت عديد من المجتمعات الشلوخ والفصود أيضا لأغراض صحية، إذ كان يُعتقد أنها تساهم في علاج أمراض العيون والصداع المزمن، وربما تمنح الجسم توازنا أو حماية من الأمراض وفق المعتقدات الشعبية.
ومع مرور الوقت، تغيّرت نظرة تلك المجتمعات إلى الشلوخ والفصود، فبينما كانت في السابق علامة على الشجاعة والجمال والنضج الاجتماعي، أصبح كثيرون يعتبرونها اليوم مجرد تشويه للوجه، حيث بدأ الشباب والأسر يولون أهمية أكبر للحفاظ على الصحة الجسدية والمظهر الطبيعي بدلاً من الالتزام بهذه الطقوس المؤلمة.
ويرى بيتر شانق، كاتب صحفي وناشط ثقافي، أن عادة التشليخ تراجعت في مجتمعات جنوب السودان التي اشتهرت بها سابقا، فقد كانت علامة على النضج والفخر والرجولة، لكنها أصبحت اليوم بالنسبة لكثيرين علامة على الجهل والأمية، وقد يتعرض من يخضع لها للسخرية.
ويضيف شانق في تصريحات للجزيرة نت أن "التعليم والوعي الصحي والانفتاح الثقافي أعاد تفسير هذه الممارسات، فأصبح المجتمع يقيمها الآن من منظور السلامة الجسدية والمظهر الاجتماعي، مما أدى إلى انخفاض الإقبال على التشليخ أو استبداله ببدائل أقل ضررًا، مع الحفاظ على رمزيته الثقافية والاجتماعية".