يبدو أن الفطريات التي تعيش في أجسامنا لها تأثير على صحتنا أكبر بكثير مما كنا نتصور.
فمن بين ملايين الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على أجسامنا وداخلها، هناك أنواع لا تحصى من الفطريات، فهناك فطريات كثيرة على جلدنا، كما أن الأغشية داخل الأنف أو المهبل مليئة بها، بل وتعيش الفطريات إلى جانب البكتيريا داخل الأمعاء أيضا.
تنتقل الفطريات إلينا من أمهاتنا عند الولادة، لكن فطريات جديدة تدخل أجسامنا باستمرار. فنحن نهضم الخميرة كلما أكلنا الخبز مثلا، ونستنشق الفطريات مع كل نفس نأخذه. ويقضي جهاز المناعة على الكثير من هذه الفطريات فورا، لكن بعضها يعيش فترة أو يبقى في أجسامنا مدى الحياة.
ويسعى الباحثون في الفترة الأخيرة إلى استكشاف كيف تؤثر الفطريات، التي تعيش في أجسامنا، على أدمغتنا وعقولنا وسلوكنا.
ويعرف الأطباء منذ مدة طويلة أن الفطريات قد تتسبب في التهابات خطيرة في الدماغ. لكن الباحثين وجدوا الآن مؤشرات مثيرة للفضول والجدل على أن هذه الميكروبات قد تكون لها تأثيرات عصبية أخرى على البشر.
ويتفق العلماء على استبعاد فكرة أن تسيطر الفطريات على أجسامنا. لكنهم يبحثون بجدية ما إذا كانت بعض الفطريات داخل أجسامنا تساهم في الإصابة بأمراض في الدماغ، وما إذا كانت الفطريات التي تعيش في الأمعاء تؤثر على سلوكنا وصحتنا النفسية.
يقول خبراء إن المطلوب هو المزيد من الأبحاث، لفهم العلاقة العميقة والمعقدة بين الميكروبات، التي تعيش بداخلنا، واستكشاف طرق جديدة لتحسين صحتنا.
ويملك البشر قدرة كبيرة على مقاومة الفطريات، فحرارة أجسامنا تصعب عليها البقاء داخلنا، وحتى التي تبقى منها قد تكون نافعة لنا، وربما تدعم جهازنا المناعي، وتساعد في التئام الجروح، وفق ما يقوله خبير الأحياء الدقيقة ماثيو أولم من جامعة كولورادو بالولايات المتحدة.
لكن الكثير من الفطريات الأخرى يمكنها أن تتسبب في التهابات مثل سعفة القدم أو القلاع. ويحدث هذا عندما نتعرض لفطريات جديدة ضارة في محيطنا، أو عندما تتكاثر الفطريات الموجودة في أجسامنا بطريقة كبيرة، وفق ما تقوله ريبيكا دروموند، خبيرة مناعة الفطريات في جامعة برمنغهام في بريطانيا.
من النادر أن تصل الفطريات إلى الدماغ، بسبب حواجز حمائية في الرئتين والأمعاء، وكذلك بسبب الحاجز الدماغي والخلايا المناعية المؤهلة لتدمير أي فطر يدخل إلى الدماغ. لكن من الممكن أن يصاب الدماغ بالتهابت فطرية، وقد ارتفع عدد هذه الحالات في العقود الأخيرة.
والسبب في ذلك هو تزايد عدد الناس الذين يعانون من ضعف في الجهاز المناعي، حسب دروموند، نتيجة انتشار فيروس ضعف المناعة المكتسب على المستوى العالمي، خاصة في أجزاء من أفريقيا، وكذلك نتيجة تزايد استعمال مثبطات المناعة في علاج السرطان وزراعة الأعضاء.
وتقول دروموند: "كلما زاد استعمال أدوية إضعاف المناعة، ارتفع عدد الالتهابات الفطرية".
وتأتي الفطريات التي تصيب الدماغ أحيانا من الرئتين، مثل الرشاشيات، أو المستخفيات التي نستشقها في الهواء. ويمكنها أن تنبت وتكبر وتنتشر، حسب دروموند، إذا أهملت. ويحدث أحيانا أن تنبت فطريات المهبل وتنمو بشكل كثيف. وعندما تصل إلى الدماغ تتفرع وتنتج سموما قاتلة للأعصاب.
أما المستخفيات فيمكنها أن تنمو في كتل مثل الأورام، و"بطبيعة الحال فإنها تسبب أضرارا جسمية".
وتقول دروموند إن التهابات الدماغ الفطري غالبا ما تكون مميتة. وتصل نسبة الوفاة بين المصابين بالتهابات الرشاشية 90 في المئة، ويضعب علاجها، لأنه لا توجد أدوية كثيرة مضادة للفطريات. وليس بإمكان كل الأدوية عبور الحاجز الدماغي لقتل الفطريات، كما أن بعض الفطريات طورت مقاومة لهذه الأدوية.
والذين ينجون من الالتهابات الفطرية غالبا ما يعانون من إصابات مزمنة في الدماغ.
وتقول دروموند إن مرضى الإيدز الذين ينجون من داء المستخفيات في الدماغ يعانون من ضعف البصر والذاكرة والدوخة.
ويعرف العلماء منذ زمن طويل أخطار التهابات الدماغ الفطرية، لكن بعضهم يعملون في السنوات الأخيرة لاستكشاف ما إذا كانت الفطريات تصل إلى الدماغ أكثر مما كان الاعتقاد سائدا، وما إذا كانت تساهم في تدمير الخلايات العصبية مثلما يحدث في حالات مثل الزهايمر.
وحسب ريتشارد ليذ، خبير علم الأحياء الجزيئي في جامعة أيدنبره في بريطانيا، فإن من بين الحالات التي تعزز هذه النظرية، اكتشاف الالتهابات الفطرية والميكروبية في المرضى الذين ثبتت إصابتهم بداء الزهايمر.
وفي حالات كثيرة عندما يصف الطبيب أدوية مضادة للالتهاب "تتوقف أعراض الخرف".
ويعتقد ليذ أن الميكروبات تتسلل عبر الحاجز الدماغي بشكل متكرر، لكن غالبا ما يدمرها الجهاز المناعي السليم عند الأشخاص. ولأن جهازنا المناعي يضعف بتقدمنا في السن فإن هذا يسمح للميكروبات بالتراكم في الدماغ، وربما يؤدي إلى التهابات تدمر الأعصاب.
ويقول إن الضرر لا يظهر إلا عندما يضعف الجهاز المناعي.
ويبحث العلماء ما إذا كانت للفطريات علاقة بالاضطرابات النفسية.
واعتقد العلماء لفترة طويلة أن الزهايمر ينشأ من بعض البروتينات في الدماغ، لكن النقاش يتزايد بشأن هذه البروتينات وهل هي التي تسبب المرض أم أنها من أعراضه. ويرى ليذ أن هذه البروتينات يتنجها نظام الدفاع المضاد للميكروبات المتسللة، ودليله على ذلك هو البحوث التي كشفت عن خصائص مضادة للالتهاب في هذه البروتينات.
والدليل الآخر على أن الميكروبات المتسللة إلى الدماغ قد تكون سببا في ظهور الزهايمر نجده في البحوث التي أجريت على الفئران، إذ لاحظ العلماء دخول فطريات المبيضات البيضاء إلى دماغ القوارض عندما يضعف جهازها المناعي.
وفي دراسة لا تزال قيد المراجعة، فحص ليذ وزملاؤه شرائح من دماغ موتى لم يصابوا بالزهايمر، وشرائح من دماغ موتى مصابين بالزهايمر. فوجدوا كميات كبيرة من البيكتريا والفيروسات في المجموعتين، لكن الكمية كانت أكبر في المجموعة المصابة بالزهايمر.
وإذا كانت الميكروبات بالفعل عاملا في ظهور الزهايمر، فإنه بإمكاننا التقليل من الإصابة بالمرض أو منعه من خلال تعزيز الجهاز المناعي، عن طريق اللقاحات التي ثبتت نجاعتها في تقوية المناعة العامة. لكن هذه النظرية لا تزال في مهدها. ويرى ليذ أنها "فكرة جديدة".
وهناك نقاش حول نظرية أخرى، وهي - كما يعقتد أولمو وآخرون - أنه من الصعب استبعاد فكرة أن يكون ظهور المادة الوراثية الميكروبية ناتج عن التلوث، نظرا لأن شظايا الميكروبات موجودة في كل مكان، لكن ليذ يرى أن ذلك غير محتمل، مشيرا إلى تقارير مفادها أن شظايا الميكربات موجودة داخل العينات مثلما هي موجودة على سطحها. أما التلوث من الهواء فيبقى على سطح الدماغ.
ويصر أولمو على أن وجود شظايا الميكربات في دماغ المصاب بالزهايمر ليس دليلا على أن تلك الميكروبات سببت المرض. ويمكن مثلا أن يكون السبب في ضعف الحاجز الدماغي في تلك الأدمغة أو في مشاكل أخرى. ويعني ذلك أن عددا كبيرا من الميكروبات تسلل إلى الدماغ قبل أن يقضي عليها الجهاز المناعي.
لكن أدلة جديدة على أن الميكروبات يمكن أن تجتاح أدمغة الحيوانات، مثل السمك، تعزز فكرة أن ذلك يمكن أن يحدث مع الثدييات أو ربما البشر، حسب أولمو. ففي دراسة نشرت في 2024 وسم العلماء البكتيريا بجزيئات مضيئة خضراء ووضعوها في حوض به أسماك السلمون.
وبعد أسبوع، يقول أولمو، "تسللت الميكروبات إلى دماغ السمك بضوئها الأخضر. والغريب أن الميكروبات تعيش في دماغ السمك طوال حياته دون أن يكون لها أي تأثير عليه".
ويضيف أن فكرة تسلل الفطريات أو الميكروبات الأخرى إلى الدماغ مع تقدم السن، إما بسبب ضعف الجهاز المناعي أو تآكل الحاجز الدماغي، أصبحت أكثر قبولا للتصديق. يقول أولمو: "أعتقد أننا بلغنا الحد الأدنى للبحث في هذه الفرضية. فهي جديرة بأن نخصص المال لمعرفة ما يجري".
والمثير للاهتمام هو أن الفطريات قد لا تحتاج للوصول إلى الدماغ لتؤثر فيه، ففي دراسة نشرت عام 2022، وجد خبير علم المناعية إيليان إلييف من كلية فيل كورنيل الطبية في الولايات المتحدة وزملاؤه، أن إضافة طفيليات المبيضات البيضاء إلى أمعاء الفئران تجعلها أكثر مقاومة لتضرر الأمعاء بسبب الالتهابات الميكروبية أو الاستعمال المفرط للمضادات الحيوية.
ويقول إلييف إن تعزيز جدار الأمعاء قد يكون آلية حمائية من الجسم لمنع الفطريات والميكروبات الأخرى من الخروج من الأمعاء وإصابة أنسجة أخرى.
لكن المفاجاة الكبرى كانت عندما راقب الفريق سلوك القوارض. والعجيب أن الفئران المشحونة بالفطريات كانت أكثر ميلا إلى الشم والتواصل والتفاعل مع الفئران الأخرى. وهذا يعني أن تعرضها للفطريات ربما كان له نوع من التاثير على سلوكها أيضا.
وبناء على تجارب أخرى، وضع العلماء نظرية مفادها أن بعض الجزيئات التي أفرزتها خلايا الجهاز المناعي عند الفئران في الدم، حفزت الخلايا العصبية المسؤولة عن السلوك في الدماغ. وقال إلييف إن "هذه المسألة كانت مفاجأة بالنسبة لنا".
ولا أحد يعرف سر هذا التداخل بين فطريات الأمعاء والدماغ. ويتساءل إلييف هل من الصدفة أن تؤثر إشارات المناعة المدفوعة بالفطريات على الدماغ، أم أنها إشارات متعمدة من الفطريات لضمان بقائها على قيد الحياة؟". ويرى إلييف أن أجسام الثدييات ربما تستفيد من تغيير سلوكها في وجود الفطريات.
ولا يوجد دليل حتى الآن على أن هذا التداخل بين الفطريات والدماغ يحدث في جسم البشر. لكن الاحتمال جدير بالبحث، حسب أولمو. ففي السنوات الأخيرة تزايدت الأدلة على أن البكتيريا التي تعيش في الأمعاء قد يكون بمقدورها إرسال إشارات إلى الدماغ عن طريق الجهازين المناعي والعصبي، أو بإنتاج مواد مرتبطة بالاكتئاب أو القلق أو الاسترخاء.
ويقول أولمو: "مبدئيا، ليس هناك أي سبب يجعلنا نعتقد أن الفطريات لا تفعل ذلك أيضا".
ويبحث بعض العلماء ما إذا كانت الفطريات لها علاقة بالاضطرابات النفسية. وبينت العديد من الدراسات وجود فروق بين فطريات الأمعاء عند الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أوالاضطراب ثنائي القطب.
أما بين النساء المصابات بانفصام الشخصية، فاللائي تعرضن منهن لفطريات المبيضات البيضاء التي تعيش في الأمعاء يسجلن نتائج أقل في اختبارات الذاكرة، والقدرات الذهنية الأخرى، وفق دراسة أجرتها في 2016 إيميلي سيفرنس وزملاؤها في جامعة جون هوبكينز.
وتستكشف هذه الدراسة ما إذا كان نمو فطريات المبيضات البيضاء المفرط، الذي يسببه التوتر أو المضادات الحيوية، يُحدث عدم توازن في ميكروبات الأمعاء، فيعدل تركيبة المادة التي تنتجها بطريقة تجعل الشخص معرضا لانفصام الشخصية.
لكن هذا لا يعني أن الفطريات هي التي تسبب انفصام الشخصية ، لكنه قد يعني بكل بساطة أن هؤلاء المرضى أكثر عرضة لمستويات عالية من الفطريات.
وتقول سيفرنس: "أعتقد أن هذا مجال بحث مثير للاهتمام، لكنه في مرحلة مبكرة".
ويسعى الباحثون في السنوات المقبلة إلى معرفة ماذا كانت الفطريات، وأي نوع منها تحديدا، يؤثر فعلا على أدمغتنا؟. تقول دروموند: "لا جدال أن الفطريات مهمة، لكن أين تكمن أهميتها تحديدا؟ أعتقد أن هذا ما يجري البحث عنه".
شيء واحد أصبح واضحا: "إذا كانت البكتيريا من زمن طويل محل اهتمام الدارسين، فقد حان الوقت للاهتمام بالفطريات التي تؤثر في صمت على صحتنا من الداخل".