تقول العبارة الشهيرة "الضربة التي لا تقتلني تقويني" وإذا كانت تستخدم في عالم البشر مجازيا، للدلالة على أن التحديات التي لا تؤدي إلى الهلاك تكسب الفرد قوة وصلابة، فإنها في عالم البكتريا تتجاوز الحالة المجازية، لتصف آلية واقعية وعملية، تتحول بموجبها الضربات التي كانت تستهدف قتلها إلى أدوات تكسبها مزيدا من القوة والصلابة.
ومنذ مليارات السنين، تخوض البكتيريا والفيروسات معركة مستمرة، فالفيروسات تهاجم البكتيريا باستمرار، والبكتيريا تطور أساليب للدفاع عن نفسها، وهذا الصراع الطويل أنتج آلية دفاعية مذهلة داخل البكتيريا، هي التي تعد ترجمة عملية للعبارة الشهيرة.
واكتشف فريق بحثي من جامعة بنسلفانيا الأميركية هذه الآلية، التي كانت مهملة سابقا داخل بعض سلالات بكتريا "إيكولاي" ووجدوا أن فهمها قد يساعد البشر في عده مجالات أبرزها تطوير وسائل جديدة لمحاربة البكتيريا، خاصة مع تزايد مقاومتها للمضادات الحيوية.
تبدأ قصة هذه الآلية الدفاعية بتعرض البكتيريا لهجمات متواصلة من فيروسات تُعرف بـ"العاثيات" وبعض هذه العاثيات تتبع خطة مختلفة، فهي لا تدمر الخلية فورا، بل تعيش داخلها بهدوء، انتظارا للظروف المناسبة للهجوم.
ولكن في بعض الحالات، تفقد هذه الفيروسات القدرة على الهجوم تماما وتتحول إلى ما يسميه العلماء "العاثيات الخفية" وهي بقايا فيروسية لا تموت ولا تعمل، لكنها تبقى.
والجديد الذي اكتشفه العلماء في الدراسة المنشورة في دورية "نيوكليك آسيدز ريسيرش" أنه مع مرور الزمن، توارثت الأجيال البكتيرية هذا الفيروس الصامت داخل جيناتها، دون أن يسبب أي ضرر.
ولم تترك البكتيريا هذا الإرث الفيروسي بلا فائدة، بل طورت آلية ذكية تستغل هذه البقايا لصالحها، فحين تتعرض لهجوم جديد من فيروس آخر تفعل أجزاء من الحمض النووي الفيروسي القديم، فتنتج بروتينات دفاعية تمنع الفيروس المهاجم من الالتصاق بالخلية أو اختراقها.
ويصف الباحثون في دراستهم هذه الآلية، والتي يبدأ تفعيلها عندما يقترب فيروس جديد محاولا الهبوط على سطح البكتيريا لبداية الهجوم.
فعند أول محاولة لمس تنطلق إشارة إنذار داخل الخلية، حيث يدخل إلى المشهد إنزيم يختص بإعادة التركيب "بنكيو" والذي يشبه مهندسا جينيا طارئا يتدخل للإنقاذ، حيث يبدأ تنفيذ حركة دقيقة داخل الحمض النووي للبكتيريا تسمى "الانقلاب الجيني" أي قلب جزء صغير من الشفرة الوراثية، تحديدا الجزء الذي يحتوي على آثار الفيروس القديم.
وبهذه الحركة، تُفتح صفحة جينية كانت خاملة، وتُفعل البكتيريا تعليمات جديدة لم تكن تُقرأ سابقا، والنتيجة تكون تصنيع بروتينات هجينة، تكون مزيجا من جينات البكتيريا وبقايا الجينات الفيروسية القديمة.
وتتجه هذه البروتينات الهجينة إلى سطح الخلية، وتعيد تشكيل مستقبلات البكتيريا، وهي تلك النقاط التي يعتمد عليها الفيروس المهاجم للالتصاق والحقن، وفجأة يجد الفيروس الجديد نفسه أمام سطح مجهول لا يستطيع التعرف عليه، وبالتالي لا تجد الفيروسات التي حاولت أن تهبط بابا ولا نافذة، وبالتالي يكون الدفاع قد نجح قبل أن يبدأ الهجوم.
واختبر الباحثون هذه الآلية عبر زيادة إنتاج البروتينات الهجينة في بكتيريا "إيكولاي" ثم تعريضها للفيروسات وتركها طوال الليل، وبعد ذلك قاسوا عكارة المحلول، فكلما زادت العكارة قل وجود الفيروسات، كما أجروا نمذجة حاسوبية لمحاكاة التصاق الفيروسات بالبكتيريا، وتأكدوا من صحة نتائجهم من خلال التجارب.
ويقول البروفيسور توماس وود أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة بنسلفانيا، والباحث الرئيسي بالدراسة -في بيان نشره الموقع الإلكتروني للجامعة- إنه عندما نزيد إنتاج البروتين الدفاعي ننجح في منع الفيروس من الالتصاق بالبكتيريا في البداية "لكن بعد 8 دورات تجريبية، ينجح الفيروس في تطوير بروتينات هبوط جديدة تمكنه من تجاوز الدفاع".
وأكد وود أن هذه النتائج تحسن فهم آليات الدفاع الطبيعية لدى البكتيريا، مما يمكن أن يُوظف مع البكتريا النافعة التي تستخدم في صناعات مثل الجبن والزبادي، وأيضا مكافحة الأنواع الممرضة المقاومة للمضادات الحيوية. وأضاف أن الفريق سيواصل دراسة 8 "عاثيات خفية" أخرى لمعرفة دورها المحتمل في الدفاع.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة