بقلم د. بدر السماوي – خبير في الحماية الاجتماعية
وجّه مقدمو الخدمات الصحية في القطاع الخاص المتعاقدون مع الصندوق الوطني للتأمين على المرض في الأسابيع الأخيرة تحذيرات من خطر انهيار المنظومة الصحية بسبب تفاقم الأزمة المالية مع الصندوق، داعين إلى تحرك فوري لتدارك الموقف.
والحقيقة أن العلاقات بين الطرفين ما انفكت تشهد توترات من حين لآخر وتبلغ أوجها عادة في نهاية كل سنة إدارية باعتبار أن أغلب الاتفاقيات تنتهي آجالها مع نهاية السنة.
تردّي العلاقات التعاقدية
تعود أهم أسباب التوترات إلى تأخر الصندوق في صرف مستحقات مقدمي الخدمات خلافا لما يقع الاتفاق عليه في الاتفاقيات التعاقدية التي أسست نظام التأمين على المرض سنة 2004. فقد تم إبرام اتفاقية إطار بتاريخ 04 فيفري 2006 لتنظيم العلاقات بين الصندوق ومقدمي الخدمات الصحية في القطاع الخاص، وتمت المصادقة عليها بمقتضى أمر لوزير الشؤون الاجتماعية بتاريخ 22 فيفري 2006.
و أمضى هذه الاتفاقية عدة أطراف ما بين نقابات وجامعات وغرف ومنها النقابة التونسية لأطباء الممارسة الحرة ونقابة الصيادلة ونقابة صيادلة الليل والنقابة الوطنية لأطباء الممارسة الحرة والنقابة الوطنية البيولوجيين للممارسة الحرة والنقابة الوطنية لأطباء الأسنان، والغرفة الوطنية للمصحات الخاصة والغرفة الوطنية لمصحات تصفية الدم، وضبطت الاتفاقية الإطارية المشتركة والالتزامات لكل طرف والتعريفات المرجعية للخدمات الصحية وأساليب وطرق خلاص مقدمي الخدمات وغيرها، ثم في مرحلة لاحقة تم إبرام اتفاقيات قطاعية تضمنت إجراءات خاصة بكل مهنة.
و خلال السنوات الأولى لم تكن تظهر بعض الصعوبات وخاصة على مستوى تأخر الصندوق في خلاص مستحقات مقدمي الخدمات لكن لم تبلغ القطيعة حدّها الأقصى. غير أن المنعرج الكبير حصل سنة 2018 عندما انتهت آجال العقود الممضاة لمدة طويلة نسبيا وتم تعويضها للضرورة وبصفة مؤقتة باتفاقيات سنوية.
مسؤولية مقدمي الخدمات
خلافا لما نصت عليه الاتفاقية الإطارية والاتفاقيات القطاعية أقدم بعض مقدمي الخدمات الصحية في القطاع الخاص أكثر من مرة على الترفيع في التعريفات المرجعية من جانب واحد. وعلى سبيل المثال قامت المصحات الخاصة في أفريل 2018 بالترفيع بنسبة 30 بالمائة في التعريفات التعاقدية للعمليات الجراحية بصفة أحادية، وقرر المجلس الوطني لعمادة الأطباء الترفيع في تعريفات العيادات والأعمال الطبية بمختلف اختصاصاتها بداية من جوان 2019 ثم تقرر مرة أخرى زيادة بداية من جانفي 2025.
و هددت الغرفة الوطنية لمصحات تصفية الدم بإيقاف الخدمات سنة 2022 بسبب ما أعلنت عنه من صعوبات مالية وتكاليف مرتفعة وخاصة عدم مواكبة تعريفات الصندوق الوطني للتأمين على المرض للكلفة الحقيقية، كما تم الاتفاق على الترفيع في التعريفة التعاقدية إلى 130 دينارا بداية من جانفي 2023. كما أن بعض مقدمي الخدمات يطالبون أحيانا المضمونين الاجتماعيين بتسديد الفارق بين التعريفات التي يعتمدونها والتعريفات المرجعية المتفق عليها مع الصندوق.
و تعتبر الزيادة في التعريفات بصفة أحادية أو المطالبة بتسديد الفارق مخالفة للاتفاقيات والقواعد العامة للقانون وللالتزامات وتعدّ مساسا بجوهر العلاقة التعاقدية القائمة على الشراكة والمسؤولية وقد تمس من الحق في الصحة المضمون دستوريا.
كما أن الترفيع في التعريفات يخالف أحكام القانون عدد 63 لسنة 1991 المتعلق بالتنظيم الصحي الذي ينص على أن قائمة الأعمال المهنية التي يقوم بها الأطباء وأطباء الأسنان والقوابل ومساعدو الأطباء تضبط بقرار من وزير الصحة العمومية وتحدد على أساسها التعريفات بتنسيق مع وزارتي المالية والاقتصاد الوطني والصحة العمومية.
إن تحميل بعض مقدمي الخدمات مسؤولية الصندوق الوطني للتأمين على المرض في الصعوبات المالية التي يمر بها بسبب التأخير في خلاص الأتعاب فيه مبالغة، ذلك أن المنخرطين في منظومة الطرف الدافع لا يمثلون سوى 18 بالمائة من جملة المنخرطين في منظومة التأمين على المرض مقابل 25 بالمائة في منظومة استرجاع المصاريف، إضافة إلى أن مقدمي الخدمات يتعاملون مع هياكل أخرى كالتعاضديات، وقد تكون الصعوبات مرتبطة بأحداث أخرى لا علاقة لها بمنظومة التأمين على المرض مثل قانون الشيكات الجديد وغيرها.
مسؤولية الصندوق
يشتكي الصندوق الوطني للتأمين على المرض من فقدان السيولة المالية حيث أن ديونه المتخلدة بذمة صندوقي التقاعد والحيطة الاجتماعية والضمان الاجتماعي ما انفكت ترتفع حتى وصلت مؤخرا إلى 10 مليار دينار. وقد مكّن القانون عدد 47 المؤرخ في 15 جوان 2017 المتعلق بتنقيح قانون التأمين على المرض لسنة 2004 الصندوق الوطني للتأمين على المرض من الحصول على الاشتراكات بعنوان نظام التأمين على المرض مباشرة من المشغلين التابعين للقطاع العمومي في حين لم يحصل نفس الشيء بالنسبة لاشتراكات المشغلين المنخرطين بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بسبب عدم إمضاء الاتفاقية بينهما التي نص عليها قانون 2017.
و يتحمل الصندوق المسؤولية في تردي العلاقة مع مقدمي الخدمات في التأخير الكبير في اعتماد البطاقة الذكية “لاباس” التي كان من المفروض أن تكون جاهزة منذ أكثر من عشر سنوات. ومن أهم إيجابيات البطاقة اعتماد التبادل الإلكتروني مع مقدمي الخدمات بما يحد من البطء المسجل في خلاص المستحقات. فقد وقع الاتفاق سنة 2019 مع الصيادلة على أن تكون الآجال 14 يوما على أمل إرساء البطاقة الذكية “لاباس” التي كان من المفروض أن تكون جاهزة في أجل استثنائي بـ 60 يوما غير أنها ما انفكت ترتفع حتى بلغت مؤخرا ستة أشهر. أما بالنسبة للأطباء فكانت الآجال التعاقدية 15 يوما وبصفة استثنائية 80 يوما بينما ارتفعت في الواقع إلى 144 يوما.
و يمثل هذا التأخير في خلاص أتعاب مقدمي الخدمات إخلالا صريحا بإجراءات والتزامات الصندوق المنصوص عليها بالفصل 10 من الأمر عدد 3154 لسنة 2005 المتعلق بضبط إجراءات إبرام الاتفاقيات المنظمة للعلاقات بين الصندوق الوطني للتأمين على المرض ومقدمي الخدمات الصحية والانخراط فيها.
كما لجأ الصندوق مرة أكثر إلى الحلول السهلة والتي كانت على حساب المضمونين الاجتماعيين. وهو ما حصل عندما قامت النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة على تعليق نظام الطرف الدافع وكان الحل بالنسبة للصندوق توجيه المضمونين الاجتماعيين إلى منظومة استرجاع المصاريف دون اعتبار لوضعهم الصحي وخاصة أولئك الذين لا قدرة لهم على دفع مصاريف العلاج مباشرة وبشكل فوري.
وفضلا عن ذلك فإن هذا القرار يعتبر رغم الإعلان على أنه مؤقت، غير قانوني لأنه يتنافى مع حق المضمون الاجتماعي في اختيار صيغة التكفل طبقا لما نص عليه الفصل 5 من الأمر عدد 1367 لسنة 2007 المتعلق بضبط صيغ وإجراءات ونسب التكفل بالخدمات الصحية في إطار النظام القاعدي للتأمين على المرض الذي يخول للمضمون الاجتماعي حرية ممارسة حقه في اختيار التكفل بمصاريف الخدمات الصحية الثلاثة أي المنظومة العمومية أو المنظومة العلاجية الخاصة ونظام استرجاع المصاريف.
و يتحمل الصندوق المسؤولية أيضا في القصور في القيام بالمراقبة الطبية لمقدمي الخدمات الصحية مما أدى إلى تفشي ممارسات غير قانونية من مقدمي الخدمات وخاصة فيما يتعلق بتجاوز التعريفات التعاقدية أو مطالبة المضمونين بمعاليم إضافية أو عدم إنجاز كل الفحوص أو الأعمال الطبية المتفق عليها مما يمثل خطرا على صحة المرضى من ناحية وهدر أموال الصندوق من ناحية أخرى.
مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية
لم تقم الوزارة وهي الوزارة المشرفة على الحوار الاجتماعي بموقف الهيكل التعديلي بين الأطراف المختلفة إذ أنها انحازت في أغلب الأحيان إلى جانب الصندوق متغافلة عندما رفض هذا الأخير تجديد بطاقات العلاج للمضمونين الاجتماعيين بدعوى عدم تصريح المشغلين بهم أو عدم دفع المساهمات المستوجبة. وهذه الممارسات لم تكن سوى شكلا من أشكال الابتزاز وتهديدا لحياة المضمونين الاجتماعيين وضربا للحق في الصحة المنصوص عليه في الدستور وفي المواثيق الدولية.
و في المقابل لم تمارس الوزارة الصلاحيات التي منحها إياها قانون نظام التأمين على المرض من المبادرة بتحديد آليات تكفل بالخدمات الصحية المسداة لفائدة منظوري الصندوق من قبل مختلف مقدمي الخدمات وذلك لضمان استمرارية العلاج.
غير أنه لا يمكن لا يمكن إنكار الإشكاليات القانونية التي تحول دون ممارسة الوزارة لصلاحياتها كاملة وهو ما يعود بالأساس إلى ممارسة تشريعات غير متناسقة مع التشريعات المنظمة لنظام التأمين على المرض وخاصة ما يتعلق بالعلاقة بين الصندوق الوطني للتأمين على المرض ومقدمي الخدمات ومن بينها القانون عدد 21 لسنة 1991 المتعلق بممارسة مهنة الطب وطب الأسنان والأمر عدد 1155 لسنة 1993 المتعلق بمجلة واجبات الطبيب اللذين يمنعان على الأطباء إبرام اتفاقيات فردية دون موافقة الهياكل المهنية.
و أخيرا فإن من مسؤولية الوزارة عدم دعوة المجلس الوطني للتأمين على المرض للاجتماع الدوري المنصوص عليها ضمن الأمر عدد 2192 المؤرخ في 9 أوت 2005 المحدث له حيث لم يعقد هذا المجلس سوى جلستين خلال عشرين سنة في حين يفترض دعوة الاجتماع مرتين في السنة كما لم تبادر الوزارة على الأقل لإعادة النظر في تركيبته بما يجعله ناجعا ويقوم بدوره.
الدور الاجتماعي للدولة
من البديهي أن مطالب مقدمي الخدمات في الحصول على مستحقاتهم مشروعة ومن الأكيد أن وضعية الصندوق صعبة لكن يبقى أكثر تضررا في هذه الأزمة وضعية المضمونين الاجتماعيين الذين ازدادت معاناتهم في الفترة الأخيرة بسبب توقف أصحاب الصيدليات الخاصة عن التعامل بمنظومة الطرف الدافع مع إمكانية التحاق أطباء الممارسة الحرة بهم.
و في هذا السياق وجب التذكير بأن نظام التأمين على المرض لم يصمم كآلية مالية صرفة، بل أداة هيكلية لتطوير العرض الصحي وتحسين النفاذ إلى الخدمات الصحية وضمان استمرارية العلاج مع التحكم في كلفة النفقات الصحية. وقد شكلت منظومة الطرف الدافع إحدى الركائز العملية لهذا التوجه باعتبارها آلية تضامنية تسمح بتجاوز العوائق المالية أمام المضمونين الاجتماعيين خاصة الفئات الهشة وذوي الأمراض المزمنة.
غير أن المشرع، وهو يقر مبدأ الانفتاح على القطاع الخاص، كان واعيا بإمكانية تعرض توازن المنظومة لاختلالات مالية أو ظرفية، لذلك أقر صراحة دور الدولة كضامن أخير لاستمرارية نظام التأمين على المرض. فقد خول الفصل 13 من القانون عدد 71 لسنة 2004 للدولة إمكانية التدخل عند الاقتضاء لضمان استمرارية العلاج، بما يؤكد أن ديمومة نظام التأمين على المرض لا تقتصر على العلاقة الثنائية بين الصندوق الوطني للتأمين على المرض ومقدمي الخدمات، بل تندرج ضمن مسؤولية عمومية أوسع تضطلع بها الدولة بصفتها راعية للحق في الصحة وضامنة للتضامن الاجتماعي.
و من آخر الإجراءات التي جسدت الدور الاجتماعي للدولة في مجال التأمين على المرض وفي القطاع الصحي ما ورد في قانون المالية لسنة 2026 من تمويل الدولة لاقتناء الأدوية الخصوصية غير المدرجة ضمن النظام القاعدي للتأمين على المرض ودعم مصحات الضمان الاجتماعي ومركز تقويم الأعضاء من خلال الإعفاء من الأداء على القيمة المضافة والمعاليم الديوانية للتجهيزات والمعدات والمواد التي ينجزها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لفائدة مصالحه ومركز تقويم الأعضاء.
اقتراحات حلول
في الختام يمكن تقديم بعض الاقتراحات على مستويات مختلفة :
أولا : حلول قصيرة المدى :
تسوية عاجلة للديون المتراكمة لمقدمي الخدمات عبر برنامج دفع مرحلي.
تفعيل لجنة مشتركة لمتابعة الخلاص وحل النزاعات الطارئة.
ضبط آليات مراجعة التعريفات التعاقدية لتفادي الترفيع الأحادي.
الإسراع في اعتماد البطاقة الذكية والتبادل الإلكتروني
لتقليص آجال الخلاص.
ثانيا : حلول متوسطة المدى :
مراجعة آليات التفاوض على الاتفاقيات القطاعية بما يضمن وضوح الالتزامات والمسؤوليات.
إنشاء آلية تحكيمية مستقلة للنزاعات المالية والتعاقدية.
ثالثا : حلول طويلة المدى :
تعزيز الشفافية والحوكمة في نظام التأمين على المرض عبر آليات رقابة داخلية وخارجية.
حماية منظومة الطرف الدافع وضمان استمرارية العلاج.
ربط الإصلاحات بتقييم دوري سنوي لتحديد نقاط الخلل واقتراح تعديلات تنظيمية.
إصلاح جذري وشامل لأنظمة الضمان الاجتماعي في القطاعين العمومي والخاص.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب
المصدر:
الرقمية