غالبًا ما تُقدَّم قيادة التغيير باعتبارها علمًا حديثًا، حكرًا على عالم الشركات والحكومات وخبراء الإدارة. غير أن الإسلام تناول هذا المفهوم بوضوح، ولكن من زاوية مختلفة، من خلال مبادئ إنسانية عميقة، في مقدمتها المسؤولية، والاستعداد، والتشاور، والصبر، والعدل، والثقة.
فالقرآن لا يقدّم «دليلًا إداريًا» بالمعنى التقني، لكنه يمنح ما هو أعمق من ذلك: إطارًا أخلاقيًا و نفسيًا لفهم تحوّل الفرد والمجتمع. وهي مبادئ تتقاطع، بشكل يثير الدهشة لدى البعض، مع العديد من المفاهيم التي تثبتها اليوم علوم النفس الحديثة وعلوم السلوك.
يضع القرآن مبدأً أساسيًا مفاده أن التحوّل الجماعي مرتبط بتحوّل داخلي فردي.
سورة الرعد (13:11)
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
المعنى: إنّ الله لا يغيّر حال قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
تؤكد هذه الآية فكرة مركزية في علم النفس: التغيير المستدام نادرًا ما يكون نتيجة الإكراه، بل ثمرة الاقتناع الداخلي.
التغيير لا يتحقق بالشعارات وحدها، بل يتطلب استعدادًا وقدرات وجهدًا منظمًا.
سورة الأنفال (8:60)
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
المعنى: وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة.
يتقاطع هذا المبدأ مع رؤية حديثة مفادها أن نجاح أي تحول مرهون بتوفر الموارد والكفاءات والأدوات وخطة العمل. وهو ما تعبّر عنه المؤسسات اليوم بمفاهيم مثل «التخطيط»، و«بناء القدرات»، و«الوسائل»، و«خارطة الطريق».
أما القرآن، فيؤكد بوضوح: لا تغيير جادًّا من دون استعداد حقيقي.
قيادة التغيير ليست مسألة تقنية فقط، بل تتطلب شجاعة وقرارًا وثقة.
سورة آل عمران (3:159)
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ
المعنى: فإذا عزمت فتوكل على الله.
نفسيًا، يتوافق هذا مع دور الحسم والثقة في تجاوز التردد. فكثير من الإخفاقات لا تعود إلى غياب الرؤية، بل إلى التردد المزمن، والخوف من الخطأ، والسعي للكمال الذي يشلّ الفعل.
يمنح القرآن قيمة مركزية لمبدأ التشاور واتخاذ القرار الجماعي.
سورة الشورى (42:38)
وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ
المعنى: وأمرهم شورى بينهم.
في نظريات التغيير الحديثة، يُعدّ التشاور من أقوى الأدوات لمواجهة مقاومة التغيير. فحين يُفرض التغيير دون استماع، تتزايد ردود الفعل السلبية من خوف ورفض ومقاومة صامتة. أما عندما يُشرك المعنيون، فإنهم يتبنون المشروع ويفهمون أبعاده ويصبحون جزءًا منه.
وهو ما يكرّس قيمة إنسانية عميقة: الكرامة الجماعية. فأن تُستشار، يعني أن تُحترم.
يشدد القرآن على الصبر، لأن التغيير الحقيقي يحتاج إلى وقت.
سورة آل عمران (3:200)
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ ٱصْبِرُوا۟ وَصَابِرُوا۟ وَرَابِطُوا۟
المعنى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا.
وتؤكد الدراسات النفسية أن الفشل غالبًا لا يكون بسبب غياب الخطة، بل نتيجة الانسحاب عند أول عائق. فالتغيير يتطلب قدرة على التحمل العاطفي: التعلم، والتصحيح، والمحاولة من جديد.
يذكّر القرآن بقاعدة إنسانية عميقة: عدم تحميل النفس ما يفوق طاقتها.
سورة البقرة (2:286)
لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
المعنى: لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها.
وتتوافق هذه القاعدة مع حقيقة معاصرة مفادها أن الإرهاق يقتل التغيير. فحين تُستنزف الأفراد أو المؤسسات، تتجمد المبادرات أو تنهار.
التغيير السليم هو ذاك الذي يحترم الإيقاع القابل للاستمرار، ويتقدم بخطوات متدرجة.
لا ينفي القرآن دور الأزمات، بل يبيّن أنها قد تكون لحظات وعي وإعادة بناء.
سورة البقرة (2:155)
المعنى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات…
وتبيّن الدراسات النفسية أن كثيرًا من التحولات لا تبدأ إلا بعد صدمة أو أزمة: فشل، خسارة، أو اضطراب. فتتحول المحنة إلى محرك وعي وفرصة لإعادة رسم المسار.
يشير القرآن أيضًا إلى تداول الأحوال.
سورة آل عمران (3:140)
وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ
المعنى: وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وهي فكرة تتقاطع مع فهم حديث لديناميكية الدورات الاقتصادية والاجتماعية: فمراحل القوة والضعف تتعاقب، والحكمة تكمن في التعلّم والتكيّف وعدم الوقوع في وهم السيطرة المطلقة.
يُبرز القرآن قيمة المسؤولية حتى في أدق الأفعال.
سورة الزلزلة (99:7–8)
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
المعنى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
وهو من أقرب المفاهيم إلى علوم السلوك الحديثة: التغيير المستدام يُبنى بأفعال صغيرة متكررة ومنسجمة. فالأثر التراكمي غالبًا أقوى من الوعود الكبيرة غير المطبقة.
من خلال هذه الآيات، تتضح منظومة متكاملة ترى التغيير فعلًا قائمًا على المسؤولية، والعدل، والكرامة، والتشاور، واحترام القدرات البشرية. وهي قيم تتقاطع بقوة مع المبادئ الإنسانية المعاصرة: الحرية الداخلية، احترام الآخر، المشاركة، الصبر، والتماسك الاجتماعي.
وبهذا المعنى، فإن تصور القرآن للتغيير ليس خطابًا منغلقًا، بل رؤية منسجمة مع تطلعات الإنسان الحديث: النهوض دون إقصاء، والإصلاح دون قهر، والتقدم دون سحق.
كثيرون ينتقدون الإسلام انطلاقًا مما يُقال عنه أو مما يُلاحظ من ممارسات هنا وهناك. لكن عددًا كبيرًا ممن قرأوا القرآن بعمق، يقولون إنهم عاشوا تجربة مختلفة، اكتشفوا من خلالها نصًا متماسكًا ورسالة أخلاقية عالية المتطلبات.
تكمن قوة الإسلام في فكرة بسيطة: المعجزة ليست خفية، بل معروضة أمام البشر. فالقرآن، المتداول منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، لا يزال يُقرأ كنص ذي انسجام فريد. ومع تطور العلوم والمعرفة، يكتشف فيه البعض آفاقًا جديدة للفهم.
وسواء اتُّفق معه أو اختُلِف، تبقى حقيقة واحدة: القراءة الجادة تغيّر الرؤية، لأنها تستبدل الضجيج بالنص، والصورة النمطية بالفهم.
🕌 يمثل هذا النص بداية سلسلة مقالات تُنشر كل يوم جمعة، تسلّط الضوء على مسارات شخصيات معروفة اعتنقت الإسلام، وعلى العوامل الفكرية والروحية التي شكّلت لحظة التحول في حياتها، وغالبًا ما كانت الاكتشافات من هذا النوع في صلب تلك التجارب.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب
المصدر:
الرقمية