آخر الأخبار

كيف هزمت غزة أعتى جيوش الأرض؟

شارك

حين رأيت عشرات الآلاف من البشر يسيرون حفاة، فوق التراب المغبر، وسط مدينة مدمرة، شعرت بالخجل من كتابة أي شيء عن المكاسب، أو الخسائر الجيوسياسية للهدنة.

أدركت حينها أن البقاء حيا في غزة هو بحد ذاته انتصار.

أن تنجو بحياتك تحت وطأة الإبادة التي يرتكبها كيان قاتل يقصفك بأفتك الأسلحة، وأنت محاصر في بقعة صغيرة بلا ملاذ ولا مهرب، هذا انتصار قائم بذاته لمليونَي إنسان محاصر.

أن تتشبث بالحياة وأنت طفل أعزل، أو امرأة لا حول لها، أو رجل لا سلاح له، في أرض مطوقة بحرا وبرا، تتساقط القنابل على رؤوس أهلها، دون من يستجيب لاستغاثاتهم، هذا بحد ذاته معجزة.

أن تتشبث أمة ببيوتها التي تحولت إلى غبار، وقد نفيت قسرا مرة نحو الجنوب، ثم للمرة الخامسة نحو الشمال، يطلق عليها القناصون النار كي لا تأكل ولا تشرب وتموت على الطرقات، ومع ذلك تصر على العودة، هذا انتصار.

أن تبقى حيا في غزة، أن تظل موجودا، ألا تموت، هو انتصار لم يشهد له التاريخ مثيلا.

أن تصمد بلا سلاح، بلا خندق، بلا حماية، بلا حلفاء، بلا قطعة خبز، ومع ذلك تبقى واقفا، فهذا نصر أسطوري.

العالم بأسره شاهد مقاومة شعب يباد، يواجه أعتى جيوش العالم، المزود بأشد الأسلحة فتكا، هو جيش لا يعرف الرحمة.

في مذبحة جماعية يتفرج فيها "الأصدقاء" و"الأشقاء"، ودول تدعي التحضر، وجيران يتحدثون لغتك، ولا يحركون ساكنا، أن تسقط أرضا ولا تستسلم، هذا أيضا انتصار.

في أرض تمتلئ بجوارح تنتظر موتك، وذئاب وبنات آوى تترصدك بمخالبها الملطخة، أن تنجو بجراحك منها، فهذا انتصار.

لم أستطع أن أكتب عن بنود اتفاق وقف إطلاق النار، بعدما رأيت أمًّا وطفلها يحاولان العودة إلى بيت تحول إلى كومة حجارة في خان يونس.

لم أستطع أن أشرح لها المكاسب الجيوسياسية للاتفاق، وأنا أنظر في عينيها.

لم أقدر أن أقارن: "هل كسبت إسرائيل من هذا الاتفاق؟ وهل خسرت حماس؟".

إعلان

حين يعود شعب نُفي للمرة الرابعة من الجنوب، والمرة الخامسة إلى الشمال… يسيرون حفاة فوق طرق صارت صحراء، لم أعد قادرا على الكتابة عن مكامن الضعف والقوة في الاتفاق.

لأن عزيمة أولئك السائرين تحت لهيب الشمس، تذرو الريح غبارهم نحو البحر، لكنهم يصرون على العودة إلى ركام بيوتهم، هي بحد ذاتها انتصار.

في تاريخ الحروب، أول ما تستهدفه الدول هو إرادة المقاومة لدى العدو. لأن كل جيش وكل أمة تفقد الرغبة في القتال، محكومة بالهزيمة.

تخيلوا فلسطينيا فقد أبناءه، وأقاربه، ودمرت مدينته، وتهدم بيته، ولم يتبقَّ له شيء في هذه الدنيا، ومع ذلك لم تنكسر إرادته في القتال.

قتلوا أبناءه جوعا، لم يبقَ منه إلا العظم، لا يمتلك لقمة، ومع ذلك لم يستسلم، ولم يتخلَّ عن القتال.

ربما أعظم ما كان يمكن أن يفتك بإرادة القتال هو خيانة الأصدقاء. الدول التي سماها "شقيقة"، والشعوب التي اعتبرها "صديقة"، لم تطعمه خبزا، ولم تمد له يدا وهو يموت جوعا.

ومع ذلك، لم تهتز روحه، ولم يتراجع عن معركة البقاء.

وهذا بحد ذاته انتصار.

لم يشهد التاريخ مقاومة كهذه.

لم يعرف التاريخ أمة كهذه اختارت الموت بشرف، ورفضت الاستسلام لأعتى جيوش الأرض، المدججة بأشد أدوات القتل.

لذلك، فإن البقاء حيا في فلسطين هو انتصار.

حين يبقون على قيد الحياة، حين لا يغادرون أرضهم، حين يتشبثون بأيديهم بتلك التربة المغبرة اليابسة، فإنهم في الواقع قد هزموا أعتى جيوش الأرض.

اعذروني، لن أكتب عن "مكاسب وخسائر الواقعية السياسية" في اتفاق وقف إطلاق النار.

لأن البقاء في غزة انتصار، ولأن هذا الانتصار تحقق على يد شعب فلسطين الشجاع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا اسرائيل دونالد ترامب حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا