في تطوّر إعلامي أثار جدلا واسعا، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنّ أكثر من 100 طائرة مسيّرة تسللت إلى الأراضي الإسرائيلية عبر مصر خلال الشهر الماضي، بعضها كان محملا بالأسلحة الخفيفة.
هذه المزاعم طرحت تساؤلات متعدّدة: ما دوافع نشرها في هذا التوقيت؟ وهل تعكس بالفعل ثغرات في منظومة الدفاع الجنوبي لإسرائيل، أم أنها جزء من خطاب دعائي يهدف إلى تبرير خطوات عسكرية أو سياسية لاحقة؟.
الخبير العسكري والاستراتيجي المصري اللواء حاتم صابر، وخلال مداخلته عبر "ستوديو وان مع فضيلة" على سكاي نيوز عربية، قدّم قراءة معمّقة لهذه الادعاءات، واعتبرها امتداداً لسياسة إسرائيلية تقوم على تضخيم التهديدات الخارجية للهروب من أزماتها الداخلية وتغطية إخفاقاتها في الحرب على غزة.
الدعاية الإسرائيلية.. مسيّرات تهزّ القبة الحديدية
يرى صابر أنّ وصف إسرائيل لتسلل هذه المسيّرات وكأنها تهديد وجودي أمر مبالغ فيه ولا يستقيم مع الواقع العسكري.
وأوضح أن الحديث عن مسيّرات تحمل "10 بنادق آلية وعدد من المسدسات 9 ملم" لا يمكن أن يُصوَّر كخطر قادر على زعزعة منظومة دفاعية متكاملة مثل " القبة الحديدية" أو " مقلاع داوود"، فضلاً عن تهديد مفاعل ديمونة أو مقاتلات F-35 الشبحية.
استخدم الخبير العسكري تعبيراً ساخراً لتوصيف هذا الخطاب، قائلا إن إسرائيل، التي تصف نفسها بـ"الجيش الذي لا يُقهر"، تُظهر عقدة نفسية من الأسلحة الصغيرة، على غرار ما حدث في حرب أكتوبر حين سقط خط بارليف المنيع باستخدام خراطيم مياه. بالنسبة له، هذه الادعاءات ليست سوى "جعجعة فارغة" تخفي عجزاً عسكرياً وسياسياً، وتكشف هشاشة نفسية لدى المؤسسة الإسرائيلية تجاه أي تهديد غير تقليدي.
خلفية سياسية.. هروب إلى الأمام
يشدد صابر على أنّ توقيت هذه التصريحات ليس بريئاً، فهي تأتي بعد عامين من حرب طاحنة ضد حركة حماس في غزة، حرب لم تتمكن إسرائيل خلالها من تحقيق أهدافها المعلنة.
كل ما جرى، بحسبه، كان تدميراً شبه كامل ل قطاع غزة وقتل أكثر من 70 ألف فلسطيني بدم بارد، من دون أي مكاسب استراتيجية.
في هذا السياق، يرى الخبير المصري أنّ إسرائيل تحاول جرّ الجيش المصري إلى دائرة المواجهة، أو على الأقل اتهامه بالتقصير في حماية الحدود الجنوبية.
وهو ما ينسجم مع وصف الرئيس المصري لإسرائيل بأنها "العدو المحتل"، وهو توصيف اعتبره صابر دقيقاً في ضوء الممارسات الاستفزازية الإسرائيلية.
محور فيلادلفيا واتفاقية السلام
أحد المحاور الرئيسية التي توقف عندها صابر هو محاولة إسرائيل إيجاد مبررات لوجودها العسكري في " محور فيلادلفيا" على الحدود مع مصر، بما يتعارض مع اتفاقية السلام الموقّعة بين الجانبين.
وأكد أن مصر قامت بإغلاق الأنفاق بشكل كامل، بعد حرب طويلة ضد الإرهاب استمرت 10 سنوات في سيناء، وأقامت منطقة عازلة بإشراف مصري إسرائيلي. لكنه اتهم إسرائيل بأنها هي من سهّلت وصول معدات الحفر العملاقة إلى غزة، وأنها كانت على علم كامل بإنشاء شبكة الأنفاق التي وصلت أطوالها إلى نحو 500 كيلومتر، تسمح بمرور المركبات الثقيلة.
وبالتالي، فإن الحديث عن "ثغرات حدودية" هو في نظره محاولة مكشوفة لتبرير خرق إسرائيل للاتفاقيات، أكثر منه توصيفاً لواقع أمني قائم.
التهريب بين الواقع والدعاية
شبّه صابر قضية التهريب عبر المسيّرات بما يحدث على الحدود الأميركية المكسيكية، حيث تعترف واشنطن نفسها بعجزها عن ضبط التهريب بنسبة 100%.
ومن هنا، فإن تصوير عمليات محدودة الحجم وكأنها تهديد استراتيجي لدولة تمتلك قدرات نووية وجيشاً متطوراً يعدّ مبالغة سياسية متعمّدة.
وأكد أن مصر، بعد سحقها للإرهاب في شمال سيناء، أغلقت كل الأنفاق وأحكمت السيطرة على الحدود، وأن أي محاولات للتهريب التي قد تحدث تبقى محدودة النطاق ولا يمكن استغلالها ذريعة للتشكيك في الموقف المصري أو الزج به في أزمات إسرائيل الداخلية.
العقدة الإسرائيلية من «الأسلحة غير النمطية»
من أبرز النقاط التي شدد عليها صابر أنّ إسرائيل تُظهر حساسية مفرطة تجاه الأسلحة غير النمطية أو الصغيرة، وذلك لسبب نفسي أكثر منه عسكري.
وأشار إلى أنّ الجيش الإسرائيلي اعتاد على القتال من خلف التحصينات والجدران، وتفادى المواجهات المباشرة، ما جعله عرضة للارتباك أمام أي تهديد غير تقليدي.
وبالنسبة له، فإن الحديث عن "10 بنادق ومسدسات" وكأنها تهديد استراتيجي يكشف حجم المبالغة في الخطاب الإسرائيلي، ويدفعه إلى وصف هذه الادعاءات بأنها "تصريحات غير منطقية" و"ترهات سياسية" تهدف إلى تضليل الرأي العام الإسرائيلي وصرفه عن فشل الحكومة في غزة.
الأبعاد الداخلية.. نتنياهو والفساد
لم يغفل صابر الجانب السياسي الداخلي في إسرائيل، حيث ربط هذه الادعاءات بمحاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الهروب من ملاحقات قضائية بتهم الفساد.
برأيه، فإن اختلاق "قصص المسيرات" ليس سوى تكتيك سياسي يهدف إلى إطالة عمر الحكومة الإسرائيلية وإشغال الرأي العام بتهديدات خارجية بدلاً من التركيز على الأزمات الداخلية.
الموقف المصري.. رفض التهجير والتصعيد
ذكّر صابر بتصريحات الرئيس المصري التي أكد فيها أنّ الهدف الحقيقي من الحرب الإسرائيلية على غزة هو دفع الفلسطينيين إلى النزوح نحو الأراضي المصرية، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية من الداخل.
موقف القاهرة كان حاسماً في رفض هذا السيناريو، وهو ما يفسّر – برأي صابر – محاولات إسرائيلية متكررة لافتعال أزمات مع مصر من خلال قضايا جانبية مثل "المسيّرات المهرّبة".
الفعالية المحدودة للأسلحة الصغيرة
من الناحية التقنية، أوضح الخبير المصري أنّ الأسلحة التي قيل إن المسيّرات حملتها – من بنادق آلية عيار 7.62×39 بمدى مؤثر 400 إلى 600 متر، أو مسدسات 9 ملم – لا تمثل أي تهديد حقيقي لدولة تمتلك ترسانة متقدمة تضم صواريخ بعيدة المدى وطائرات شبحية ونظم دفاعية متطورة.
وبالتالي، فإن تصوير هذه الأسلحة وكأنها "تزلزل الأرض تحت مفاعل ديمونة" ليس سوى خطاب دعائي يستهدف إثارة القلق النفسي لدى الجمهور الإسرائيلي، وربما تمهيداً لتشديد القبضة الأمنية على الداخل والخارج.
التاريخ يعيد نفسه
أعاد صابر التذكير بتجارب سابقة تؤكد أنّ إسرائيل لطالما ضخّمت التهديدات غير التقليدية. ففي حرب أكتوبر، كان خط بارليف الذي رُوّج له باعتباره "مناعة مطلقة" قد انهار أمام أسلوب قتالي مبتكر باستخدام خراطيم المياه.
ومن هنا، فإن تضخيم تهديد المسيّرات لا يعكس واقعاً عسكرياً بقدر ما يعكس عقدة نفسية متوارثة داخل المؤسسة الإسرائيلية تجاه أي عنصر مفاجئ في القتال.
انعكاسات على الداخل الإسرائيلي
يحذر صابر من أن استمرار الحكومة الإسرائيلية في هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج عكسية، عبر دفع المجتمع الإسرائيلي نفسه إلى استحضار "عقدة الشتات".
برأيه، فإن تضليل الشعب بخطابات التهديد الوهمية قد يسرّع في فقدان الثقة بالمؤسسات ويدفع نحو تفكك داخلي.
بين الواقع والدعاية، يظلّ الموقف المصري ثابتاً: رفض التهجير، حماية الحدود، وعدم الانجرار إلى صراعات مفتعلة. أما الادعاءات الإسرائيلية، فهي – بحسب الخبير العسكري – "فقاعة هواء" أكثر منها تهديداً حقيقياً، ومحاولة يائسة لتغطية الفشل المستمر في غزة ومآزق السياسة الداخلية في تل أبيب.