آخر الأخبار

مرتزقة كولومبيا.. جيوش خفية تقاتل في حروب الآخرين

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

شهدت ظاهرة المرتزقة أو المتعاقدين العسكريين تصاعدا لافتا خلال السنوات الأخيرة، حيث تحول هؤلاء المقاتلون إلى جيوش رديفة أو وحدات صغيرة تقوم بمهام خاصة احترافية، وفي خضم هذا الصعود برز اسم كولومبيا كأحد أهم منابع تصدير هؤلاء المتعاقدين إلى البؤر الساخنة في مناطق مختلفة من العالم.

فمن هاييتي إلى أوكرانيا واليمن والسودان وغيرها تمتد لائحة دول ترك فيها هؤلاء المقاتلون المدربون والمحترفون بصماتهم، مدفوعين بحلم البحث عن ظروف اقتصادية أفضل من خلال العمل في هذه "المهنة" المحفوفة بالمخاطر.

صراع معقد وطويل

عاشت كولومبيا طوال عقود ممتدة صراعات مسلحة تشابكت فيها بنادق العديد من الأطراف، حيث تشير ورقة صادرة عن معهد لاودر التابع لجامعة بنسلفانيا الأميركية إلى أنه منذ اغتيال الزعيم الشعبوي خورخي إليسيير غيتان عام 1948 غرقت البلاد في صراع داخلي عنيف أودى بحياة 269 ألف شخص وخلّف 45 ألف مفقود و9.6 ملايين نازح.

وشهد الصراع -الذي يوصف بأنه الأطول من نوعه في نصف الكرة الغربي- تفاعلا معقدا بين مجموعة من القوى المسلحة، فإلى جانب الجيش الكولومبي برزت حركات ماركسية كحركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية ( فارك ) وجيش التحرير الوطني وحركة "19-إم".

وفي الطرف المقابل، تطورت الجماعات شبه العسكرية اليمينية -التي شكّلها الجيش في البداية كوحدات "دفاع عن النفس"- إلى كيانات شديدة القوة.

وشكّل توسع اقتصاد المخدرات منذ سبعينيات القرن الماضي نقطة تحول جديدة في مسار العنف في كولومبيا، حيث وفر مصدرا غزير التمويل للجماعات المسلحة.

وتشير تقديرات متحفظة منشورة على "إنسايت كرايم" -وهي مؤسسة بحثية وإعلامية معنية بالجريمة المنظمة وأمن المواطنين في الأميركتين- إلى جني مجموعة فارك وحدها 200 مليون دولار سنويا من تجارة المخدرات، مما أدى إلى تزايد أعداد المنتسبين إليها حتى بلغ عدد مقاتلي أحد أجنحة المجموعة قرابة 6 آلاف عام 2002.

إعلان

ولم يكن هذا التأثير السلبي الوحيد لتجارة المخدرات، حيث أنشأ أباطرة هذه التجارة مجموعات مسلحة خاصة بهم، ليزداد عدد الفاعلين، في مشهد يزداد بدوره تعقيدا ووحشية.

وفرض هذا الواقع الدامي وجود جهاز أمني وعسكري ضخم ومحترف للغاية، وتزايد عدد القوات المسلحة الكولومبية ليبلغ قرابة 250 ألف مقاتل يشكلون ثاني أكبر جيش في أميركا اللاتينية بعد البرازيل.

كما ساهم دعم واشنطن بمليارات الدولارات وببرامج تدريب وتمرين مشتركة مكثفة في صقل مهارات الجنود الكولومبيين، ليتحول وفقا لمعهد لاودر إلى "جيش يتمتع بأعلى مستويات الاحترافية والمهارة في أميركا اللاتينية".

مصدر الصورة المرتزقة الكولومبيون في أوكرانيا يتقاضون أضعاف ما يتقاضونه ببلادهم (غيتي)

فائض من البنادق الباحثة عن عمل

أدت مجموعة من العوامل إلى "إغراق" السوق الكولومبية بالمقاتلين السابقين، وتوضح ورقة تحليلية نشرتها مجلة "إيبيرو أميركانا" -التي يديرها المعهد النوردي لدراسات أميركا اللاتينية بجامعة ستوكهولم- أن عدد المسرحين من مليشيات "الدفاع عن النفس" شبه العسكرية بين عامي 2003 و2006 زاد على 31 ألف مقاتل.

وبينما تؤكد أرقام نشرتها وزارة الدفاع الكولومبية أن أكثر من 19 ألف من مقاتلي حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية انشقوا أو سُرحوا بين عامي 2017 و2022 نصت اتفاقية السلام المبرمة عام 2016 بين الحكومة والحركة المذكورة على تسريح وإعادة دمج 7 آلاف من مجندي الأخيرة.

ولم تطل تداعيات هذا الاتفاق مقاتلي فارك وحدهم، فمع الاستقرار الأمني تناقصت الحاجة إلى العدد الكبير من الجنود ذوي التدريب العالي، وتشير أرقام نشرتها "أسوشيتد برس" إلى أن ما يزيد على 10 آلاف يُحالون إلى التقاعد سنويا من القوات المسلحة الكولومبية.

ومع عجز الاقتصاد المحلي عن مواكبة هذه التحولات واستيعاب آلاف المقاتلين السابقين ضمن قطاعاته الإنتاجية المختلفة اتجه هؤلاء إلى العمل مع مؤسسات الأمن الخاص، وتحولت كولومبيا -وفقاً لورقة معهد لاودر- من مستورد للأمن الخاص خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته إلى مصدّر للمقاتلين إلى كل أنحاء العالم.

"المال يشتري كل شيء.. حتى الرجال"

وتُعد البطالة والبطالة الجزئية اللتان يعاني منهما الكثير من المقاتلين المسرحين محركا أساسيا وراء ظاهرة الارتزاق الكولومبي.

ويشير تقرير منشور في "نيويورك تايمز" في 2021 إلى أن العديد من قدامى المحاربين يواجهون في القطاعات المدنية بيئة عمل تتزايد صعوباتها نتيجة عوامل، منها الانكماش الاقتصادي الواسع وتداعيات جائحة "كوفيد-19".

كما تشير تقارير أخرى إلى أن المقاتلين الذين أنفقوا سنوات من أعمارهم في القيام بأدوار قتالية نخبوية يقعون تحت وطأة الإحباط الناتج عن شعورهم بأن خبراتهم القيمة للغاية لا تقابل بالتقدير الكافي في سوق العمل ولا توفر لهم فرصا مهنية لائقة، مما يجعل الاستجابة لدعوات الشركات الأمنية الخاصة وسيلة لا لتجاوز الضائقة المالية عبر الأجور المرتفعة، بل وسيلة لاستعادة الشعور بالهدف والهوية المهنية أيضا.

ومما يزيد المقاتلين الكولومبيين قيمة بمعايير السوق الأمنية العالمية تواضع أجورهم مقارنة بنظرائهم الغربيين، حيث يبين تقرير منشور على "سويس إنفو" أن الكولومبيين من قادة القوات الخاصة أو قائدي المروحيات في شركة بلاك ووتر يحصلون على مرتبات شهرية أقل بـ5 مرات من المبلغ الذي يتلقاه المتعاقدون الأميركيون، ولكنه يعتبر ثروة صغيرة بمعايير كولومبيا.

إعلان

وفي سياق الصراع الأوكراني، يذكر تقرير لأسوشيتد برس أن المرتزقة الكولومبيين يكسبون 4 أضعاف ما يكسبه ضباط الصف ذوو الخبرة في بلادهم.

فبينما يصل راتب الرقيب المتمرس في الجيش الكولومبي إلى 900 دولار يتقاضى المقاتل في أوكرانيا ما يصل إلى 3300 دولار شهريا، كما يحق له عند الإصابة الحصول على تعويض يصل إلى نحو 29 ألف دولار حسب شدة الإصابات، كما تستحق عائلته تعويضا قدره 400 ألف دولار إذا قُتل.

مصدر الصورة يتمتع المقاتلون الكولومبيون بخبرة كبيرة مما يجعلهم محط اهتمام دول وشركات أمن خاصة (غيتي)

ليس الاقتصاد وحده الملوم

وعلى أهميته، لا يعد الإغراء الاقتصادي الدافع الوحيد وراء تحول كولومبيا إلى "أكبر مصدّر للمرتزقة في العالم" وفقا لصحيفة إلباييس الإسبانية، حيث تشير بعض التحليلات إلى أن سنوات الصراع الطويلة نشرت ثقافة الحرب وطبّعت علاقة المجتمع مع العنف، وخفّضت درجة حساسيته تجاهه، مما فتح المجال لشبكات التوظيف لاستغلال هذا الإرث في استقطاب المحاربين السابقين إلى ساحات القتال الخارجية.

وتوضح لورا ليزارازو خبيرة الأمن القومي في شركة "كونترول ريسكس" جانبا آخر من أسباب ازدهار سوق المرتزقة في كولومبيا بامتلاكها واحدا من أكبر الجيوش وأفضلها تدريبا "لقد تدربوا على مبادئ مكافحة التمرد لمدة 60 عاما، وقد خاضوا معارك حقيقية، ولهذا السبب فإنهم مطلوبون بشدة من قبل الجيوش الأجنبية وشركات الأمن الخاصة".

وقد لعب ضعف البنية التشريعية في البلاد دورا مهما في تحول كولومبيا إلى "فردوس للمرتزقة"، فالتشريعات الوطنية لا تحتوي مواد قانونية صريحة تردع أو تحظر تجنيد أو إرسال المواطنين الكولومبيين للقتال كمرتزقة في نزاعات خارجية، حيث لم توقع بوغوتا على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم.

ومع تتالي سقوط المقاتلين الكولومبيين في الخارج تعالت الأصوات المنادية بضرورة اتخاذ خطوات جدية لإغلاق هذه الثغرة القانونية، وطلب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في مطلع أغسطس/آب الجاري من الكونغرس النظر بشكل عاجل في مشروع قانون يحظر المرتزقة، وهي دعوة تكررت في تصريح النائب أليربو أوريبي الذي أشار إلى أن أكثر من 15 ألفا من مواطنيه شاركوا في صراعات خارجية.

وأثرت البيئة الدولية المليئة بالصراعات بشكل مباشر في زيادة الطلب على المرتزقة الكولومبيين، إذ أدت الحروب المتعددة في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية إلى نشوء سوق عالمية واسعة تستقطب المحاربين الكولومبيين، حتى صرح المستشار الدائم للبنتاغون و وكالة المخابرات المركزية شون ماكفيت لموقع "لاتين أميركا ريبورتس" بأن المرتزقة الكولومبيين يمكن العثور عليهم "في أي مكان يوجد فيه سوق للصراع".

أهم شركات تجنيد المرتزقة الكولومبيين

مستفيدة من الفجوة القانونية الخاصة بعمل المرتزقة في كولومبيا ومستعينة بسلطان الإغراء المادي تنشط العديد من شركات الأمن العسكري الخاصة المحلية والدولية في تسهيل تجنيد ونشر المقاتلين الكولومبيين بمناطق النزاع المختلفة، ومن أشهر هذه الشركات:


*

بلاك ووتر

شركة أميركية للخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة تقدم خدمات أمنية تعاقدية للحكومة الفدرالية الأميركية والعديد من الدول الأخرى، وكذلك المؤسسات الخاصة والحكومية داخل أميركا وخارجها.

وتعد من الشركات الأمنية سيئة السمعة، لدورها في العراق وأفغانستان، فاضطرت إلى تغيير اسمها إلى "الأكاديمية".

ويوضح تقرير صادر عن الخارجية الأميركية إلى عملها المبكر في التدريب غير المرخص في كولومبيا في 2005، ويبدو أن نشاطها لم يتوقف منذ ذلك الحين.

وتشير العديد من التقارير إلى نشر شركة بلاك ووتر مرتزقة كولومبيين باليمن في 2015، كما اقترح مؤسس الشركة إريك برينس الاستعانة بآلاف منهم للإطاحة بالحكم في فنزويلا في 2019.

إعلان

وفي عام 2023 أكد فريق خبراء أممي معني بمراقبة حظر الأسلحة على الكونغو الديمقراطية أن برينس حاول التوسط في صفقة لنشر 2500 مرتزق من دول -بينها كولومبيا- في منطقة شمال كيفو الغنية بالمعادن، والتي مزقتها الحرب في البلاد.

مصدر الصورة إريك برينس مؤسس شركة بلاك ووتر في مؤتمر صحفي بعد عملية لمكافحة الجريمة في الإكوادور (الفرنسية)
*

وكالة الخدمات الدولية

تُعد هذه الشركة الكولومبية من أبرز الجهات الفاعلة في تجنيد الجنود الكولومبيين السابقين، أسسها ضابط سابق في الجيش الكولومبي يدعى عمر أنطونيو رودريغيز بيدويا، ويديرها حاليا العقيد المتقاعد ألفارو كيخانو.

ويشير تقرير منشور على موقع "لا سيلا فاسيا" الكولومبي إلى تجنيد الوكالة عددا كبيرا من الأفراد لمهام في الخارج، وغالبا ما يتم تضليل المجندين بشأن وجهتهم النهائية، حيث يتم إيهامهم بالعمل في وظائف أمنية وينتهي بهم الحال في ساحات الحروب.


*

سي تي يو سيكوريتي

شركة أمنية مقرها ميامي في الولايات المتحدة الأميركية، يذكر موقعها الإلكتروني أنها تقدم منتجات ومعدات أمنية عالية الجودة، وتوفر دورات وتراخيص، بما في ذلك ترخيص الأسلحة المخفية.

تورطت هذه الشركة في استئجار المرتزقة الكولومبيين لاغتيال الرئيس الهاييتي السابق جوفينيل مويس عام 2021.


*

لون ستار

تُدرج بعض المصادر هذه الشركة ضمن الشركات التي تقوم بتوظيف الجنود الكولومبيين السابقين للعمليات الخارجية.

أين ترك المرتزقة الكولومبيون بصماتهم؟

رغم المحدودية في الحجم والضحايا التي اتسمت بها عملية اغتيال الرئيس الهاييتي السابق جوفينيل مويس عام 2021 فإنها اكتسبت أهمية كبيرة مع تسليط الضوء على دور المرتزقة الكولومبيين في العملية.

ويشير موقع "لاتين أميركا ريبورتس" إلى أنه من بين أكثر من 40 مشتبها به ألقي القبض عليهم كان 18 منهم كولومبيين متهمين بالانتماء إلى فرقة مرتزقة، وقد حُكم في أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الضابط المتقاعد في الجيش الكولومبي جيرمان أليخاندرو ريفيرا غارسيا بالسجن المؤبد في سجن أميركي لدوره في عملية الاغتيال.

وشكّل اليمن ساحة نشاط أخرى للمرتزقة الكولومبيين، حيث ذكر ضابطان سابقان وخبير أمني لوكالة الصحافة الفرنسية أن نحو 300 قاتلوا الحوثيين في اليمن.

ولم تبخل السوق الكولومبية على أوكرانيا التي تورد تقارير مشاركة ما يتراوح بين ألف وألفين مرتزق كولومبي في معاركها، ويشير تقرير منشور على "راديو فرنسا الدولي" إلى اعتراف بوغوتا بمقتل 50 من مواطنيها في أوكرانيا.

وصرح الضابط في إدارة تنسيق شؤون الأجانب بالجيش الأوكراني أوليكساندر شاهوري لأسوشيتد برس أن جيش بلاده طور البنية التحتية للمجندين والمدربين والضباط العملياتيين الصغار الناطقين بالإسبانية.

وفي تقرير مطول لصحيفة إلباييس صرح مرتزق كولومبي غادر أوكرانيا بأنه يدرس الذهاب إلى "المشروع" في أفريقيا، و"الذي يحظى باهتمام كبير"، ويبدو أن المقصود هو الحرب السودانية المشتعلة منذ ما يزيد على عامين، والتي وثق مشاركة مرتزقة كولومبية في ساحاتها، ولا سيما في دارفور غربي البلاد، وقد ذكرت صحيفة "لا سيلا فاسيا" الكولومبية مشاركة عدد لا يقل عن 300 منهم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا