يتذكر بعض المشاركين في "عملية نقل الأطفال" أحداث تلك الأيام القليلة عندما اقتربت قوات فيتنام الشمالية من سايغون، وما حدث للأطفال بعد ذلك، هذا ما تابعه الكاتب نيك هيلدن في تقرير مطول لموقع الجزيرة الإنجليزي.
يقول الكاتب:
يوم 4 أبريل/نيسان 1975 كان يوما جميلا مشمسا في سايغون -التي ستُعاد تسميتها بُعيد ذلك لتصبح هو تشي منه- لكنْ ثمة عنفٌ واضطراب خيّما على الأجواء آنذاك، ف حرب فيتنام كانت قد دخلت أسابيعها الأخيرة، وقد حاصرت قوات فيتنام الشمالية المدينة، مُثيرة الفوضى في حين أن سكان فيتنام الجنوبية وحلفاءهم الأميركيين يسارعون لإجلاء من هم أكثر عرضة للانتقام.
سيُترك في النهاية عددٌ لا يُحصى من الناس، لكن أكثر من 100 ألف سياسي وعسكري وغيرهم من المرتبطين بالجانب الذي يخسر بسرعة سيُنقلون جوًا لإعادة توطينهم، ومن بين هؤلاء كان ثمة العشرات من الرضع والأطفال الأيتام، وكثير منهم من "الأميركيين الآسيويين" المولودين من علاقات بين أمهات فيتناميات وجنود أميركيين، والذين أصبح قدرهم الآن هو النقل إلى عائلات في الولايات المتحدة ودول أخرى حول العالم.
في إحدى الطائرات -وهي طائرة نقل عسكرية أميركية ضخمة من طراز "سي-5 إيه" (C-5A)- كتبت الملازمة ريجينا أون، الممرضة الجوية التي كانت على متن الطائرة، "وُضع كل اثنين من الأطفال على مقعد في مقصورة القوات". وأوضحت في كتابها "عملية نقل الأطفال.. مهمة منجزة" -الصادر عام 2015 بمناسبة الذكرى الأربعين للمهمة- أن الأطفال في مقصورة الشحن "وُضعوا على بطانيات ورُبطوا على الأرض بأحزمة نقالة وأشرطة تثبيت".
العديد من الأطفال سلمتهم شابات فيتناميات كن يبكين خوفا من احتمال التخلي عن أطفالهن الرضع "لغرباء وأجانب من بلد آخر، يتحدثون لغة لا يفهمونها".
بعد الساعة الرابعة مساءً بقليل، أقلعت الطائرة من مطار تان سون نهات وعلى متنها ما يقرب من 300 شخص، ولكن بعد دقائق فقط من الإقلاع تعطّلت أقفال منحدر التحميل الخلفي، مما تسبب في انفصال باب الشحن وانخفاض ضغط الطائرة وهي على ارتفاع 7 آلاف متر (23 ألف قدم) في السماء، نجت العقيدة وعضو طاقم الطائرة ريجينا أون بأعجوبة من السحب، وتتذكر لاحقًا رؤية زميلها "معلقًا بذراعه، وبقية جسده يتدلى في الفراغ".
تضررت أجهزة التحكم في الطيران بشدة، وبدأت الطائرة في الهبوط السريع. ومن الواضح أن الطائرة لن تتمكن من العودة إلى المطار، لذلك استهدف الطيارون حقل أرز قريبًا، وزادوا من سرعة المحرك لرفع مقدمة الطائرة قبل الهبوط.
عندما اصطدمت الطائرة بالأرض، انزلقت قبل أن تقفز عاليا كالحجر، ثم تصطدم بسدٍّ وتتفتت إلى أربعة أجزاء، تُقذف أون على طول المقصورة مُصابة بكسر في القدم وإصابات أخرى.
بمجرد أن تمكنت من الخروج، رأت أون "حطامًا في كل اتجاه". كان سطح الطائرة على بُعد 90 مترا منها ومقلوبا رأسا على عقب. تمكن زميلها المتدلي من الحفاظ على قبضته، وقد جبرت ساقه المكسورة واستعان بعكاز وأحزمة أمان قبل أن يسهم في عملية الإنقاذ.
تشكلت سلسلة بشرية وسط الدمار لنقل الأطفال الناجين إلى مروحيات الإنقاذ، وساعدت أون في نقل الرضع إلى بر الأمان حتى أغمي عليها. وفي وقت لاحق من ذلك العام، ستكون أول امرأة تحصل على جائزة تشيني، وهي ميدالية من سلاح الجو الأميركي للشجاعة والتضحية.
رغم جهودها وجهود الآخرين في ذلك اليوم، فإنه قتل 138 شخصا في حادث تحطم الطائرة، منهم 78 طفلا.
كانت هذه أول رحلة رسمية ضمن عملية "بيبيليفت" -وهي عملية أقرتها الحكومة الأميركية لإخلاء دور الأيتام في جنوب فيتنام-، وقد دفعت هذه الكارثة التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة هذه المهمةَ إلى دائرة الضوء الدولية، وفي أعقابها سجّل آلاف الآباء المحتملين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى لاستقبال أطفال متبنين، وتشتت الصغار -بعضهم أيتام الحرب، وبعضهم أبناء الجنود الأميركيين المهجورين، وآخرون تخلت عنهم عائلاتهم خوفا على سلامتهم- ليجدوا أنفسهم في منازل جديدة في بلدان بعيدة.
وفي النهاية، تم نقل أكثر من 3 آلاف طفل إلى الخارج على مدى 3 أسابيع. وفي حين أن إرث العملية أصبح موضع تساؤل في وقت لاحق عندما تبين أن بعض المتبنين لديهم آباء أو أقارب على قيد الحياة لم يوافقوا في الواقع على انتزاعهم، إلا أنه في الذكرى الخمسين لها هناك شيء واحد لا يمكن إنكاره، لقد أعادت هذه العملية تشكيل هويات وأسر المتضررين منها مدى الحياة.
وبناء على طلب منظمات تهتم بشؤون الأطفال في فيتنام، مثل وكالة هولت الدولية للتبني وجمعية أصدقاء أطفال فيتنام الخيرية وعدد من دور الأيتام الكاثوليكية ومنظمات أخرى، أعلن الرئيس الأميركي جيرالد فورد عن خطة لإجلاء المتبنَّين من سايغون في 3 أبريل/نيسان، أي قبل يوم من الحادث. وسرعان ما اتضح أن الجهود العسكرية ستكون بطيئة للغاية نظرًا لشح الموارد، فانضمت رحلات خاصة تُشغلها شركتا "بان آم" و"وورلد إيرلاينز" إلى الحملة.
ويقول فريدريك إم "سكيب" بيركل الابن، المدير الطبي لعمليات النقل الجوي التي لم ينشر عنها الكثير والتي نفذتها شركة "وورلد إيرلاينز"، للجزيرة "لم ينل من يستحقون التقدير ما ينبغي أن يمنح لهم ولن ينالوه أبدا"، في إشارة إلى العدد الكبير من الممرضات وأطقم الطائرات وموظفي الدعم الذين شاركوا في عملية النقل الجوي.
وبحلول وقت عملية "بيبيليفت" عام 1975، كان بيركل، البالغ من العمر 84 عامًا الآن، قد أكمل جولة قتالية في فيتنام كجزء من السلك الطبي، حيث أدار مستشفى في منطقة كوانغ تري، خط المواجهة الذي مزقته المعارك. ويتذكر بيركل: "جاء الناس من كل أنحاء شمال فيتنام الجنوبية لرؤيتي، ولم يكن أحد قادرا على رعايتهم.. كانوا أشخاصا رائعين. ضحكنا معا، ومزحنا معا. كانت الحرب مستمرة، لكننا لم نناقش هذا الجنون لأننا لم نستطع فهمه. لم يكن الأمر منطقيا، لكن كان علينا أن نعمل في بيئة غير منطقية".
بعد ذلك، التحق بيركل بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، لدراسة الصحة العالمية، وهو تخصص أصبح فيه مرجعا بارزا، وهناك تلقى مكالمة هاتفية تسأل عن الانضمام إلى فريق طبي تُشكّله شركة الخطوط الجوية "وورلد إيرويز"، للمساعدة في إجلاء الأيتام من سايغون.
يقول بيركل "قلتُ إن عليّ التأكد من أنني أستطيع التغيب عن دروسي". أخبر بيركل المتصل عليه بأنه سبق وأن أشرف على مستشفى في فيتنام، وأنه يتحدث اللغة، "فقالوا: يا إلهي! هل ستكون أنت المدير؟".
تم إرسال الفريق بسرعة إلى الفلبين حيث احتفظت الولايات المتحدة بقاعدة حيوية إستراتيجيا لأكثر من 70 عاما. كانت عملية بيبيليفت جارية على قدم وساق، ولكن أُبلغوا بأن مطار سايغون لن يستقبل طائرات مدنية بعد الآن. كانت القوات الفيتنامية الشمالية قد سيطرت بالفعل على شوان لوك، آخر خط دفاع قبل سايغون، على بُعد ساعتين فقط، وكانت العاصمة تتعرض لهجمات متقطعة.
يتذكر بيركل: "كان الجميع ينظرون حولهم والتفتوا إليّ وقالوا: أنت تعرف اللغة. هل أنت على استعداد للدخول؟ وكان ذلك في الواقع آخر شيء أردت القيام به، لأنني كنت أعرف أنه لو علمت زوجتي لرفضت". ووصف كيف "مرت بجحيم" عندما كان سابقًا في فيتنام بعد تلقيها تقارير كاذبة عن وفاته.
لكنه وافق على أي حال، واستمرت رحلتهم من الفلبين، ووصلوا إلى فيتنام في 26 أبريل/نيسان قبل 3 أيام من الرحلة الأخيرة للعملية و4 أيام قبل سقوط سايغون. أثناء اقترابه من مطار تان سون نهات، رأى بيركل صواريخ تتطاير في الهواء وهي تمر فوق حطام طائرة بيبيليفت الأولى.
يقول بيركل "كان الراديو يصرخ فينا: لا تهبطوا، لا تهبطوا. لم يكن الوضع آمنًا. هبطنا بصعوبة، وقد أسرعنا بكل ما لدينا من قوة لتجنب التعرض لإطلاق النار".
كانت سايغون قد اكتظت بملايين اللاجئين وقوات فيتنام الشمالية المتقدمة، واضطر بيركل الآن إلى التوجه إلى دور الأيتام المنتشرة في جميع أنحاء المدينة للعثور على الأطفال الرضّع والتحقق من قوائم أولئك المقرر رحيلهم.
يقول بيركل "ذهبت إلى حوالي 5 منها. لا أعرف كيف فعلت ذلك. لا أعرف كيف سُمح لي بذلك. من الواضح أن الفيتناميين الشماليين كانوا يعلمون بوجودي هناك وكانوا يلاحقونني وكان بإمكانهم إيقافي في أي وقت، لكنني أعتقد أنهم أرادوا معرفة الصورة الأكبر، وماذا كنت سأفعل بكل هذا؟".
طُلب من كل دار أيتام إحضار الأطفال إلى مطار تان سون نهات صباح اليوم التالي، وبمجرد وصولهم، وُزِّعوا على طائرتين. ووُضع الأطفال الأكثر حرجا -إذ كان سوء التغذية متفشيا بعد سنوات من الحرمان الذي سببته الحرب- في مقاعد الدرجة الأولى، بينما وُضِع حلٌّ مبتكر لتثبيت الرضّع في عنبر الشحن. يقول بيركل، مُشيرًا إلى صناديق الكرتون المُستخدمة لتنظيم الأوراق "كان لدينا صناديق ملفات، وصدق أو لا تصدق؛ فقد كانت رائعة لوضع الرضيع فيها وهو مستلق على ظهره. كانت الطائرات من طراز سي 130 (C-130) التي تُفتح من الخلف وتحتوي على أحزمة، وكانت الصناديق تحتوي على ثقوب للإمساك بها، لذلك قلتُ لهم أن يضعوا الأحزمة من خلال الثقوب ويصفّوها حتى النهاية. لقد أدخلنا أكبر عدد ممكن، على الجانبين وبعضها فوق بعض".
تم وضع أكثر من 300 طفل، معظمهم من الرضع والأطفال، على متن الطائرة. وكان هناك أيضا عدد من البالغين الفيتناميين، وأميركي "هادئ وواثق من نفسه"، قال لبيركل "الحمد لله، كنا ننتظرك. أنا من وكالة المخابرات المركزية . هؤلاء الأشخاص تابعون لنا وعلينا إخراجهم".
ولم يهدأ الوضع بعد ذلك، فقبل الإقلاع بقليل، تم اكتشاف مخرب فيتنامي ومُنع من وضع قنبلة على إحدى الطائرات، وفي لحظة ما، بدأ الطيار بالتقيؤ، موضحًا أنه "لا يطيق رؤية الأطفال المرضى". ثم، عندما أقلعت الطائرة أخيرا بسرعة "بزاوية 90 درجة.. كل ما استطعنا رؤيته هو السماء الزرقاء والمحركات تهدر"، بدأ زجاج قمرة القيادة الأمامي يتشقق تحت الضغط. ولكن في النهاية، وصلت الطائرتان إلى بر الأمان في قاعدة كلارك الجوية في الفلبين، على بُعد حوالي 3 ساعات.
يضحك بيركل قائلا "لم أنم على الإطلاق". قضى 3 أيام في إعداد الفريق، وجمع الأيتام، والتحضير للرحلة، "لذا كنت منهكًا للغاية".
وهناك، نُقل الأطفال إلى طائرة بوينغ 747 واحدة، نقلتهم إلى سان فرانسيسكو، حيث تردد مسؤولو الصحة العامة في البداية في السماح للأطفال بالنزول من الطائرة خوفًا من احتمالية انتقال العدوى. لكنهم رضخوا في النهاية، وسُمح لبيركل بالعودة إلى منزله في أوكلاند، ولكن ليس قبل أن "يقول أحد من وزارة الخارجية: لا يجوز لك التحدث مع أي شخص عن هذا الأمر على الإطلاق. هذا لم يحدث".
استقبلته زوجته من المطار، ونام أخيرا قبل حضور المحاضرة في صباح اليوم التالي "لم يكن أحد يعلم شيئًا عما كنت أفعله خلال الأيام الأربعة الماضية".
واصل بيركل مسيرته المهنية المرموقة في مجال الطب العالمي، وكثيرا ما اختير لتقديم تقييمات للأزمات الصحية في مناطق الحرب والكوارث الأخرى في أماكن مثل ميانمار والصومال والعراق. في حالة العراق، عُيّن أول وزير صحة في سلطة الائتلاف المؤقتة من قِبل الرئيس جورج دبليو بوش عام 2003، لكنه أُقيل على الفور بعد أن اعتبَر بيركل أن البلاد في حالة طوارئ صحية عامة بسبب البنية التحتية الصحية المدمرة.
ويوضح قائلا "لم أستمر طويلا لأنني أعلنتُ أن ما يفعله بوش كان خطأً، وكان عليهم إعلان العراق حالة طوارئ صحية عامة وإلا سيفقدون الكثير من الأرواح. لم يُعجبهم ذلك، لذلك تم الاستغناء عني وبالطبع، تحوّل الأمر إلى واحدة من أسوأ حالات طوارئ الصحة العامة على الإطلاق".
كان الرأي العام إيجابيا أثناء العملية وبعدها مباشرة، وكان هناك تأكيد عام على تحقيق نصر إنساني كبير. لكن سرعان ما طُرحت بعض جوانب ذلك موضع تساؤل.
وعلى الفور تقريبا، وردت تقارير عن احتجاج أمهات فيتناميات وأقاربهن على تسليم أطفالهن للرعاية دون إدراكهن أنه سيتم إجلاؤهم من البلاد. ولن يجتمع معظم هؤلاء المتبنَّين مع عائلاتهم لعقود، وبعضهم لم يحظ بفرصة الاجتماع معهم على الإطلاق.
ثم ظهرت مشاكل في عملية التبني نفسها. فبينما وفرت بعض الوكالات منازل للأطفال في ظروف تبني طبيعية إلى حد ما، جُمِع الأطفال الذين لم يُوَفَّر لهم مكان في سان فرانسيسكو، حيث قال مترجم فيتنامي لاحقًا إن الآباء الطامحين كانوا ينتقونهم "كجراء صغيرة". كان لدى العديد منهم أوراق غير واضحة أو مزورة أو لم تكن لديهم أوراق أصلا، مما جعل تحديد هويتهم صعبا وعقّد الجهود المستقبلية لإعادة التواصل مع عائلاتهم الأصلية.
وفي بعض الحالات، وُضع الأطفال في منازل مع أشخاص غير مؤهلين تمامًا لأن يكونوا آباء. لاحقا، وردت تقارير عن إساءة معاملة وإهمال وعنصرية. لكن وصف عملية "بيبيليفت" بأنها إما خيِّرة تمامًا أو ضارة بطبيعتها سيكون غير دقيق. وكما أوضح العديد من المتبنين، كان الواقع أكثر تعقيدًا بكثير.
في السنوات التي تلت ذلك، لم يحتفظ المُتبنَّون -الذين يقيم معظمهم الآن في الولايات المتحدة، وبعضهم في أستراليا وأوروبا- إلا بذكريات قليلة عن فيتنام.
يقول سول تران كورنوال، الذي تخلى عنه والداه الفيتناميان في دار أيتام هولت بعد ولادته بفترة وجيزة عام 1972 "عندما كبرت، أردتُ فقط أن أكون ذلك الفتى الأميركي الأصيل. أردتُ أن أندمج وأن أكون مشهورا. لم أكن أعرف معنى الاندماج ، لكن هذا ما كنتُ أصبو له.. كنتُ أعرف أنني من فيتنام وأنني مُتبنّى، لكنني لم أستكشف التراث الثقافي لذلك حقا".
كان أوكسلسون، المولود عام 1971 لأم فيتنامية وجندي أميركي من أصل أفريقي، مرّ بتجربة مماثلة في وقت مبكر، "كنتُ سبّاحا أميركيا أصيلا. لم أكن أسود أو آسيويا أو أبيض. كنت سباحا. هكذا رأيت الأمر". ولكن بمجرد تخرج أوكسلسون من الجامعة، ظهرت أسئلة جديدة حول هويته "يا إلهي، لم أعد سبّاحًا تنافسيًا ولن أكون كذلك أبدًا، فمن أنا إذًن؟".
خلال سنوات دراسته الثانوية، كان يحلم بالوصول إلى الأولمبياد، حيث -ربما- سيتعرف عليه والداه الحقيقيان. الآن وقد انتهى من السباحة، بدأ يفكر جديا في البحث عنهما.
كما اتضح، كان والداه بالتبني يدخران المال لسنوات لمثل هذا الاحتمال، وفي أواخر التسعينيات، وبينما كان يقترب من سن الثلاثين، ذهبوا إلى فيتنام كعائلة حيث زاروا دار أيتام القلب المقدس في مدينة دا نانغ.
كانت تلك إحدى المرات الأولى التي يعود فيها متبنّى مع عائلته التي تبنته، بالنسبة لأوكسلسون -الذي يبلغ الآن 53 عامًا- كانت هذه تجربة قوية.
يقول الرجل "التبني أشبه بقصة تُروى لك ولم أمعن النظر في ذلك إلا عندما التقيت بأشخاص كانوا هناك منذ البداية، يا إلهي، القصة التي رُويت لي لسنوات حقيقية!. كان من المذهل رؤية اسمي مكتوبا في السجل. لن أنسى أبدا الرقم 867، وكان يحمل اسمي الكامل عند الولادة، وتاريخ ميلادي، وتاريخ مغادرتي دار الأيتام".
ولكن في ذلك الوقت، كان هذا كل ما وصل إليه في بحثه. سيستغرق الأمر أكثر من عقد قبل أن يتواصل أخيرا مع عائلته الأصلية.
كان لكورنوال طريق طويل مماثل للعثور على عائلته هو الآخر.
لم يتمكن من فعل شيء إلا بعد دراسته الجامعية (وبعد فترة وجيزة من عمله لمدة عامين في خدمات ما بعد التبني في هولت – الوكالة ذاتها التي بدأت فيها رحلته كطفل رضيع) حيث تواصل مع اللاجئين الفيتناميين والآسيويين، مما دفعه إلى التعمق في تراثه.
لذا في عام 2000، وفي سن الـ28، احتفل بالذكرى الخامسة والعشرين لعملية "بيبيليفت" بالانضمام إلى جولة "هولت ماذرلاند" عبر فيتنام. ومع ذلك، بدت زيارة فيتنام بالنسبة له كرحلة سياحية عادية، إذ لم يشعر بأي صلة بالبلاد، وباءت مساعيه المبكرة للعثور على عائلته بالفشل.
بعد 16 عاما، عاد إلى فيتنام، هذه المرة مع والد زوجته، الذي خدم في الحرب. و"كان ذلك رائعا حقا، إلا أنني بحلول عام 2016 كنت قد انتهيت من فيتنام نوعا ما". لقد زارها 3 مرات، ولم تكشف عمليات البحث عبر الإنترنت والحمض النووي عن غير بعض الأقارب البعيدين.
ولكن في عام 2022، تلقى رسالة على فيسبوك من زميلته المتبنّاة تريستا غولدبرغ، مؤسِّسة "عملية لم الشمل"، وهي منظمة بالشراكة مع "فاميلي تري دي إن إيه" تعمل على مساعدة المتبنَّين الفيتناميين على إعادة التواصل مع عائلاتهم الأصلية.
جاء في رسالتها "لا بد أنك سترغب في الإصغاء لهذا، لدينا بعض الأخبار". يبدو أنهم وجدوا والده. بالنسبة لأوكسلسون، كان للحمض النووي دور كبير أيضا، إذ ربطه بشخص تبين أنه ابنة أخ، وتبيّن أن جدته هي والدته.
عاد الرجلان إلى فيتنام حيث التقيا بأقاربٍ مختلفين: أبناء وبنات إخوة وأخوات، وخالات وأعمام، وأشقاء، وفي حالة أوكسلسون، والدته. وكما قال أوكسلسون، فقد منحه هذا اللقاء في النهاية شعورًا بأنه "صعد قمة الجبل. بالنسبة لي، هذا ما شعرت به، فهذه إحدى تلك الإنجازات العظيمة التي تُخلّد في الذاكرة".
واصل كورنوال بناء علاقته بعائلته الأصلية، وواصل أوكسلسون البحث عن والده، متتبعا في النهاية الأدلة إلى أورانجبورغ، ساوث كارولينا.
يقول "نحن قريبون. في الواقع، تعتقد عالمة الأنساب أنها تعرّفت على جدتي أو جدة جدتي". وبينما يُقرّ بأن هناك دائما احتمالا لطريق مسدود آخر، إلا أنه متفائلٌ ولا يثنيه شيء. "أعتقد أن بحث الإنسان عن هويته قد يستمر مدى الحياة".
كورنوال في طفولته، يحمل لافتة تحمل اسمه وتاريخ ميلاده في دار الأيتام التي تم إجلاؤه منها (بإذن من سول تران كورنوال)تقول عالمة الأنساب تريستا غولدبرغ، التي ساعدت عددا لا يحصى من المُتبنّين في بحثهم عن عائلاتهم وتراثهم "لقد مرت 50 عاما. إنه أمر مثير للدهشة. أعتقد أن هناك أمرا مهما لا يدركه الإنسان إلا مع تقدّمه في العمر، وهو أن جذورك مهمة حقا سواء كنت متبنى أم لا".
ولدت غولدبرغ عام 1970 لجندي أميركي وأم فيتنامية، ونجحت في العثور على والدتها عام 2002، وتعلّمت الكثير خلال هذه العملية عن التحديات العملية والعاطفية التي انطوت عليها "بعد بحثي الخاص، وصلت إلى قناعة بأن المتبنين الآخرين قد يحتاجون إلى مساعدة".
استعانت غولدبرغ في بحثها برابط فريد ببلد والدتها الأصلي. فقبل إرسالها إلى الخارج في سن الرابعة، عاشت مع عائلة فيتنامية حاضنة، ترك والدها رسالة بين أغراض غولدبرغ، اكتشفتها لاحقا والدتها الأميركية بالتبني. تواصلت العائلتان طوال الحرب.
تشرح غولدبرغ قائلة "نشأتُ مع عائلتي الفيتنامية بالتبني، وتعرّفتُ على الكثير من الثقافة الفيتنامية التي لا يطّلع عليها معظم المتبنّين. نشأت مع العادات. تمكنت من الاحتفال بأعياد تيت (رأس السنة الفيتنامية). لذلك عندما عدت إلى فيتنام، لم يكن الأمر لغزًا. لقد كان في دمي بالفعل".
كورنوال كشخص بالغ، اليوم (بإذن من سول تران كورنوال)والأهم من ذلك، أن والدها بالتبني كان لا يزال لديه شقيق في فيتنام تمكّن من المساعدة في البحث عن والدتها الحقيقية. ومن خلال هذا الاتصال ومساعدة والدها بالتبني المحقق الخاص، اكتشفت غولدبرغ أن عائلتها الفيتنامية انتقلت إلى الولايات المتحدة في عام 1991، وبفضل أداة ناشئة تسمى الإنترنت، تمكنت من تعقب شقيقها الذي يعيش في ولاية كانساس في عام 2000.
أصبحت غولدبرغ بارعة في البحث على الإنترنت و"إجراء مكالمات هاتفية عشوائية مع أشخاص فيتناميين، مع الكثير من عبارات "سأتصل بك مرة أخرى لأنني لا أفهم اللغة". وقد عززت جهودها البحثية مع إدخال اختبار الحمض النووي، مما أدى إلى شراكتها مع شركة "فاميلي تري دي إن إيه" المتخصصة في الأنساب الوراثية. "كنا في الواقع المجموعة التجريبية لاختبار الحمض النووي الصبغي الجسدي [وهو شكل من أشكال اختبار الحمض النووي الذي يمكن من إثبات النسب]، والذي أصبح منتشرا في كل مكان الآن".
ومنذ ذلك الحين، ساعدت غولدبرغ عددا لا يحصى من المتبنين على إعادة التواصل مع عائلاتهم الأصلية.
تقول "لا أقوم بالعمل نيابة عنهم، بل أرشدهم فقط إلى الطريق الصحيح. أعتقد أن هذه طريقة أفضل للتعامل مع لمّ الشمل، لأنه في بعض الأحيان، إذا أُلقي بك تلقائيًا في لمّ الشمل دون بذل جهد حقيقي خلال العملية، فإنك تفوّت بعضا من جماله. أُشيد بشجاعتهم، لأنها رحلة غير مخطط لها حقا". الآن، بمناسبة مرور 50 عاما على عملية بيبيليفت ونهاية الحرب، تحتفل غولدبرغ وأوكسلسون وكورنوال وعشرات المتبنين الآخرين بحضور سلسلة من الفعاليات في الولايات المتحدة وفيتنام.
"لقد كانت مهمة إنسانية حقًا"، كما يؤكد أوكسلسون عندما سُئل عن الانتقادات التي وُجهت لعملية بيبيليفت على مر العقود "ربما تجد توجها سياسيا يدعم هذا، لكن عندما تكون على أرض الواقع في خضم شيء كهذا، يكون الأمر مختلفا. أعتقد أن إنسانيتك الحقيقية تتجلى في ذلك".
"الخلاصة هي أن الأشخاص الذين أعرفهم ممن التقيتهم على مر السنين والذين شاركوا في هذا الجهد كانوا بشرًا طيبين يسعون إلى بذل قصارى جهدهم"، وفقا لأوكسلسون.