لا تصلح المسكنات والحلول الجزئية لإدارة الاقتصاد القومي، خاصة في حالة مصر لاعتبار مكانتها الإقليمية والدولية، وكذلك لاعتبار الاحتياج التنموي والاقتصادي، فقد بلغ الأمر أن أصبحت مشكلات مصر الاقتصادية مزمنة، وللأسف أصبحت إستراتيجية التعامل مع تلك المشكلات مجرد التعايش معها، وليس السعي لحلها جذريا.
وتعد قضية الدين العام في مصر الأبرز من بين مشكلاتها الاقتصادية -خاصة الدين الخارجي- لما لها من تبعات ترهق ميزان المدفوعات، وتمثل عبئا على سعر الصرف.
وحسب بيانات البنك المركزي المصري، فإن قيمة الدين الخارجي لمصر بلغت 155 مليار دولار في يناير/كانون الثاني 2025 بعد أن كانت 168 مليار دولار في الشهر المقابل من 2024.
وثمة رقم لا بد من الإشارة إليه عند الحديث عن ديون مصر الخارجية، وهو تعاملات الأجانب في أذون الخزانة الحكومية، والتي بلغت في آخر التقديرات نحو 40 مليار دولار، وهذا الدين يدرج في مكونات الدين المحلي، في حين هو مستحق لأجانب، ويتم إخراجه من مصر بالعملات الأجنبية وليس بالعملة المحلية.
وحسب النشرة الاقتصادية للبنك المركزي الصادرة في أبريل/نيسان الماضي، بلغت قيمة الدين الخارجي لمصر في يناير/كانون الثاني السابق عليه نحو 155 مليار دولار، منها ديون طويلة الأجل بقيمة 124 مليارا، وديون قصيرة الأجل بقيمة 30.9 مليارا.
وتأتي المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليان) في مقدمة الدائنين الخارجيين لمصر بنحو 46.1 مليار دولار، ثم السندات الدولية التي طرحتها مصر في الأسواق الدولية بنحو 27.2 مليار دولار، والودائع 16.5 مليار دولار، والقروض الثنائية 15.8 مليار دولار، ثم نادي باريس 10.5 مليارات دولار.
أما من حيث ترتيب الدول الدائنة لمصر فيشير تقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري عن الفترة من (يوليو/تموز إلى ديسمبر/كانون الأول 2024) الذي يصدره البنك المركزي إلى أن السعودية تأتي في المرتبة الأولى 13.9 مليار دولار، ثم الإمارات 11.3 مليار دولار، ثم الصين 8.6 مليارات دولار، والكويت 6 مليارات دولار، وروسيا 4.2 مليارات دولار، وأميركا 3.3 مليارات دولار، واليابان 2.6 مليار دولار، وفرنسا 2.4 مليار دولار، وألمانيا 2.1 مليار دولار، وبريطانيا 1.2 مليار دولار.
وفي تصريح لأحد كبار رجال الأعمال المصريين استبشر الرجل بأداء الاقتصاد المصري في النصف الثاني من العام الحالي فيما يتعلق بمعدل النمو وانخفاض معدل التضخم، وتمنى على الحكومة أن تخفض سعر الفائدة .
وأشار إلى أن المشكلة الباقية هي الديون الخارجية، وحلها -من وجهة نظره- بسيط، ويتمثل في طرح الأراضي المتبقية في الساحل الشمالي والبحر الأحمر بالدولار للمصريين والأجانب، وخصخصة الشركات المتأخرة في برنامج الخصخصة بمصر.
وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن هذا الحل يفترض أن مديونية مصر الخارجية شيء عارض، وأنه يمكن القضاء عليها مرة واحدة بعائد بيع الأراضي وحصيلة خصخصة الشركات، والحقيقة أن مشكلة مصر التمويلية أكبر من ذلك.
والحل المطروح سيجعلنا في متوالية لا نهائية تزيد الديون، فنلجأ إلى بيع الأصول، وهكذا، وذلك بسبب بنية الدين الخارجي المصري الذي تعتمد عليه الحكومة لمصدر للتمويل منذ سنوات، ولا يتضح من الأداء الحالي أن الحكومة سوف تستغني عن هذه الديون في الأجلين القصير والمتوسط.
وبعد الرجوع إلى بيانات قاعدة البنك الدولي وجدنا أن فجوة الموارد من النقد الأجنبي في مصر تتسم بالاستدامة، ففي السنوات من 2021-2024 تبين أن العجز في ميزان التجارة الخارجية لمصر في السلع والخدمات كان في حدود 37.1 مليار دولار و32.4 مليار دولار و8.9 مليارات دولار و26.6 مليار دولار على التوالي.
وتُظهر أرقام الموازنة المصرية فجوة تمويلية مزمنة تتفاقم عبر السنوات، ففي السنة المالية 2017/2016 سجل العجز الكلي نحو 379.3 مليار جنيه (21 مليار دولار)، وفي 2025/2024 ارتفع العجز الكلي إلى 1.31 تريليون جنيه (26.2 مليار دولار)، أما مشروع موازنة 2026/2025 فيقدّر العجز الكلي بنحو 1.49 تريليون جنيه (29.8 مليار دولار).
وهذا معناه أن الحكومة لن يكون لديها حلول لسد هذا العجز إلا اللجوء للديون المحلية والخارجية، وبالفعل تقديرات الموازنة لاحتياجات التمويل في نفس العام تقدر بنحو 400 مليار جنيه (8 مليارات دولار تقريبا)، وستسدد الحكومة قروضا خارجية في نفس العام بنحو 483 مليار جنيه (9.6 مليارات دولار تقريبا).
وثمة ملاحظة مهمة في أداء الاقتصاد المصري تتعلق بسلوك مصر منذ برنامجها للإصلاح الاقتصادي ومعاناتها من الديون في عام 1992/1991، فقد تم بيع العديد من الشركات وخصخصتها للمصريين والأجانب، ولكن مع ذلك ظلت قضية الديون كما هي.
نعم في عهد مبارك تم تحجيم الاقتراض من الخارج، لكن كان المخرج هو التوسع في الدين المحلي، ولذلك أصبح معضلة للحكومة، وفي الفترة من 2013 وحتى الآن تفاقم الدين المحلي وزادت أعباؤه، فاتجهت الحكومة للاقتراض من الخارج.
إذن، لم تسهم عمليات الخصخصة ببيع الشركات أو الأراضي بحل أزمة الديون المحلية أو الخارجية، فالمشكلة أن مصر لا تنتج بالقدر الكافي الذي يؤدي إلى استغنائها عن الديون.
يكمن الخلل في محاور عدة تخص التعامل مع الديون الخارجية، أولها ما يتعلق بالتصرف في حصيلة الديون، بإنفاقها في مجالات لا تتسم بتحقيق عوائد قادرة على سداد التزامات الديون الخارجية من أقساط وفوائد كما حدث في التوسع بمشروعات البنية الأساسية دون أن يرتبط ذلك بمخططات للتنمية العمرانية.
وفي الوقت الذي توسعت فيه مصر في مشروعات البنية الأساسية عانت من عجز في اقتصادها الإنتاجي، والذي ظهر في استدامة العجز الخاص بالتعاملات الخارجية من تجارة السلع والخدمات مع العالم الخارجي.
كما أن إدارة الديون بشكل عام والديون الخارجية بشكل خاص في مصر يتم التعامل معها في إطار ما تُعرف بـ"استدامة الدين" وليس خفض قيمة الدين، كما يتم التعامل مع الدين الخارجي من خلال مقولة إنه في الحدود الآمنة بنسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي .
وهنا لا بد من ملاحظة أن استدامة الدين لم تتحقق في أداء الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية، فاستدامة الدين تعني أن الدولة المدينة لا تمتنع عن سداد الدين أو طلب إعادة جدولته أو طلب الإعفاء منه.
وقد لمسنا مطالبة الحكومة المصرية غير مرة تجاه ديون دول الخليج التي حصلت عليها في عام 2015 وما بعده كودائع في البنك المركزي المصري، فتم طلب تأجيل سدادها، مع ارتفاع سعر الفائدة عليها.
والتعامل مع إدارة الدين يكبد الموازنة العامة تكاليف باهظة، ويشل يد صانع السياسة الاقتصادية تجاه التصرف في الإيرادات العامة، لتغطية مخصصات مهمة مثل الصحة والتعليم، فموازنة 2026/2025 تُظهر أن قيمة الفوائد بلغت 2.29 تريليون دولار، وبنسبة تصل إلى 50.2% من إجمالي المصروفات بالموازنة.
كما أشرنا في السطور السابقة إلى أن أكثر من 50% من مصروفات الموازنة موجهة للفوائد فقط فما بالنا لو أضفنا الأقساط؟ وبالتالي فالبحث عن مخرج يمثل ضرورة قصوى يتطلب إدارة أفضل تضع في الاعتبار تخفيض قيمة الدين لأقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي كمرحلة أولى، وإن استطاعت أن تخفض أكثر من ذلك فنعم الإدارة هي.
ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الأدوات والبدائل التي يمكن من خلالها التعامل بشكل أفضل من بيع الأصول (الأراضي والشركات)، والتي تتمثل في الآتي:
وختاما، تبقى الإشارة إلى ضرورة تبني إستراتيجية عامة للنهوض بالاقتصاد المصري تعمل في إطارها إستراتيجية التخلص من الديون الخارجية، ليعتمد الاقتصاد المصري على قواعد حقيقية من الإنتاج في قطاعات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا والبعد عن الأنشطة الريعية.