كان يوزف مِنْغِله طبيبا نازيا، أجرى تجارب سادية على اليهود في معسكر الإبادة أوشفيتس . وكان يُعرف باسم "ملاك الموت"، واشتهر بأفعاله الإجرامية التي ارتكبها باسم العلم.
وبعد انتهاء الحرب تمكن مِنْغِله من الإفلات من الاعتقال في ألمانيا والهروب إلى الأرجنتين بمساعدة زملائه السابقين في قوات الأمن الخاصة؛ الوحدة النخبوية للنظام النازي .
ومثل يوزف مِنْغِله، تمكن آلاف آخرون من الوصول إلى أمريكا الجنوبية، بدعم من المتعاونين والمهاجرين الألمان، الذين يتعاطفون معهم. وفي حالة الأرجنتين بمساعدة الرئيس خوان بيرون، الذي كان على صلة وثيقة بالفاشية الأوروبية.
هذه هي نقطة انطلاق فيلم "اختفاء يوزف مِنْغِله"، وعنوانه بالألمانية هو: "Das Verschwinden von Josef Mengele"، وهو فيلم درامي يتتبع الهروب الناجح لمجرم الحرب النازي؛ من بوينس آيرس عبر البرازيل إلى باراغواي.
الفيلم الناطق باللغة الألمانية من إخراج المخرج السينمائي والمسرحي الروسي كيريل سيريبريينكوف، وعُرض لأول مرة في مايو/ أيار في مهرجان كان السينمائي. وهو الآن معروض في دور السينما في ألمانيا.
يستند الفيلم إلى كتاب صدر عام 2017 وحصل على جائزة، وألّفه الصحفي والكاتب الفرنسي أوليفييه غيز. ويرسم الفيلم صورة قاتمة لأسباب وعواقب التطرف الأيديولوجي للنازيين.
تبدأ أحداث فيلم "اختفاء يوزف مِنْغِله" في عام 1956، حيث كان مجرم الحرب النازي يعيش في المنفى في بوينس آيرس تحت اسم هيلموت غريغور. لكن عملاء المخابرات الإسرائيلية ومسؤولين من ألمانيا الغربية ومطاردي النازيين كانوا يلاحقونه.
يُظهر الفيلم كيف ساعد المال والعلاقات والقدرة على التمويه أحد أكثر الرجال المطلوبين في العالم على الإفلات من العدالة الدولية لعقود. في نهاية المطاف، غرَقَ مِنْغِله (الذي يلعب دوره أوغست دِيل) في عام 1979 بسبب سكتة دماغية على شاطئ برازيلي.
بالإضافة إلى ذلك يكشف الفيلم كيف أن الرجل الذي أجرى تجارب وحشية على البشر في أوشفيتس لا يستطيع الهروب من ماضيه أبدا. يعيش مِنْغِله وحيدا ومريضا ومسنا تحت هوية مزيفة في ساو باولو عندما يعثر عليه ابنه رولف. ويريد رولف معرفة ما حدث بالفعل في المعسكر . بينما يطالب جيل جديد بالحقيقة لا يستطيع مِنْغِله سوى تكرار الأكاذيب الفاشية التي استخدمها لتبرير جرائمه.
الدكتور يوزف مِنْغِله (في الوسط) مع قائدي معسكر أوشفيتس ريتشارد باير (يسار) ورودولف هيس (يمين)صورة من: Public domain via Wikimedia Commons / Wikipedia"ماذا يحدث لمجرمي الحرب بعد انتهاء الحرب؟ هل هناك ما يسمى بالعدالة الإلهية؟ هل سيُحاسب هؤلاء الأشخاص في يوم من الأيام على أفعالهم؟" هذه هي الأسئلة التي ألهمت سيريبريينكوف لتحويل رواية غيز الواقعية إلى فيلم. تناول المؤلف في روايته طبيعة الشر. وقال سيريبريينكوف في مقابلة مع موزع الفيلم: "لطالما أثارت اهتمامي مسائل الكارما والعقاب والعدالة".
المخرج سيريبريينكوف، هو أحد منتقدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، وظلّ لسنوات تحت الإقامة الجبرية في وطنه. ويقوم سيريبريينكوف بتقريب المشاهدين عمدا من مِنْغِله؛ بهدف توضيح طريقة تفكيره الدوغماتية. وقد استلهم هذا النهج جزئيا من المفكرة اليهودية الألمانية الأمريكية هانّا أرنت. وفي سياق محاكمة مجرم النازية أدولف أيشمان الذي تمكنت المخابرات الإسرائيلية من تعقبه في الأرجنتين ، طورت أرنت نظريتها حول "تفاهة الشر". وحسب المخرج الروسي فإن هذه النظرية تقول إن "الوحوش لا تختلف عن البشر العاديين".
ويضيف سيريبريينكوف: "الهدف هو دعوة المشاهد إلى ارتداء قناع مِنْغِله ليفهم أن الطريق من الإنسان العادي إلى المجرم والسادي يمكن أن يكون قصيرا بشكل مخيف". ويضيف المخرج الروسي : "في عينيه لا يرى نفسه على الإطلاق تجسيدا للشر المطلق. كان هناك العديد من الأطباء الآخرين في أوشفيتس فلماذا يُحمل هو وحده المسؤولية؟". ويؤكد سيريبريينكوف أن هذا النهج لا ينبغي أن يثير أي تعاطف، ويقول: "من المستحيل أن يتعاطف المرء مع مِنْغِله".
استلهم سيريبريينكوف أيضا من رواية جوناثان ليتل "الطيبون" الصادرة عام 2006. في هذه الرواية يروي ضابط سابق في قوات الأمن الخاصة النازية يعيش حياة مريحة في فرنسا بعد الحرب عن أعماله الإجرامية على الجبهة الشرقية.
إلى جانب شخصيته المركزية يركز فيلم "اختفاء يوزف مِنْغِله " أيضا على شبكة من الأشخاص في أوروبا وأمريكا الجنوبية، قاموا بحماية مِنْغِله وتمويله وإخفائه حتى وفاته. ويقول سيريبرينيكوف: "الشر ليس مِنْغِله وحده، بل كل هؤلاء الأشخاص أيضا. وقد أفلت الكثير منهم من العقاب".
في فيلمه "اختفاء يوزف مِنْغِله"، يستكشف المخرج الورسي كيريل سيريبريينكوف "تفاهة الشر".صورة من: DWيقول سيريبريينكوف الذي يعيش حالياً في برلين إنه تعلم الكثير عن كيفية تصالح أجيال من الألمان مع التاريخ. ولهذا الغرض أجرى مقابلات مع ممثلين وصحفيين وأصدقاء ومنتجين للاستماع إلى قصص عن أجدادهم وحياتهم قبل الحرب وبعدها.
"كثيرون التزموا الصمت"، كما يقول. "إنه موضوع مؤلم للغاية. ولكن ربما يكون للفيلم القدرة على إثارة نقاش كبير. سيكون ذلك أمرا جيدا"، يضيف المخرج الروسي. ومع عودة ظهور الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم يهدف فيلم "اختفاء يوزف مِنْغِله" إلى تذكير المشاهدين بمخاطر الدوغماتية.
ويقول منتج الفيلم، فيليكس فون بوم: "نحن محاطون حاليا بأنظمة أيديولوجية قوية. آمل أن يساهم الفيلم بوصفه الدقيق لضيق الأفق الأيديولوجي في عدم انجرار الناس إلى أيديولوجيات من أي نوع".
أعده للعربية: م.أ.م/ تحرير: صلاح شرارة
المصدر:
DW