آخر الأخبار

أزمة ديموغرافية صامتة؟ مخاطر اتساع خريطة الشيخوخة في تونس

شارك
تزايد موجات الهجرة في تونس ينذر بتفاقم نسبة الإعالة وشيخوخة اليد العاملةصورة من: Soumaya Marzouki/DW

من أمام أحد شواطئ جزيرة جربة السياحية الشهيرة جنوب تونس، أين انتقلت للعيش مع زوجها الفرنسي وابنتها، لم تخف مباركة في مقطع فيديو مصور، استياءها من هجر السكان للمنطقة. ورغم سعادتها بقرار العودة، فهي تبدو قلقة لأنها تواجه مشكلة غير متوقعة.

تجد مباركة صعوبة بالغة لصيانة بيتها في الجزيرة السياحية بسبب نقص حاد في عدد العمال. وقالت بلهجة امتزجت فيها مشاعر الدهشة والاستياء: "كلما اتصلت بعمال البناء أو الدهان أو الكهرباء يفاجئونني بعدم قدرتهم على العمل بمفردهم، بسبب مغادرة مساعديهم للبلاد".

ليس في جزيرة جربة فقط، ففي أقصى جنوب تونس بولاية تطاوين وهي أكبر ولاية في البلاد من حيث المساحة، أصبح العثور على العمال الشباب في قطاعات عدة مهمة صعبة بسبب الهجرة المكثفة على مدار السنوات الأخيرة.

وبالعودة إلى عام 2022 وحده، غادر الولاية حوالي 12 ألف شاب ، وفق دراسة للباحث في علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، ما ألقى بظلاله على اقتصاد المنطقة التي تعاني أصلا من أعلى نسبة بطالة في تونس بأكثر من 32 بالمئة.

وما يضاعف المشكلة أمام تونس، هي نتائج المسح السكاني الأخير لعام 2024، والذي كشف عن ملامح تحول ديمغرافي حاد جراء مجموعة من العوامل، منها تأخر سن الزواج وتراجع نسب الخصوبة وارتفاع عدد المسنين بالإضافة إلى تزايد موجات الهجرة، ما ينذر بتفاقم نسبة الإعالة وشيخوخة اليد العاملة.

فهل تواجه تونس أزمة ديمغرافية حقيقية؟ وهل الدولة مستعدة فعلا لمواجهة تحديات مجتمع بدأ يشيخ في صمت؟

تونس، تونس العاصمة 2025 | قطاع السياحة يعاني من شيخوخة السكان والهجرةصورة من: Soumaya Marzouki/DW

من مجتمع فتي إلى مجتمع مسن

"كلما ازدادت الخيرات ازداد الأفراد فقرا وتعاسة.. لن نتمكن من توفير المدارس والمستشفيات والسدود ومواطن الشغل الكافية لسداد حاجيات المواليد الجدد..". وهو يلقي هذه الكلمات بحزم وحماس كبيرين في خطاب موجه للشعب في فترة الستينات، لم يكن يدرك الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة، أن مضي البلاد في سياسة تحديد النسل لسنوات طويلة سيجعلها تنتقل من مرحلة تحقيق الأهداف إلى مرحلة النتائج السلبية وتغير شكل المجتمع الفتي الذي بلغ متوسط العمر فيه 23 سنة في عام 1966 ليقفز إلى 35 سنة عام 2024، وفق آخر مسح سكاني للمعهد الوطني للإحصاء.

يكشف الواقع الديمغرافي الجديد عن تراجع مستمر في نسبة الأطفال ، حيث تبلغ نسبة من سنهم دون الخامسة من تركيبة السكان 5.9 % فقط، بينما كانت النسبة تتجاوز 18 % في عام 1966.

وما يعزز هذا التحول هو التراجع الكبير في نسبة الخصوبة في تونس على مدى نحو ستين عاما، من 7 بالمئة عام 1966 إلى 1.6 بالمئة عام 2023، مقابل معدل خصوبة عالمي عند 2.4 بالمئة عام 2024، وفق تقرير للأمم المتحدة.

وأدى تراجع الولادات إلى ارتفاع في نسبة السكان من فئة 60 سنة فما فوق إلى نحو 17% وزيادة في مؤشر الشيخوخة وصل إلى نحو 74 بالمائة سنة 2024، بعد أن كان عند 12 بالمائة سنة 1966.

تكشف هذه الأرقام عن تحولات ديمغرافية "مقلقة"، وفق توصيف الباحث السوسيولوجي ممدوح عز الدين لـDW عربية.

ويفسر الباحث أن تقلص الولادات وطول أمل الحياة في تونس جعلها "تمر اليوم بمرحلة الانتقال الديمغرافي الثانية، حيث يتحول الهرم السكاني إلى ما يشبه القُبة".

ويرى عز الدين أن هذا التحول لا يشكل مجرد معطى عددي، بل يعكس إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بأكملها، من أنماط الأسرة إلى علاقات السلطة الرمزية بين الأجيال.

الشيخوخة في الواقع اليومي

تقول الخالة زهراء (70 عاما) لـDWعربية وهي تستعد لتناول مجموعة من الأقراص التي وصفها الطبيب لأمراضها المزمنة: "أصبحت أسرتي قليلة العدد، بعد أن كنا ستة أفراد، أصبحت اليوم أعيش مع زوجي وابني العشريني العاطل عن العمل بعد أن هاجر ولدانا إلى الولايات المتحدة وفرنسا وانتقلت أيضا ابنتي الكبرى لبيت زوجها".

لقد تغيرت بنية الأسرة التونسية من النمط الممتد إلى الأسرة النووية (النواة)، وبدأت تبرز ظواهر مثل العزلة الأسرية، والتراجع في مكانة "الجد/الجدة" كمصدر للمعنى والمرجعية.

ويعتبر الباحث السوسيولوجي عز الدين أن هذا التحول يعبّر عن انتقال من نموذج "السلطة العمرية" إلى نموذج "الفاعلية الاقتصادية"، حيث يُقاس الدور الاجتماعي بمقدار القدرة على الإنتاج لا الحكمة أو التجربة.

ويستحضر الباحث في ذلك مقولات الفيلسوف وعالم الاجتماع أندريه غورز، الذي اعتبر أن الرأسمالية الحديثة تفرز ما يمكن تسميته بـ"اللاجدوى الاجتماعية"، وهي حالة يتم فيها تهميش فئات لا تنتج اقتصاديا، رغم امتلاكها لرأسمال رمزي وثقافي كبير. وفي ظل سيادة منطق النجاعة الإنتاجية، يصبح كبار السن بحسب تفسير غورز، عبئا بدل أن يكونوا موردا معنويا وثقافيا، وهذا ما يجعلهم عرضة للإقصاء الصامت.

بانتقال DW عربية إلى بعض مستشفيات العاصمة، (مستشفى حي الخضراء والرابطة وشارل نيكول تحديدا) لاحظنا أن النصيب الأكبر من المرضى هم من كبار السن الذين يتوافدون منذ الصباح الباكر بمفردهم لإتمام اجراءات التسجيل قبل الدخول الى العيادات.

تكلف خدمات الصحة والعلاج والرعاية مبالغ ضخمة لا تجد من يعوضها، في ظل تراجع القوة الشبابية النشطة وتنامي ديون الصناديق الاجتماعية. وبالتالي يزيد الارتفاع المستمر لنسبة الإعالة -التي وصلت إلى 28 بالمئة سنة 2024 بعد أن كانت عند 11.5 سنة 1966- من ارتفاع العبء على الدولة ما يؤدي إلى انخفاض ناتجها المحلي. وتشمل الإعالة كل الاشخاص غير العاملين الذين تقل أعمارهم عن 14 عاما والأشخاص الذين تبلغ أعمارهم فوق الـ65 عاما.

أسباب تغير التركيبة الديمغرافية

"يمكن للزوجين التمتع بحياتهما الزوجية دون أن يؤدي ذلك إلى إنجاب عدد كبير من الأطفال الذين قد يغرقون المركب". كان هذا التحذير المبطن يتردد على لسان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لدعم سياسة تحديد النسل، غير أن المركب اليوم يتهدده الغرق لغياب من يقوده من الشباب النشط والكادح .

وفي حين ينظر إلى سياسة تحديد النسل كسبب رئيسي ومباشر في تحول تركيبة المجتمع التونسي اليوم، فإن محمد الدوعاجي، الرئيس المدير العام للديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، يرجع انخفاض معدل الخصوبة إلى أسباب اخرى أيضا مثل ارتفاع نسق هجرة التونسيين إلى الخارج وارتفاع نسب الطلاق وانخفاض نسب الزواج.

ويقول ياسين ابن الخالة زهراء لـDW عربية: "هاجر شقيقاي وبقيت عالقا هنا في تونس لا أجد عملا ولا أستطيع اللحاق بهما ولا أقدر على ترك والدي لوحدهما وهما في هذا السن".

يتقاسم ياسين شعور الاحباط مع الآلاف من الشباب في تونس، اللذين اختاروا الهجرة بشقيها النظامي وغير النظامي، بحثا عن فرص افضل للحياة والعمل ومخلفين وراءهم مجتمعا مهددا بالشيخوخة.

ويقدر المرصد الوطني للهجرة عدد التونسيين المغادرين للبلاد سنويا بنحو 30 الف. وهنا يذكر الباحث عز الدين بتحذيرات السيوسيولوجي الألماني أولريش بيك، حول "مجتمعات الخطر"، حيث يصبح الخطر غير محسوس آنيا، لكنه يتسلل إلى البنية الاجتماعية بشكل تدريجي. وهذا يعني أن "الشيخوخة ليست أزمة لحظية، بل زلزال اجتماعي صامت".

تونس ـ يمكن أن يكون دمج كبار السن في سوق العمل أحد الحلول لمشكلة نقص العمالةصورة من: Soumaya Marzouki/DW

الخروج من النفق: هل فات الأوان؟

يتسبب تقدم السكان في السن في إضعاف التماسك المجتمعي ، فهو يهدد استدامة صناديق التقاعد ويعمق الفجوة بين الأجيال ويغلب منطق المحافظة على التجديد، مما يضعف بدوره قابلية المجتمع للتحول، وفق تحليل الباحث عزالدين.

لكن أزمة المؤسسات في تونس قد تصبح مضاعفة لأن الصناديق الاجتماعية تواجه أزمة بسبب تراكم العجز وتعثر سداد الرسوم المستحقة من المشتركين بجانب أزمة المالية العمومية. وتشير التقديرات إلى تجاوز العجز لعتبة مليار دينار تونسي (حوالي 300 مليون أورو) بالنسبة لـ"صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية" أحد الصناديق الثلاثة في تونس . كما أن نسبة التغطية للصناديق الاجتماعية لا تتجاوز 42 بالمئة من السكان في تونس، ما يضع عددا كبيرا من المسنين أمام مصير مجهول.

وفي مسعى للبحث عن حلول أكثر فاعلية لإدماج من هم فوق الـ 60 عاما، أكدت أسماء الجابري، وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، استكمال مشروع قانون يمهد لضمان أوسع لحقوق المسنين ووقايتهم من كافة أشكال التهديد وتيسير نفاذهم إلى الخدمات ودعم مشاركتهم وإدماجهم في المجتمع.

كما تقترح "الخطة التنفيذية" للحكومة في أفق 2030، برنامجا لحماية كبار السن من الفقر والهشاشة ومن الأزمات والأوبئة والتغيرات المناخية وتحسين نوعية حياتهم.

وتقول الدولة أيضا إنها وضعت خططا تهدف لدعم الأسر في رعاية كبار السن. لكن الباحث عز الدين يرى أنه لا وجود عمليا لاستراتيجية وطنية متكاملة تتعامل مع الشيخوخة كمكون سوسيولوجي له تبعاته الاقتصادية والرمزية، بل تُترك الأسر – وخاصة الفقيرة منها – لمواجهة عبء الرعاية لوحدها.

ويعتبر أنه رغم بعض المبادرات على مستوى الرعاية الصحية ومراكز المسنين، هناك غياب لسياسة ديموغرافية واضحة، وهو ما يعمق الوضع الهش لكبار السن، إذ تفضل الدولة التدخلات الظرفية عوض التخطيط الاستراتيجي المبني على قراءة علمية للتحولات السكانية.

وبدل ذلك يقترح الباحث التونسي صياغة "سياسة شيخوخة وطنية" تراعي الفوارق بين الجهات وإدماج المسنين في الاقتصاد الرمادي وإصلاح أنظمة التقاعد والرعاية الصحية لتكون أكثر عدالة وفتح الباب للمبادرات التطوعية وإعادة الاعتبار لدور المسن كفاعل ثقافي لا مجرد مستقبل للرعاية.

وتطالب مباركة أيضا في خطوة أولى، بعودة الجيل الاول الذي هاجر الى الخارج للمساهمة في البناء. ورددت في ندائها من جزيرة جربة "عودا أنتم إلى وطنكم وأهلكم واتركوا الشباب يبني مستقبله خارج البلاد".

تونس ـ سمية المرزوقي

تحرير: عادل الشروعات

DW المصدر: DW
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار