منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، فرض الغرب واحدة من أوسع حملات العقوبات الاقتصادية في التاريخ الحديث، استهدفت شلّ قدرة موسكو على تمويل حربها، وكبح طموحاتها العسكرية في أوروبا الشرقية.
واليوم، بعد أكثر من 3 سنوات ونصف من الغزو، يواصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تشديد القيود، عبر حزمة جديدة من العقوبات (الرقم 19 في سلسلة العقوبات) شملت أسطول النفط الروسي "الظلّي" وحظر واردات الغاز الطبيعي المسال.
ففي الساعات الأولى لغزو أوكرانيا، أعلنت واشنطن وبروكسل ولندن مجموعة عقوبات مالية وقطاعية غير مسبوقة.
فقد جمّدت أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، وأُقصيت كبرى المصارف الروسية عن نظام "سويفت" للتحويلات المالية العالمية. كما فُرضت قيود صارمة على صادرات التكنولوجيا المتقدمة، والطائرات، وقطع الغيار العسكرية، فيما جُمدت أصول وممتلكات عشرات "الأوليغارشيين" (الطبقة الثرية) المقربين من الكرملين.
وخلال عام 2022 وحده، أقرّ الاتحاد الأوروبي ثماني حزم متتالية من العقوبات، شملت النفط والفحم، مع استثناء مؤقت للغاز لتجنّب أزمة طاقة في أوروبا.
في المقابل، حاولت موسكو امتصاص الصدمة عبر رفع أسعار الطاقة عالمياً واستخدام صادراتها من الغاز كسلاح سياسي ضد العواصم الأوروبية.
ومع حلول عام 2023، بدأت العقوبات تُحدث أثرًا ملموسًا على الاقتصاد الروسي، رغم محاولات الكرملين التكيّف. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 2.5%، بينما فقد الروبل أكثر من 40% من قيمته أمام الدولار.
فوفقًا لتقارير صندوق النقد الدولي، تراجعت الاستثمارات الأجنبية إلى أدنى مستوياتها منذ التسعينيات، بينما تحوّل السوق الروسي إلى الاعتماد المكثف على الصين وتركيا والهند لتعويض الشركاء الغربيين.
في الوقت ذاته، لجأت موسكو إلى إنشاء ما يُعرف بـ"أسطول الظلّ" -وهو شبكة من ناقلات النفط القديمة المسجّلة تحت أعلام دول ثالثة- لتجاوز القيود المفروضة على تصدير النفط وسقف الأسعار الغربي البالغ 60 دولاراً للبرميل.
واليوم الخميس، أقرّ الاتحاد الأوروبي الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات ضد روسيا، والتي تستهدف الأسطول النفطي المموّه ومنع واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي (LNG) إلى موانئ أوروبا.
وقال وزير الخارجية الدنماركي لارس لوكه راسموسن، الذي أعلن عن القرار: "اليوم يوم جيد لأوروبا وأوكرانيا. لقد أقررنا تدابير جديدة وشاملة ضد النفط والغاز والقطاع المالي الروسي".
وتضمنت الحزمة أيضًا نظامًا لتقييد حركة الدبلوماسيين الروس داخل الاتحاد الأوروبي، في محاولة لتقليص أنشطة الاستخبارات الروسية.
بالتوازي، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عقوبات إضافية على قطاع النفط الروسي، تهدف إلى الضغط على الرئيس فلاديمير بوتين للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
علماً أن روسيا تعتمد على عائدات الطاقة لتغطية أكثر من 40% من ميزانيتها العامة، مما يجعل هذه الإجراءات تهديدًا مباشرًا لتمويل المجهود الحربي.
لكن رغم الضغوط الغربية، لم ينهَر الاقتصاد الروسي بالكامل. فقد ساعد ارتفاع أسعار النفط والمعادن، وتكيّف موسكو مع الأسواق الآسيوية، في الحفاظ على مستوى من الإيرادات يسمح باستمرار تمويل الحرب.
إلا أن الكلفة الداخلية كانت باهظة، حيث تجاوز التضخم مستوى 9%، وزادت أسعار السلع الاستهلاكية بأكثر من 30% منذ 2022، كما تواجه الشركات الروسية نقصاً حاداً في المكوّنات التكنولوجية الغربية، مما شلّ قطاعات مثل الطيران والسيارات والإلكترونيات.
أما خارجيا، فقدّر خبراء غربيون أن روسيا فقدت أكثر من 300 مليار دولار من احتياطاتها الأجنبية المجمدة في أوروبا والولايات المتحدة، بينما يدرس الاتحاد الأوروبي استخدام عائدات هذه الأصول لتمويل المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، وهي خطوة لا تزال تثير جدلاً قانونياً.
ورغم مرور سنوات على الحرب، يبدو أن العقوبات لم تحقق بعد هدفها النهائي بإجبار موسكو على الانسحاب، لكنها نجحت في إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي... حيث تسارعت مساعي أوروبا للاستقلال عن الطاقة الروسية، وارتفع الاستثمار في الغاز المسال الأميركي ومصادر الطاقة المتجددة، بينما تراجعت مكانة روسيا كمصدر رئيسي للطاقة.
في الوقت نفسه، حذّر مسؤولو الاتحاد الأوروبي من أن روسيا قد تستعيد قدرتها العسكرية بحلول نهاية العقد الحالي، ما لم تُعزّز أوروبا قدراتها الدفاعية والاقتصادية.
ومن العقوبات المالية إلى قيود الطاقة والدبلوماسية، تحوّل الصراع في أوكرانيا إلى حرب استنزاف اقتصادية طويلة الأمد.
ومع كل حزمة جديدة، يراهن الغرب على الوقت والضغط الاقتصادي لتغيير سلوك الكرملين، في حين تراهن موسكو على الاعتياد والمناورة للبقاء واقفة وسط العاصفة.