هل رأيتم شخصاً يغضب فجأة وبسرعة لدرجة الانفجار، دون أن يستحق الأمر ردة فعل بهذا الحجم؟
هل شاهدتم كيف يتصاعد غضبه ويتصبب وجهه عرقاً، ويبدأ بالتفوه - متلعثماً أحياناً - بكلام عنيف؟
هل رأيتم الشخص ذاته بعد انتهاء نوبة غضبه الشديد، هادئاً ساكناً ونادماً على ردّ فعله؟
قد تسمعون كلاماً يبرّر غضبه على أنّه جزء من شخصيته أو طباعه، أو أنّ الغضب جزء من عواطفنا كبشر، حين نتفاعل مع حدث أو موقف ما.
لكنّ الطب يشخصّ بعض أعراض نوبات الغضب العارم السريع هذا، على أنه مرض يدعى "الاضطراب الإنفجاري المتقطع".
وقد ينطبق هذا التشخيص على سلوك نَصِفه أحياناً في عبارات نستخدمها كثيراً مثل "ثار غضباً" و"انفجر غضبه".
لكن هل كل نوبة غضب تعني الإصابة بالاضطراب الانفجاري؟ أو أنّ الغضب يمكن أن يكون رد فعل طبيعي وجزء من طباع وسلوك البشر في التعبير عن شعورهم؟
أولى معايير تشخيص الاضطراب الانفجاري المتقطع، هي رد الفعل غير المتناسب مع الموقف. ما يعني حالة الغضب الشديد جاءت تفاعلاً مع سبب قد لا يستحق الاستشاطة غضباً أو الغليان.
قد يقفز إلى ذهننا حوادث راح ضحيتها قتلى نتيجة خلاف على أفضلية مرور، أو على موقف لركن سيارة، أو بعد خلاف حول تشجيع فريق في كرة القدم.
هؤلاء الذي يثورون غضباً إلى درجة التصرف بعنف تجاه الآخرين، ليسوا بالضرورة أشخاصاً كان مزاجهم سيئاً عند حدوث الخلاف.
رئيسة قسم الطب النفسي في مستشفى الجامعة اللبنانية الأمريكية الطبي، جوسلين عازار، تقول إنّ هناك خصائص معينة، سنعرضها بالتفصيل لاحقاً، تقود إلى هذا التشخيص وأنّ المشخصين باضطراب الغضب الانفجاري، يعيشون حياة طبيعية تماماً، ويكون سلوكهم طبيعي طوال الوقت، حتى تعرضهم لنوبة.
تشير أحدث الأرقام التي نشرها موقع "ساينس دايركت" هذا العام، استناداً إلى 29 دراسة شملت 182 ألفاً و112 شخصاً من 17 دولة مختلفة، إلى أنّ نسبة عدد المصابين بالاضطراب الانفجاري المتقطع مدى الحياة بلغت 5.1 في المئة.
ويصنّف الاضطراب الانفجاري المتقطع حالة صحية عقلية تتميز بنوبات مفاجئة عدائية وعنيفة غير متناسبة مع الموقف، وهو مدرج في الدليل التشخيصي والإحصائي الأمريكي للاضطرابات العقلية DSM – 5.
إلا أنّ هناك عوامل قد تؤثر على مسألة التشخيص بشكل كبير. منها الخلط بينه وبين حالات مرضية أخرى - مثل اضطراب الشخصية الحدّية، أو اضطراب ثنائي القطب، وأحياناً اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، بحسب موقع المؤسسة الأمريكية للطب النفسي.
أما السبب البسيط الآخر، فهو عدم توجه كثيرين لطبيب أو أخصائي نفسي بسبب معاناتهم من نوبات غضب.
رئيسة قسم الطب النفسي في مركز الجامعة اللبنانية الأمريكية الطبي، جوسلين عازار، توضح أنه إلى جانب الخلط بينه وبين ظروف صحية أخرى، يأتي الاضطراب الانفجاري على شكل نوبات متقطعة، وقد يأخذ على أنه "جزء من الطبع أو الشخصية".
فعلى سبيل المثال، تقول الدكتورة إنّه عند "حدوث موقف معيّن يستثير ردة فعل انفعالية قوية، غير مبررة عند شخص ما، ثمّ يهدأ سريعاً، يقال إنّ هذا الشخص عصبي، ولا يأخذ بعين الاعتبار أنّ تصرفه قد يؤدي إلى مشاكل في علاقاته".
وتضيف: "إن لم تكن على تماس مع هذا الشخص لوقت طويل، فإنك لن تلاحظ وجود خطب ما. ستعتبر أنّ غضب ذلك شخص عرضي أو لسبب ما تجهله".
من الناحية العلمية، يوصف الغضب بأنّه شعور سلبي أو انفعال يتميز بالتوتر والعدائية نتيجة إحباط أو إيذاء أو ضرر حقيقي يتسبب فيه شخص ما، قد يكون حقيقي أو متخيّل، أو نتيجة الشعور بالظلم أو التهديد، بحسب المؤسسة الأمريكية للطبّ النفسي.
نشرت صحيفة الغارديان مقالاً بعنوان "علم الغضب" عام 2019، يستند إلى أكثر من دراسة علمية، ويشير الى اعتقاد العلماء بأنّ القدرة على الغضب مُبرمجة في الدماغ على مدى ملايين السنين من التطور، وأنّها جزء من غريزتنا لمواجهة التهديدات، والتنافس على الموارد، وفرض الأعراف الاجتماعية. ويضيف أنّ الغضب مُتجذر في دائرة المكافأة في الدماغ.
ودائرة المكافأة في الدماغ هي منطقة تتكوّن من شبكة عصبية، تتحكم بشعورنا بالمتعة وتحفيز السلوك.
وتقول عازار إنه في الواقع، قد يكون الغضب في بعض الأحيان، ليس فقط غضباً عادياً بل "جزءاً من اضطراب في الشخصية".
وفي ما يخصّ الاضطراب الانفجاري المتقطع، تشير الدكتورة عازار، "نحن نتحدث بشكل عام عن ردّ فعل غير متناسب مع الموقف، بما يعني أن الأسباب لا تفسّر رد الفعل".
وتتابع بالقول "لكن في بلد مثل لبنان حيث لم يعد يتحمل معظم سكانه المزيد من الضغوطات، فهم في حالة قلق وقد يكونوا مكتئبين. وفي هذه الحالة قد تكون هذه الأسباب هي التي تدفعهم إلى رد فعل مبالغ فيه وليس إصابتهم بالاضطراب".
ولذلك، يجب فهم السياق الذي يخرج فيه غضب الشخص – بحسب عازار - ويجب فحص ما إذا كان هناك أعراض أخرى قد تشير الى إمكانية معاناة الشخص من اضطراب معيّن، أو أنّ هذه العوارض منعزلة.
وتفسر قائلة: "قد يكون الشخص لا يعاني من اكتئاب أو من أي حالة أخرى ولا يتعاطى المخدرات، لكنه يتعرض لنوبات غضب، وبعيداً عن هذه النوبات تكون حياته طبيعية".
لهذه الأسباب تقول الدكتورة عازار "إنّ المرض ليس معروفاً لكنه شائع جداً". وتشير إلى أنّ الأرقام "قد تصل إلى نسبة 7 في المئة على مستوى العالم".
سهولة الاستثارة، وزيادة التوتر والطاقة، وتسارع الأفكار، وضيق الصدر والغضب، والارتعاش وتسارع ضربات القلب أو الخفقان بشدة وشعور بالوخز؛ هذا ما قد يشعر به من يعاني من الاضطراب الانفجاري المتقطع قبل بدء النوبة.
ذكر موقع مراكز "مايو كلينك" الطبية، أنّ حدّة النوبات الانفجارية اللفظية والسلوكية، تفوق مستوى الموقف بكثير، من دون التفكير في عواقبها.
وبحسب الموقع ذاته يمكن أن تشمل النوبات الانفجارية التصرفات التالية:
نوبة غضب شديد، والتحدث طويلاً بغضب، والجدال الحاد والصراخ والصفع، أو التدافع والمشاجرات الجسدية. كما قد تشمل نوبات الغضب، بحسب المعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية، تخريب أو تحطيم الممتلكات وتهديد الأشخاص أو الحيوانات أو إيذائهم.
هذه النوبات قد تأتي فجأة ومع تحذير طفيف أو دون أي تحذير.
وعادةً ما يشعر الشخص بالراحة النفسية والإرهاق الجسدي بعد النوبة الانفجارية، ولاحقاً يشعر بالذنب أو الندم على تصرفاته، أو بالإحراج من ردة فعله.
وبالرغم من أنّ هذا الأمر طبيعي لدى عدد كبير من الأشخاص، أي شعور بالندم أو الإحراج بعد الغضب، إلا أنّ هذا السلوك معروف أيضاً لدى المصابين بالاضطراب الانفجاري المتقطع.
وتقول الدكتورة إنّ الشخص قد يهدأ الشخص بعد 15 أو 30 دقيقة – قد تستمر النوبة حتى 30 دقيقة - مع شعور بالندم على التصرف، "لكن الإحساس بالذنب، لا يمنع تكرار الفعل أو السلوك".
وتضيف أنّ معايير تحديد أعراض الحالة، نشرت في كتاب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية.
وتشير الى أنه "يجب أن يكون هناك نوبتين على في الأسبوع على مدى ثلاثة أشهر لكي نقول إن هناك خلل ما، أو على الأقل ثلاث نوبات شديدة خلال 12 شهراً، كي نقول إنّ الحالة موجودة فعلاً ويجب معالجتها".
تتعدد أسباب المعاناة من الاضطراب الانفجاري المتقطع، وقد تتخطى الأسباب البيولوجية إلى أسباب اجتماعية تتعلق بالظروف والبيئة التي يعيش فيها الشخص، وقد تكون بعض الأسباب جينية.
وأهم ما تجمع عليه الدراسات حول الاضطراب الانفجاري، هي الصدمات وحالات الاستغلال والإساءة الجسدية في الطفولة، أو التنمر والمرور بأحداث وتجارب مؤلمة وصادمة.
كما يتأثر الشخص بالبيئة والظروف العائلية التي يعيشها. إذ تقول عازار إنّ وجود طفل على سبيل المثال، في منزل يصرخ فيه الأهل باستمرار، يؤثر بلا شك على إمكانية معاناته من هذه الحالة.
وقد تكون الأسباب طبية بيولوجية بحت، مثل خلل في وظائف الدماغ، وفق ما توضح الدكتورة عازار، أو أمراض عصبية وعقلية أخرى مثل الاكتئاب والحالات المرضية التي ذكرناها.
وتشير الدراسات إلى دور للمخدرات والكحول في تفاقم الحالة.
اللوزة الدماغية (أميدغالا) Amygdala، هي الجزء المسؤول في دماغنا عن معالجة المشاعر لا سيما الخوف والقلق، وهي تربط العواطف بالذاكرة.
هذا الجزء الذي يشبه حبة اللوز المستلقية في أسفل دماغنا، تظهر استجابات وتفاعلات أكبر مع محفزات الغضب لدى ذوي الاضطراب الانفجاري المتقطع، مقارنة مع باقي الأشخاص. وهذا ما أظهرته تقنية التصوير العصبي بالرنين المغناطيسي في دراسة نشرها موقع "ساينس دايركت" عام 2016.
وذكر الموقع أنّ اللوزة الدماغية تكون مفرطة النشاط في حالة الاضطراب الانفجاري المتقطع. أي أنها تُظهر استجابة مبالغ فيها، خاصةً للوجوه الغاضبة أو التهديدات الاجتماعية الأخرى، مما يؤدي إلى تفاعل عاطفي متزايد.
كما هناك دور للسيروتونين، وهو ناقل عصبي وهرمون مسؤول عن الحالة المزاحية والنوم والشهية والهضم وحالات أخرى.
ففي دراسة نشرها مركز المعاهد الوطنية الطبية في الولايات المتحدة، إشارة إلى تغيّر وظيفة السيروتونين لدى من يعانون من الاضطراب الانفجاري، الأمر الذي يؤدي إلى خلل في الدوبامين (هرمون السعادة والتحفيز) مما يسبب سلوكاً عدوانياً.
وتوجد علاقة بين السيروتونين واللوزة الدماغية، حيث يساعد السيروتونين على تنظيم دور اللوزة الدماغية في الاستجابات العاطفية.
وتشير الدراسات، أحدها من جامعة كامبريدج عام 2011، وموقع ساسينس دايركت في 2016، إلى أن المصابين باضطراب الانفجار المتقطع يعانون غالباً من فرط نشاط اللوزة الدماغية، وانخفاض مستويات السيروتونين.
نوبات الانفجار غضباً المتكررة قد تؤثر على الجسد على المدى البعيد، وهي قد تسبب الإصابة بالجلطة أو أمراض القلب أو داء السكري وغيرها من المشكلات.
لكنّ تداعياتها ليست صحية فحسب. فهناك مشاكل قانونية قد يتعرض لها المصاب عند دخوله بنوبات الغضب الشديدة، فقد يتورط في أذية أحدهم، أو تدمير ممتلكاته أو إساءته لفظياً.
ويؤثر الاضطراب الانفجاري المتقطع على العلاقات بين الأشخاص، وقد يختار الناس الابتعاد عن شخص شديد وسريع الغضب، ومفاجئ في ردات فعله.
وسيكون المحيط القريب من الشخص أو أفراد أسرته هم الأكثر تأثراً.
تقول الدكتورة عازار: "نحن لا نتحدث عن مجرد غضب، بل عن رد فعل غير مقبول وخارج السيطرة".
وتتابع: "حين تفلت الأمور، ليس هناك عودة إلى الوراء، لن يستطيع الشخص التحكم بمشاعره".
تقول عازار إنه يجب نشر الوعي حول هذا الاضطراب، ويجب استشارة اختصاصي عند ملاحظة الأعراض التي ذكرناها. وتؤكد أنّ أفراد العائلة هم أكثر من يمضي وقتاً مع الشخص، وهم من يمكنهم ملاحظة تكرار هذه النوبات وعددها ودرجاتها.
تتابع قائلة إنّ من يعاني من الاضطراب الانفجاري المتقطع، عادةً ما يكون سهل الاستفزاز والاستثارة، ولا يحب مقاطعته أو تشتيته: "قد تزداد عصبيته حين يُقال له إهدأ".
وتنصح معظم الدراسات عائلة المريض بإعطائه مساحة للتعبير دون مقاطعة، وبتحديد محفزات الغضب والعمل على تجنبها، وعدم لومه على ردات فعله.
كما تنصح أفراد الأسرة بالحفاظ على هدوئهم وباستشارة أخصائي وإعطاء الأولوية لسلامتهم ولعلاج الشخص المصاب.
هناك أكثر من طريقة لعلاج حالة الاضطراب الانفجاري المتقطع.
تقول عازار إن الإقبال اليوم على الأطباء والمعالجين النفسيين أصبح أعلى من قبل.
ويفضّل الناس عادة الذهاب إلى معالج نفسي لتجنب أخذ دواء. مع الإشارة إلى أنّ هذا المسار قد يكون أكثر تكلفة نسبة إلى جلسات المعالجة والمتابعة لمدة عام على الأقل.
لكن الأهم بالنسبة للدكتورة عازار، هو معرفة اختيار المعالج النفسي وطريقة المعالجة التي تناسب المريض.
وهناك عدة طرق للمعالجة مثل علاج السلوك المعرفي السلوكي، وتقنيات الاسترخاء والتنفس والابتعاد عن محفّز الغضب.
إلا أنّ الحالات التي تبلغ درجات أعلى من المرض أو التي تتضمن نوبات شديدة ومتكررة، قد تستدعي الذهاب إلى طبيب نفسي.
توضح الدكتورة عازار إنه "في حال كان هناك حاجة إلى دواء، فيجب تناوله".
وقد تتضمن هذه الأدوية مضادات الاكتئاب ومثبتات المزاج.