لم يكن اكتشاف تجمع فريد لأبقار البحر في موقع المسحبية الأحفوري جنوبي غربي قطر إنجازا علميا محليا فحسب، بل يعد اكتشافا بالغ الأهمية على المستوى الدولي، فإلى جانب كونه أقدم وأغنى تجمع أحفوري معروف لهذه الكائنات الثديية البحرية التي عاشت على مدى ملايين السنين تتغذى على أعشاب البحر وتلعب دورا بيئيا محوريا، شهد الموقع أيضا توثيق نوع جديد منها للمرة الأولى، مما يمنح الاكتشاف، الذي تم الإعلان عنه قبل أيام في دراسة نشرت بدورية "بير جيه"، قيمة علمية.
وتكمن أهمية الاكتشاف الأعمق فيما يحمله من دلالات ذكرتها الدراسة بأن موقع الاكتشاف ليس مجرد تجمع أحفوري، بل هو سجل محفوظ لنظام بيئي بحري متكامل يعود إلى ما يقرب من 21 مليون عام.
وانطلاقا من هذا الزخم العلمي، والاهتمام الواسع في الأوساط البحثية الذي أثاره هذا الاكتشاف الذي تم بالتعاون بين متاحف قطر والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، التابع لمؤسسة سميثسونيان الأميركية، أجرت "الجزيرة نت" حوارا مع الدكتور نيكولاس باينسون، أمين قسم أحافير الثدييات البحرية في متحف مؤسسة سميثسونيان والباحث الرئيسي بالدراسة، للوقوف على خلفيات الاكتشاف وأبعاده العلمية، وما الذي تخبرنا به حفريات الماضي عن مستقبل الخليج العربي وبيئته البحرية.
دليلنا هو أننا لم نعثر على أبقار البحر القديمة فحسب، رغم أنها تُشكل الغالبية العظمى من الأحافير المكتشفة، بل وجدنا أيضا أدلة على وجود دلافين منقرضة، وأقارب قدامى لأسماك الباراكودا، إضافة إلى السلاحف البحرية. ورغم أن أيا من هذه الكائنات لا ينتمي إلى أنواع حية اليوم، فإنها كانت تؤدي قبل 21 مليون سنة أدوارا بيئية مشابهة لتلك التي نراها حاليا داخل مجتمعات أعشاب البحر.
العديد من خصائص الكثافة العالية لعظام أبقار البحر في طبقة المسحبية لا تدعم فرضية حدوث نفوق جماعي واحد، فعلى سبيل المثال، تأتي العظام من طبقات مختلفة ضمن وحدة صخرية يبلغ سمكها نحو 50 سنتمترا، مما يُرجح أنها تمثل فترة زمنية تمتد لنحو 10 آلاف عام قبل حوالي 21 مليون سنة، وقد تبدو هذه المدة طويلة من منظورنا البشري، لكنها قصيرة نسبيا وفق المعايير الجيولوجية.
إضافة إلى ذلك، لم نعثر على هياكل عظمية كاملة ومترابطة، كما أن نحو 95% من العظام تُظهر درجات طفيفة من التآكل، وبعضها مغطى بترسبات محار. وتشير هذه السمات مجتمعة إلى أن العظام تراكمت تدريجيا عبر الزمن، مما يدعم تفسير الموقع باعتباره منطقة استيطان طويلة الأمد، أو "نقطة جذب" لأبقار البحر القديمة، ولهذا النوع من الاستيطان نظائر حديثة قبالة سواحل قطر والبحرين والسعودية، حيث تعيش اليوم قطعان "الأطوم" في الخليج العربي.
الهيكل العظمي المرجعي، أو ما تعرف بـ"العينة النموذجية" لهذا النوع الجديد، يعود إلى فرد بالغ، ويتضح ذلك من التحام عظام الجمجمة، مما يؤكد أنه ليس صغير السن، كما رصدنا سمات فريدة في الجمجمة، لا سيما في سقف القحف وجوانب الجمجمة والمنطقة المحيطة بمحجر العين، وهي خصائص مكنتنا من تشخيص هذا النوع الجديد وإثبات اختلافه عن جميع أنواع أبقار البحر الموصوفة سابقا، سواء الأحفورية أو الحديثة.
إضافة إلى ذلك، كان من السهل تمييز هذا النوع الجديد عن الأطوم الحالي من خلال وجود أطراف خلفية صغيرة تشبه الأيدي، وقد أعدنا بناءها لتبدو كزعانف صغيرة، أما أطوم اليوم، فقد فقدَ هذه العظام تماما، مثلما حدث لدى الحيتان، نتيجة مسار تكيفي استمر ملايين السنين.
تُظهر كثافة الأحافير في موقع المسحبية تشابها ملحوظا مع كثافة حالات جنوح الأطوم المسجلة اليوم في شمالي غربي قطر، وبالاستناد إلى شكل الأنياب والخطم نرى أن "سلواسيرين قطرانسيس" كان يؤدي دورا بيئيا مشابها بوصفه مهندسا لأنظمة أعشاب البحر خلال العصر الميوسيني المبكر، فأثناء التغذية عليها تحفر مسارات في القاع الرملي أو الطين، وهذه التحركات تحرر المغذيات المدفونة في الرواسب، مثل الفوسفور والنيتروجين، فتصبح متاحة للنباتات والحيوانات الأخرى، وتُسهم هذه الأنشطة في تنشيط التربة البحرية، وزيادة تنوع الكائنات الحية، والحفاظ على صحة النظام البيئي.
إضافة إلى ذلك، كان لدى "سلواسيرين قطرانسيس" خطم منحن بشكل خفيف مزود بأنياب صغيرة، في حين يتميز أطوم اليوم بخطم شديد الانحناء يشبه شكل البوميرانغ (أداة يدوية تقليدية، غالبا خشبية، تشتهر بشكلها المنحني وتعود أصولها إلى الثقافات الأسترالية الأصلية) مع أنياب رفيعة بحجم الأصابع.
وفي بعض أنواع أبقار البحر الأحفورية الأخرى، بما في ذلك أنواع عُثر عليها في طبقات صخرية معاصرة في الهند، كانت الأنياب أكبر بكثير وحادة تشبه نصل الإزميل، وليس من المستغرب أن تمتلك أبقار البحر أنيابا، نظرا لقرابتها الوثيقة من الفيلة لكنها تخلت عن الحياة البرية وانتقلت إلى البحر قبل نحو 50 مليون سنة.
هذا سؤال مهم، لكن من الصعب تقديم إجابة قاطعة نظرا لعدم توفر بيانات دقيقة حول درجة حرارة المياه وملوحتها خلال العصر الميوسيني المبكر، غير أن الخلاصة الأساسية التي توصلنا إليها هي أن هذه المنطقة من العالم ظلت موطنا مثاليا لأبقار البحر طوال الـ21 مليون سنة الماضية، مع اختلاف الأنواع التي شغلت هذا الدور عبر الزمن.
كما تُظهر الأحافير أن "سلواسيرين قطرانسيس" تقاسم موطنه مع كائنات بحرية فقارية أخرى من العصر الميوسيني المبكر، من بينها أسماك القرش وأسماك شبيهة بالباراكودا ودلافين منقرضة، وربما سلاحف بحرية أيضا، ولا نزال نعمل على تحديد هويتها بدقة، على أمل وصفها علميا في دراسات لاحقة.
والمثير للاهتمام أن جميع هذه الأنواع الأحفورية منقرضة اليوم، وقد حلت محلها في الخليج العربي أنواع أخرى غير مرتبطة بها، وبعبارة أخرى شهدت المنطقة تغيرا كاملا في اللاعبين، لكن الأدوار البيئية بقيت ثابتة.
لا أعتقد أن أحافير المسحبية توفر مؤشرات إنذار مبكر مباشرة حول العتبات البيئية أو التحديات التي تواجه أنظمة أعشاب البحر الحديثة، فهذه العتبات تحتاج إلى قياسات دقيقة، بينما تبقى بياناتنا المستمدة من الماضي الجيولوجي أقل دقة من حيث التفاصيل.
لكن في المقابل تُبرز نتائجنا القدم التاريخي لهذا النمط البيئي في الخليج العربي، فقد يكون تجمع عظام موقع المسحبية خلال ذروة في التنوع الحيوي البحري في العصر الميوسيني المبكر، وكانت متمركزة فوق الدرع العربي، بعدما انتقل مركز التنوع الحيوي البحري تدريجيا من أوروبا قبل عشرات الملايين من السنين إلى موقعه الحالي في أرخبيل الهند/أستراليا.
وبعبارة أخرى، تفتح هذه الأحافير نافذة على فترة كان فيها إقليم الجزيرة العربية مركزا عالميا للتنوع الحيوي البحري.
سنتابع هذه الدراسة بورقة ثانية تتناول "سلواسيرين قطرانسيس" بمزيد من التفصيل، إذ لدينا المزيد من الأحافير التي تُظهر تفاصيل تشريحية إضافية ستقدرها التخصصات العلمية وتجدها مفيدة. وكما ذكرت سابقا، هناك أنواع أخرى من هذه الوحدات الصخرية، بما في ذلك سلاحف منقرضة وحتى تمساحيات قديمة، ونخطط أنا وزملائي لوصفها في دراسات مستقبلية.
في النهاية، نريد مقارنة النتائج على نطاق أوسع في الخليج، لأن الصخور التي تحوي تجمع عظام المسحبية منتشرة على نطاق واسع عبر الخليج من السعودية إلى عمان، وهذه الصخور تعكس بيئة ساحلية مشابهة من نفس الحقبة، مما يعني أنها كانت جزءا من نفس الساحل، فلن نستغرب العثور على المزيد من أنواع أبقار البحر وربما حتى "سلواسيرين قطرانسيس" في مناطق أخرى من الإقليم، لأن أحافير أبقار البحر غالبا ما تُوجد ضمن مجموعات تحتوي على عدة أنواع، ونعتقد أن المزيد من الحفريات في تجمع عظام موقع المسحبية قد يكشف عن أنواع إضافية من أبقار البحر.
شدد زملائي من متحف قطر على أن الجزء الأهم من تعاوننا هو ضمان إجراء أبحاث عالية المستوى مع توفير أفضل حماية وإدارة ممكنة لهذه المواقع، لنتمكن من الحفاظ عليها للأجيال القادمة. وقد حققنا بالفعل هذه الخطوة على المستوى الوطني من خلال حماية المسحبية، والآن يخططون للارتقاء بها خطوة أخرى عبر السعي لترشيحها مستقبلا لتصبح موقعا للتراث العالمي لليونسكو للاعتراف الأوسع.
بالنسبة لي الجزء المثير هو أنه مع الحماية يمكننا التأكد من إمكانية الإجابة يوما ما عن أسئلة حول التغيرات الطويلة الأمد في التاريخ البيئي للخليج العربي. لقد بدأنا للتو أولى خطوات فهم السجل الأحفوري للخليج، ونعلم أن الباحثين في المستقبل يمكنهم الإجابة عن أسئلة لم نفكر بها حتى الآن، إذا توفرت لهم مثل هذه الأحافير والمواقع للدراسة.
إنه لشرف وامتياز أن أعمل كعالم في قطر إلى جانب زملاء تتركز مسؤولياتهم على الحفاظ على التراث ومشاركته. بالنسبة لي، تكون التعاونات الدولية أكثر إرضاء عندما تدعم الأبحاث الحفاظ على التراث الطبيعي بينما تبني أيضا القدرات العلمية، خاصة من خلال مجموعات المتاحف، سواء الأجسام الحقيقية أو النسخ الرقمية. لدى مؤسسة سميثسونيان مهمة مزدوجة في إنتاج المعرفة ومشاركتها، وأنا متحمس جدا لأداء هذا العمل بالشراكة مع زملائي.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة