في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
رام الله- يظهر "موسى" على شكل شخصية كرتونية بملامح شبابية بريئة في مقاطع فيديو قصيرة ممولة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، ويقوم بـ "ارتكاب أخطاء" في نظر الاحتلال الإسرائيلي، لينتهي به المطاف خلف القضبان. ويُختم المقطع بعبارة تحذيرية تقول "لا تكن مثل موسى".
هذه ليست حملة توعية مجتمعية، بل هي واحدة من أحدث وأشهر أدوات جهاز المخابرات الإسرائيلي " الشاباك " التي اجتاحت هواتف الفلسطينيين مؤخرا.
ويختصر هذا المقطع البسيط التحولات في طرق استهداف الفلسطينيين؛ فعلى مدار سنوات، لم يعد جهاز المخابرات الإسرائيلي يكتفي بظلاله الثقيلة في غرف التحقيق المظلمة والمعسكرات، بل سعى لتوسيع حضوره في الفضاء الرقمي، مستغلا كل مساحة ممكنة لتوجيه رسائله للفلسطينيين، والتأثير على وعيهم الجمعي، ومحاولة تطويعه بما يخدم سياساته.
لا تبدو بعض الصفحات على موقع فيسبوك كأنها صادرة عن جهاز أمني، فخطابها يأتي بلغة التعاطف والحرص على العائلة والمستقبل، لكن خلف هذه العبارات الناعمة، تتحرّك رسائل موجّهة بدقة إلى الفلسطينيين، تحمل بصمات جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك".
فقد تحول تعامل أدوات هذا الجهاز من "الخشونة الأمنية" إلى "التواصل الناعم والشخصي"؛ فيطلّ "كابتن راضي" أو "كابتن آدم" مثلا بمنشورات ممولة تدعو لدردشة عابرة، في محاولة لتحويل ضابط المخابرات من "عدو في الذاكرة الفلسطينية" إلى "صانع محتوى" أو "عنوان للحل" عبر وسائل التواصل لدى الباحثين عن عمل أو تحويلة طبية وغيرهم.
وبالتوازي مع ذلك، توزع قوات الاحتلال خلال اقتحاماتها اليومية للمدن والبلدات الفلسطينية بطاقات تحتوي على أرقام تواصل وعناوين منصات خاصة بضباط المخابرات، لتسهيل الوصول المباشر إلى السكان.
يقول الإعلامي والمختص في الأمان الرقمي سعيد أبو معلا إن "الهدف من هذا الوجود يتجاوز النشر، ليصل إلى كسر الحواجز النفسية مع الجمهور، وتطبيع متابعة ضابط المخابرات أو التواصل معه".
ويشير إلى أن هذا النمط من التواصل الشخصي هو امتداد لما تقوم به صفحة "المنسّق"، في إشارة لحساب منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنه "قد يفضي إلى ضغط اقتصادي، ومحاولات إسقاط، وصناعة رأي عام فلسطيني مزيف مناهض للمقاومة".
ويشير أبو معلا -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن "خطورة هذا المحتوى لا تكمن فيه بحد ذاته، بل في غياب التوعية والتعبئة الوطنية المقابلة، لا سيما لدى الفئات العمرية الصغيرة والمراهقين، الذين قد ينجذبون إلى الرسوم الثلاثية الأبعاد والمؤثرات البصرية، دون إدراك منهم أن الجهات التي تقف خلفها أجهزة أمنية إسرائيلية، تخوض حربا نفسية ضد الفلسطينيين".
ويضيف أن "هذه الصفحات تعتمد على أساليب بصرية بسيطة لكنها مؤثرة، مثل الرسوم ثنائية وثلاثية الأبعاد، لتبسيط الرسائل وتسريع وصولها إلى جمهور واسع".
ويلفت أبو معلا إلى أن تأثير هذا النشاط الرقمي سياسي أكثر منه أمني، "إذ يروّج لرسائل تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني والتأثير على المواقف من المقاومة والأسرى والثوابت الوطنية".
كما تسعى هذه الصفحات -وفق الإعلامي أبو معلا- إلى خلق صورة مزيفة عن الرأي العام الفلسطيني، تُضعف الثقة بالصمود، وتلمّح إلى الهجرة كحل، بما يخدم أهداف الاحتلال في التغيير الديمغرافي والنفسي والسياسي.
توضح نداء بسومي -الباحثة بمركز "صدى سوشال" المتخصص في رصد وتحليل النشاط الرقمي- أن هذا النشاط يأتي على شكل حسابات يديرها إسرائيليون بهويات معلنة تنشر باللغتين العبرية أو العربية، وتبث خطاب كراهية مباشر ضد الفلسطينيين.
وتشير أيضا إلى وجود حسابات أخرى ناطقة بالعربية تُدار من جهات إسرائيلية مصممة لتبدو وكأنها تعود لأشخاص عرب، إضافة إلى الحسابات الوهمية أو "البوتات" وهي برمجيات تُدار بالكامل بالذكاء الاصطناعي دون وجود أشخاص حقيقيين، لتنفيذ مهام سريعة كزيادة التفاعل.
وتلفت بسومي -خلال حديثها للجزيرة نت- إلى أن الهدف الأساسي لهذه الحملات هو "تضليل وإعادة تهيئة الرأي العام"، مشيرة إلى أنه خلال الحرب الأخيرة على غزة كان يُلاحظ، قبل كل استهداف لمستشفى أو صحفي، وجود حملة عبر هذه الحسابات تصف الشخص بالإرهاب أو المكان بأنه قاعدة عسكرية أو يحتوي على أنفاق.
وتفصّل بسومي آليات التضليل التي يستند إليها الاحتلال وأجهزة مخابراته في الفضاء الرقمي، بأنها:
من ناحيته، يشير الباحث الأكاديمي إيهاب عوايص إلى أن هذا الوجود الرقمي جزء من الحرب النفسية الحديثة، إذ تتفاعل مع الخصم الفلسطيني أو العربي من دون حواجز سيطرة أو رهبة، وتستخدم أنماطا مدروسة قادرة على اختراق المتلقي عبر استغلال نقاط ضعفه الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية.
ويلفت عوايص إلى أن "هذه الصفحات تُصمّم بما يتلاءم مع طبيعة الجمهور المستهدف، بهدف زعزعة الأفكار المقاوِمة، ثم الاختراق التدريجي، وصولا إلى زرع أفكار تتماشى مع السردية الإسرائيلية، مما يؤدي إلى ما يشبه التجنيد التلقائي، أو تطبيع سرديات الاحتلال وتحييد الرفض الشعبي".
ويبيّن عوايص أن الاحتلال يدير صفحات لإعادة تشكيل الوعي الفلسطيني والتأثير على الموقف الشعبي، مشيرا إلى أن "العبء الأكبر لا يقع فقط على الصفحات الرسمية أو الوهمية، بل على مؤثرين معروفين وأصوات تتقاطع مع خطاب الاحتلال".
ويختم عوايص بالقول إن "الجمهور الفلسطيني يمتلك حسا فطريا وقدرة سريعة على تحليل اتجاه المعلومة، وغالبا يميّز إذا ما كانت تخدم المحتل أو المقاومة، غير أن ذلك غير كافٍ لمواجهة الجهد الإسرائيلي"، موضحا أن حس الجمهور عفوي، "بينما تقوم دعاية الاحتلال على جهد ممنهج ومدروس ومنظم، مما يمنحها قدرة أكبر على الاستمرارية والتأثير".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة