آخر الأخبار

الحرب في السودان: خيم النازحين في الدبة تروي قصصاً عن معاناة الفاشر

شارك
مصدر الصورة

تنتشر الخيام البيضاء على مدّ البصر في رقعة جغرافية تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل في منطقة العفاض، التي تبعد نحو 15 كيلومترًا عن مدينة الدبة شمالي السودان.

وقد خصّصت السلطات المحلية هذه المنطقة لتكون مخيمًا للنازحين الفارين من مدينة الفاشر بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

يُقام يوميًا عدد جديد من الخيام في ظل التدفق المستمر للنازحين الذين يصلون إلى المخيم بعد رحلة شاقة تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، هي المسافة الفاصلة بين الفاشر والدبة.

وقبل وصولهم إلى المخيم، يُستقبل النازحون في محطة المواصلات العامة المعروفة باسم "محطة مليط" حيث تجرى لهم إجراءات التسجيل والفحوصات الطبية في عيادة صغيرة، وتقدم لهم وجبات غذائية، قبل أن ينقلوا بواسطة شاحنات إلى المخيم على دفعات.

لاحقًا، علمتُ أن هناك أكثر من موقع في مدينة الدبة يُخصَّص لاستقبال القادمين من الفاشر، باعتبارها أقرب وأكبر مدينة تربط بين دارفور وشمالي السودان.

"لا أصدق أننا نجونا"

خلال وجودي في مخيم العفاض، صادفتُ وصول شاحنة تحمل العشرات من الفارين، كان معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، بينما كان عدد الرجال قليلاً جدًا.

بدت على وجوههم علامات الإرهاق الشديد، ومع ذلك، كانت تبدو على ملامحهم مسحة من السعادة، إذ وصلوا أخيرًا إلى مكان آمن بعد أشهر من الخوف والجوع والعنف في مدينتهم التي سقطت تحت سيطرة قوات الدعم السريع شبه العسكرية.

كانوا يحملون ما تبقّى لهم من متاع قليل، مُصلّى، ومصاحف تراثية كبيرة الحجم، وأوعية بسيطة لحفظ الماء، وحقائب بلاستيكية تضم ملابس بالية.

عبر أبكر عبد الله، البالغ من العمر 70 عامًا، الساتر الترابي المؤدي إلى المخيم بصعوبة بالغة، وهو يتوكأ على عَصَوين، وما أن وصل إلى خيمته المخصصة لأسرته حتى أجهش بالبكاء، وقال وهو يحاول التماسك: "لا أصدق أننا نجونا ووصلنا إلى هنا، هذا أمر عظيم... لا أسمع أصوات القذائف ولا الرصاص، ولا أشاهد الجثث... لقد كُتبت لي حياة جديدة هنا".

مصدر الصورة

قصص مروعة

تجوّلت بين الخيام البيضاء المنتشرة في المكان. النساء والأطفال يجلسون خارجها تحت لهيب الشمس الحارقة.

كل خيمة تروي قصة مختلفة، لكنها تشترك جميعًا في عناوين واحدة: المآسي، والهلع، والرعب، والموت، والجوع، وفقدان الأحبة.

التقيتُ بـعبد الله، وهو أب لثلاثة أطفال، تمكن من الفرار بعد يوم واحد فقط من سقوط الفاشر.

قال وهو يغالب دموعه إنهم ظلوا تحت الحصار لما يقارب العامين: "كانت الميليشيات تستهدف الناس بشكل ممنهج، وكان القتل يتم بناءً على التصنيف القبلي. كانوا يقتلون الرجال، ويغتصبون النساء، ويعذبون الأطفال بلا رحمة".

وأضاف أنه تمكن من الهروب بأعجوبة، إذ خرج ليلًا مع أطفاله حتى تجاوز حدود المدينة، ثم استقل عربة تجرها الدواب إلى منطقة طويلة، ومنها إلى مدينة الدبة في رحلة استغرقت خمسة أيام.

""عندي أخوي شقيق كان بيساعدني وكويس معي ومع أولادي، اتفقد مع الناس، الآن مفقود وما عارف وين. بالليل أتذكرهم، كيف حصل ليهم كده... فقدت كثيرا من جيراني، ربنا يرحمهم. في الطريق وقفوني قالوا لي امشي مع الناس، وسألني واحد: (إنت جيت هنا ليه؟)، وضربني بالسوط... ثلاث سوط".

أما أميمة، التي وصلت إلى الدبة مع أطفالها، فتقول إنها نجت وأسرتها من الموت بأعجوبة. وتقول السيدة البالغة من العمر 45 عامًا، إنها فقدت زوجها وهي تُعاني من داء السكري الذي تسبب في تقرحات مؤلمة في قدمها.

"في الطريق كانت الجثث منتشرة، وفي الفاشر أرواح كثيرة راحت ومآسي لا تنتهي. كانوا يدخلون البيوت يقتلون ويحرقون ويغتصبون. الدانات حرقت البيوت وقتلت الناس. كنا عايشين في الخنادق، من الصباح للمساء القصف لا يتوقف. عندي ولدي مصاب وبنتي تفقد الوعي ساعات طويلة من الخوف".

تطابقت شهادات أميمة وعبد الله وغيرِهما من الفارين مع ما أكدته منظمات حقوقية عن احتجاز قوات الدعم السريع لآلاف المدنيين في الفاشر وارتكابها انتهاكات واسعة.

وقد أقرّ قادة هذه القوات بوقوع تجاوزات من بعض أفرادها، وأعلنوا تشكيل لجان للتحقيق.

ظلت قوات الدعم السريع تحاصر الفاشر، آخر معقل للجيش السوداني في دارفور، لأكثر من عامين وسط معارك ضارية.

واتهم الطرفان المتحاربان بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين.

وأكدت المحكمة الجنائية الدولية أن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع عقب سقوط الفاشر ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأعلنت أنها بصدد التحقيق فيها.

مصدر الصورة

مزار سياسي

وفقًا لمسؤولين محليين، وصل أكثر من سبعمائة أسرة إلى المخيم بعد سقوط الفاشر.

ومن المتوقع أن يزداد العدد مع استمرار تدفق النازحين يوميًا.

في الأجزاء الشمالية من المخيم، توجد مبانٍ من القش تؤوي نازحين من دارفور وصلوا قبل أكثر من عام واستقروا هناك.

ورغم أن المخيم أُنشئ لاستقبال النازحين وتقديم المساعدات الإنسانية، فقد تحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه المزار السياسي الذي تُعرض فيه المواقف والشعارات السياسية.

فكثير من قوافل المساعدات التي تصل إلى المكان ترافقها سيارات تحمل مكبرات صوت ولافتات سياسية، ويردد مرافِقوها هتافات تدعو إلى مواصلة القتال حتى تحقيق النصر الكامل.

يُعد قادة التنظيمات العسكرية الموالية للجيش، مثل المقاومة الشعبية والمستنفرين، الأكثر حضورًا في المخيم، حيث يقدمون المساعدات بالتعاون مع السلطات المحلية.

ووصل إلى المخيم رئيس حركة العدل والمساواة ووزير المالية السوداني جبريل إبراهيم برفقة عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين.

كانت لحظة وصوله مؤثرة، باعتباره قائدًا لإحدى أبرز الفصائل المسلحة التي قاتلت إلى جانب الجيش في الفاشر قبل أن تسقط بيد قوات الدعم السريع.

وأثناء جولته في المخيم، سأله الصحافيون عن الهدنة المقترحة بين الجيش وقوات الدعم السريع لإيصال المساعدات، فأجاب بنبرة غاضبة:

"لا هدنة ولا تفاوض مع الدعم السريع. الشعب السوداني ليس في مزاج الهدن الآن. سنرد الصاع صاعين، ولدينا استعدادات عسكرية لاستعادة الفاشر وكل الأراضي المغتصبة".

من جانبهم، قال قادة للدعم السريع إنهم سيعملون على توفير كل مقومات المعيشة إلى سكان مدينة الفاشر، من مياه وطعام وتوفير الأمن.

مصدر الصورة

مبادرات محلية

اللافت أن هناك العديد من المبادرات الشعبية التي أطلقها سكان مدينة الدبة والمناطق المجاورة لتقديم الدعم والمساعدة للنازحين.

بعض الأهالي يقدمون وجبات جاهزة، وآخرون يساهمون بالمواد الغذائية ومياه الشرب.

تقول طيبة عبد الله، البالغة من العمر نحو 60 عامًا، وقد جاءت من داخل المدينة لتوزيع الطعام: "جيت هنا أقدّم المساعدة.. أنا ما بعتبرهم نازحين، هم ضيوف علينا.. أهل الفاشر كرام ويستحقوا حياة كريمة".

وتعمل منظمات دولية ومحلية على توفير الدعم، لكنها تشكو من نقص التمويل.

وقالت مديرة منظمة الهجرة الدولية، إيمي بوب، لـبي بي سي إن هنالك حاجة ملحة لوقف الحرب وتقديم المساعدات بشكل عاجل.

"النازحون هنا في حاجة ماسة إلى الغذاء والمأوى والرعاية الصحية. أولويتنا توفير الاحتياجات الأساسية، لكن حجم الاحتياجات أكبر بكثير من الموارد المتاحة. أُناشد دول العالم بالمساعدة في تحقيق السلام وتوفير الموارد اللازمة لدعم هؤلاء النازحين".

وأضافت أن السودان يمثل اليوم أكبر أزمة نزوح في العالم.

بعد كل ما مرّ به عبد الله وغيره من النازحين من مآسٍ وانتهاكات وتجارب قاسية أثناء هروبهم وبعده، لا يزال الأمل يحدوهم بالعودة إلى مدينتهم واستئناف حياتهم من جديد، حين تضع الحرب أوزارها.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا أمريكا اسرائيل مصر حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا